الدكتور عبدالرحمن محمد محمود الجبوري

أ‌-    مدخل في التأويل :

    لا يختلف الباحثون في النشأة الدينية للهرمينوطبقا , أو ما يسمى ( فن التأويل ) كما يترجمه البعض , وأن نشأة التأويل تعود أساساً إلى محاولة فهم النص الديني المسيحي ؛ فقد كان لعامل التباعد اللغوي , ومعنى الكلمة في أصل وضعها , ومـا كانت تشيـر إليه فـي القديم ,وكذا الاعتقاد بوجود معنىً خفي وراء المعنى السطحي الظـاهر , ولانعـدام الثقة بالقراءة الواحدة ؛ كل هذه العوامل – كما يرى الدكتور حامد نصر أبو زيد – كان لها دور كبير في نشأة التأويل هذه النشأة الدينية (1) .

   ومع إطلالة القرن الماضي شهد العالم تحولات كبيرة في كافة الصُعُد والميادين العلمـية منها والإنسانية , وتعرض العقل البشري لهزات عنيفة , فقد أفرزت كشوفات ( فرويد ) في اللاوعي وضعاً جديداً هزّ أركان علم النفس التقليدي آنذاك ؛ إذ تَبَيّنَ أن السلوك الإنساني لا يصدر في مُعظمه عن العقل .

كما شهدتْ الميادين الأخرى من العلوم الطبيعية كالفيزياء , والكيمياء تحوّلاً كبيراً باكتشاف النظرية النسبية , حيث تلاشى مفهوم الزمـان والمكـان المُطلقين ليحل محلّهما النسبي وتراجع (2) مفهوم الضرورة أو الحتمية أمام الاحتمالية , وبلغ ذروته في مبـدأ ( اللايقين ) الذي تَبَنّاه العالم ( إيزنبرغ ) , وكانت التحولات الكبرى في علم الاجتماع لا تقل أهمية عن كل ذلك , فقد تراجع المفهوم التقليدي للعقل ؛ إذ أحدث العالم ( ديلتي ) ثورة حقيقية في هذا المجال عندما دعا إلى توظيف قدرة الإنسان للتقمص  المُتعاطف لحالات الآخـرين ,  وأفعالهم , وفهمها من الداخل , وكان ذلك بمثابة استدعاء أول للمنهج التأويلي في النقد الأدبي على حساب النموذج القطعي في العصر الحديث (3) .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

  على إن ذلك لا يعني أن فن التأويل ظاهرة مُستحدثة في تأريخ الأدب والفنون ؛ إنما هو يمتد إلى المُعلم الأول ( أرسطو )  القائل : (( إن في كل كلام تأويلا ,  من جهـة أن اللغة تعريف لأشياء الواقع )) (4) . هذه اللغة التي تقتضي تأويل النص من زوايا أربع هـي: (5).

1-   المعنى التاريخي الحرفي , ويتوصل إليه بالدراسة النحوية .

2-   المعنى الرمزي الذي يرمز إلى تعاليم الكنيسة .

3-   المعنى الأخلاقي الذي يُنضم سيرة الإنسان المُمارس للعقيدة .

4-   المعنى الصوفي التزهيدي الذي يكشف عن الحقائق الماورائية وبخاصة المُتَعَلِقة بما بعد الموت .

 لقد ارتبط التأويل منذ القدم بالفلسفة ارتباطاً وثيقاً لكنه استطاع إن يتخطى الجسور ويتغلغل في النقد الأدبي القديم والحديث على السواء . فمن أولى الاشارت إلى التأويل في الفلسفة  القديمة عبارة الفيلسوف ( هيرقليطس ) المشهورة : (( انك لا تنزل في النهرِ نقسه مرتين )) (6) .

   أما التأويل في النقد الحديث , وهو ما سنُحاول الحديث عنه بشيءٍ من التفصيل , فقد اعتمد على الكشوفات اللسانية الحديثة التي بدأت بأفكار عالم اللغة ( فرديناند دي سوسير ) والتي تُوجَتْ بظهور علم الإشارة ( السيميلوجيا ) مروراً بالمنهج البنيوي , وتفكيكية  (دريدا ) وصولاً إلى نظريات التلّقي هذه النظريات والمناهج التي كان لها الدور الأكبر في توجيه النقد الأدبي والنظر إلى حيث الشكل والمضمون .

   هكذا اهتدى النقد الأدبي الحديث إلى المنهج التأويلي الذي نعتقدُ انه يمنح النص ابعاداً لا نهاية لها فكل مُتلقٍ – حسب نظرية التلّقي –  يُضيفُ بُعداً جديداً ويُغنيه بطريقة مـا .

 

  ورُبَ مُعتَرضٍ يقول : رُبما يُحمّلُ النصُ أكثر مما يَحتَمِل من عمق الدلالة , والجواب على ذلك – كما أكدت النظريات الحداثوية – أو ما بعد الحداثوية – إنَّ المعنى ينبثق من خلال الممارسة الخطابية . وهنا تصبح اللغة لا تدل على المعنى ؛ وانمـا تُنتجـه , يقول ( دريدا ) : (( إنَّ عدم محدودية الدلالة في الكتابة هي من سمات ما بعد الحداثة )) (7) .   

 

 

 

 

 

 

  إن هذا التطور السريع في نظريات النقد الحديثة كان حافزاً لتطور نظرية التأويل التي اتخذت في تطورها خطين :

  الأول : خط المُنَظّر الايطالي ( ايميلوتي ) والأمريكي ( دونالد هيرش ) . امَّـا الخـط

الثاني : فيمثله ( مارتن هايدغر ) وتلميذه ( هانز كادا مير ) .

  ينطلق هيرش من مقولة ( ديلتاي ) : إن النص يعني ما عنـاه المؤلف وهو معنى قابل للتحديد , ويبقى ثابتاً عبر الزمان يستطيع إعادته واستنتاجه كل قارئ كفوء .

أمَّا هيرش فيميز بين المعنى اللفظي والأهمية فالمعنى في حالة تغير مستمر , ولا يقبل التحديد , وهذا ما يجعل النص حياً ومُستَحوذاً على أهمية القراء في مختلف العصور (8) .

  أمَّا الخط الثاني : فينطلق من مقولة (ديلتاي ) التي تفيد بان الفهـم الحقيقـي للأدب , والنصوص الإنسانية الأخرى يتأسس على استعادة القارئ للتجربة ( الحياة الداخلية ) التي يُعَبِر عنها النص , وقد حول كادامير فكر أستاذه ( هايدغر ) إلى نظرية هامة تُعني بالتأويل النصي , وينطلق كادامير  من الحلقـة الهيرمينوطيقية التي تتأسس على إن فهم الجزء يؤدي إلى فهم الكل , ويؤكد على وجود فهم مُسبَق لهذا الكل قبل تفحص أجزائه واستقصائها . هذا الفهم المُسبق هو ما يُسميه كادامير بـ (التَحيُز ) : (( إنَّ فهمنا للموروث من داخل الموروث يعني لا محالة انحيازنا )) (9) . ولكن علينا أن نميز بين انحيازٍ واعٍ وانحياز غير واعٍ . فالقارئ يأتي إلى النص , ولديه فهمهُ المسبق تأسّس وتكّون نتيجة آفاقه الشخصية والزمانية الخاصة (10) . 

 ويصنف كادامير ( هيرمينوطيقيته ) بأنها محاولة لوصف الكيفية التي بها نحقق فهم النصوص , كما أنها تُنكر القول بإمكانية تحديد المعنى الثابت عَبَر العصور والأزمان . فيما إن المعنى يبرز عنده نتيجة محاولة تداخليه بيـن النص والقارئ في زمان مُحَـددَ,  وحسب أفق شخصي مُعين وخاص.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

فالمعنى يظل نسبياً لاعتماده على خصوصية أفق القارئ وزمانيته ومكانيته وبقدر ما يلتقي هذا الطرح مع مفهوم ( الأهمية ) عند ( هيرش ) بقـدر مـا يختلـف ويُلـغى مفهوم هيرش (المعنى اللفظي ) والذي يَعُدُهُ هيرش ثابتاً , وقابلاً للتحديد والثبات عبر العصور .

 ويمكن القول : إن المنهج التأويلي جاء توفيقاً مُنظماً بين اعتماد الجانب الشكلي للنص من ناحية , واعتماد دلالته الوجودية والاجتماعية , سواء ذلك عند المؤلف ,أو عند القارئ , من ناحية أخرى  .

   فهو منهج استفاد من ابرز المراحل التي تأسس عليها النقد المنهجي الحديث , واستوعبها ,  ولم يكن لها جاحداً مُتَنَكراً ؛ لذلك فهو – بحق – منهجٌ علمي مُتَحري في التعامل مع مـا هو موجود على الساحة النقدية . ويرى محمد بن عيّاد : (( إن التأويلية ليست منقطعة , أو منفصلة عن قطاعات معرفية أخـرى كفـن الأسطـورة , والفلسفـة ,والبلاغـة , ومـا إليها ؛ ما أدى إلى تعميق النــظر في الظاهرة  الأدبية وعدم عدها مجرد متعـة فنيـة عابرة , وذلك بربطها بحركة الإبلاغ الإنساني , وتقدير طرفيها ( البـاث ) و ( المُتلّقـي ) مُرتبطة بصيرورة التاريخ )) (11) .  

  ويرى امبرتو ايكو : أن التاريخ خلق لنا تصوريين مختلفين للتأويل ,فتأويل نصٍ ما , حسب التصور الأول , يعني الكشف عن الدلالة التي أرادها المؤلف أو على الأقل الكشف عن طابعها الموضوعي , وهو ما يعني إجلاء جوهرهــا المستقل عن فعل التأويل .

  أما التصور الثاني فيرى على العكس من ذلك , أن النصوص تحتمل كل تأويل (12) .

وان هذا الموقف من النصوص يعكس موقفاً مماثلاً من العالم الخارجــــي .

  فالتأويل هو تفاعل مع نص العالم , مثلما هو تفاعل مع عالم النص عبر إنتاج نصوص أخرى .

فشرح الطريقة التي يشتغل من خلالها النظام الشمسي استناداً إلى قوانين ( نيوتن ) تعد شكلاً من أشكال التأويل , تماماً كما هو الإدلاء بسلسلة من المقترحـات الخاصـة بمدلـول نصٍ ما (13). وهناك تصور يرى في التأويل , وأشكاله صياغات جديدة لقضايا فلسفية ومعرفية , موغلة في أللقدم فمجمل التصورات التأويلية التي عرفهـا القرن الماضي لا تفسَّر إلا بموقعها من الحقيقة كما تصورَها الإنسان وعاشها  وصاغ حدودها , أحيانا على شكل قواعد منطقية

 

 

صارمة , وأحيانا أخرى على شكل اشراقات صوفية واستبطانية لا ترى في المرئي والظاهر سوى نسخ لأصل لا يدركه  الحس العادي ولا تراه الأبصار (14) .

ويخلص ( ايكو ) إلى أن التأويل فعلاً مطلقاً , بل هو رسم لخارطة تتحكم بها الفرضيات الخاصة بالقراءة , وهي فرضيات تسقط انطلاقا من معطيات النص , مسيرات تأويلية تطمئن بها الذات المتلقية (15) .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

ب – الأسس الفلسفية

 

 

   قد يكون الحديث عن تأصيل التأويل امرأ بالغ الصعوبة لما يثير حوله من جدالات ؛ بل قد يؤدي في كثير من الأحيان إلى سوء الفهم .

   وقد وصل التأويل إلى حالة من النضج ساهم معها وبشكل كبير قي تجديـد الوعـي النقدي , من خلال إعادة النظر في طريقة التعاطي مع قضايا المعنى وإشكالاته ,وأشكال تصريفه ,وتداوله وتلقيه . وعمل على تهذيب القراءة النقدية , وحاول انتشالها , بل انتشلها من مستنقع الرؤية الانطباعية التي ظلت أسيرة كم هائل من المفاهيم النظرية الانفعالية المنطوية على ذاتها , وهي رؤية (( تكتفي بأحسن حالاتها بوصف النص ومكوناته , خارج غاياته الدلالية والجمالية , مما حوّل الفعل النقدي إلى ممارسة تقف عند حدود الوصف والتعين المباشر لمكونات النص )) (16) .

  ويمكن القول : أن نقدنا العربي لا زال أسير هذه الحالـة , فـي كثير من ممارساته التطبيقية , وان كان حاصر نفسه بالعديد من المفاهيم النظرية الحديثة المجـردة من أي غطاء فلسـفي لأصولها ؛ حيث اكتـفى باستيرادها ونقلهـا , دون العمـل علـى تطويرها  , وتوطينها والتفاعل معها  , أو حتى فهمهـا على الأقل . الأمر الذي جعله (( لم يجدد آلياته ويُغني منطلقاته بأصول نظرية إضافية تعطي للمعرفة النقدية والنظرية على السواء نقله نوعية من شانها إضاءة العمل الأدبي )) (17) .

  ومن هنا فانه لا يمكن تناول مفهوم التأويل بعيداً عن أسسه الفلسفية ((  لان كل محاولة  لممارسة هذا التأويل كنَسَقٍ تامٍ له خصوصياته المتفردة دون مراعاة السـياق الفلسفي والأساس المعرفي الذي يتضمنه , تجعلنا عرضة للوقوع في مزالق الاختـزال  والفهم الناقص (18) .

 لذا فان الناقد الذي يريد إضاءة جوانب العمل الأدبي  ,  ويسعى إلى تأويل مقنع له , أن يعي الأصول , والأسس الفلسفية التي تنهض عليها ممارساته ؛ كيما يكسب هذه الممارسات قدراً من التماسك والإقناع , وبعيداً عن هذه الأصول لا يمكن الحديث عن بناء تصورات نظرية وعملية مهما كان شكلها .

 

 

 

 

   وينطلق التأويل بوصفه نشاطاً معرفياً بالغ الأهمية, والخصوصـية , مــن حيث الأصول  والامتدادات من تصورات  نظرية  دلالية  وجمالية . نجـدها فـي سـيميائيـات ( بروس ) الظاهراتية , والتنظير السردي عنـد كـل مـن ( امبرتو ايكو ) و( لوتمان ) و(غريماس ) , ورمزية ( كاسيرير )  وسيميولوجيا ( بارث) .  على أنها اكتملت على يد (هايدغر ) و(كادامير ) .

  والنظرية التأويلية , - والتي تعني خطاباً نظرياً  حول  الظواهر التأويلية حيـث تباشر النص , بوصفه خزاناً من الإمكانات الدلالية , وتهتم بكل مجالات الفعل الإنساني – تقدم آلية نقدية لمقارنة كل مظاهر وتجليات السلوك  الإنساني بدءاً من ابسط الانفعالات , وانتهاء بأكبر الأنساق الايدلوجية. وهي مجموعة من المفاهيم المنظمة التي تُمَكِّن من وصف آليات إنتاج الدلالة داخل موضــوع ثقافي ما (19).  

   لذا فان التأويل هو (( فعل محكوم بإستراتيجية, تسعى إلى تحديد الطرق التي يتم بها تشكيل المعنى وتنظيمه داخل وقائع مادية قصد تداوله وتصريفه في أفعال وممارســات وسلوكيات معينة )) (20) .

 

     من خلال ما تقدّم نصل إلى إن التأويل هو محاولة لفهمٍ لا يكترث ولا يقف عند حدود تعيين الأشياء في دلالاتها المنطوية على ذاتها ؛ بل هو انخراط في صلب الرمزي والثقافي انطلاقاً من معانٍ إضافية لها القدرة على التدليـل والإحالة إلى قيم دلالية ممكنة , وخالقة لسياقاتها الخاصة ؛ لذلك فان لحظة التأويل كما يصفها سعيد بنكراد (( تحضر في الواقعة على شكل إحالات رمزية تثير فينا أسئلة  تدفعنا باستمرار إلى رحلـة البحث عن الحقيقـة , هذا البحث تكون معه الحاجة إلى التأويل ضرورة ملحة , ولان إدراك  أية ظاهرة بصورة فعلية , يقتضي استحضار السيرورة التاريخية والقيم الثقافية التي انبثقت منها هذه الظاهرة , وتحولت عبرها إلى ذاكرة للفعل الإنساني , فان تجاوز هذه اللحظـة المباشرة أمر طبيعي , هذا التجاوز يضعنا على عتبات تأويلات أكثر خصوبة وضبطا للاطلاقية والتسيب في الوقت  نفسه )) (21) .

   من هذا المنطلق فان التأويل ليس فعلاً مطلقاً ؛ بل رسم لخارطة تتحكم فيها بمعطيـات النص , مسيرات تأويلية تطمئن أليها الذات المتلقية . كما اشرنا في موضٍع سابق.

 

 

 

 

 

   وبناء على ما سبق فان الممارسة النقدية ,  بوصفها فعلاً تأويلياً ينبغي أن تقـوم علـى أسس ثلاث : (22) .

1-  تقوم في المقام الأول على النص ذاته , فالنص كيان له عمق وامتـداد ومكونـات , لا يمكن فهمه بدون التعريف عليها وتعيينها , ووصفها , وتحديــد العلاقات الممكنة بينها . فالنص الشعري له له هويته  ومكوناته الدالة عليه وكذلك مع بقية الأنواع الأدبية .

2-  يقوم في المقام الثاني على معرفة نظرية تعود إلى التصورات التي يملكها الناقد عن الوقائع الخاصة بالدلالة ,  وطرق إنتاجها , والمواد الحاملة لها فلا يمكن أن نتصور قراءة ً ( عفويةً ) تتم عن طريق الحدس , خارج أي سياج نظري , وتكون في الوقت ذاته قادرة على تحديد مواطن المعنى وقادرة على مطاردته في مَظانِه , ومن خلال تمنعاته , وإغراءاته ؛ لذا فلا يمكن للحدس أن ينتج قراءة منسجمة ؛ ولهذا تحتاج القراءة النقدية إلى معرفةٍ تشكل صيغة من الصيغ التي تتيحها لنا المعرفة الإنسانية , من اجل , وصف المعنى .

3-  يقوم بالدرجة الثالثة على ثقافة الناقد , وقدرته على استحضار مرجعيات النص , الثقافية , والتاريخية , والاجتماعية , والنفسية . وهي ما ينتجه الإنسان عبر سلوكه من قيمٍ , ومعارف , بأبعادها الرمزية , والأسطورية للنص . ما يبرر أهلية الناقد , وقدرته على الربط بين ما هو معطى بصيغة مباشرة داخل النص , وبين المعارف الموسوعية والأشياء القادرة على استحضار نص التاريخ , ونص الثقافة , أي الأمور التي ليست بادية في التجلي المباشر للنص .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

جـ - إشكالية المصطلح :

       

 

      يعاني الخطاب النقدي العربي قصوراً واضحاً في وعي المصطلح أو المصطلحات النقدية التي يستخدمها ، ويعكس هذا القصور جانباً من الإشكاليات الكثيرة التي تَسِم معظم أنواع الممارسة النقدية في المشهد الثقافي العربي ، وجانباً من خصائص التقاطب بين فعالية ٍ نقديةٍ وأخرى ، واستخدامٍ وآخر للمصطلح الواحد ، وربما لدى الناقد الواحد أيضا . وعلـة ذلك كما يبدو لنا تكمن في أمرين :  

   الأول : تَقَحُّم الكثيرين للساحة النقدية دون زادٍ معرفي كافٍ بمعنى تلك الممارسة , ودون وعيٍ كافٍ أيضا  بدلالات المصطلح وحدوده الأمر الذي أنتج نوعاً من الهجانة في الخطاب النقدي العربي , وعَمَّقَ ذيليته وتبعيته للأخر دائماً .

   أما الأمر الثاني : فيعود إلى الترجمات الخاطئة للنظريات , والمصطلحات النقدية الغربية , وتعدد الترجمات لهذه المصطلحات , فتجد أحياناً ترجمات عدة لمصطلحٍ واحد , مـا أنتج نوعاً من الإرباك , والخلط بين كثيرٍ من هذه المصطلحات النقدية .

  وسبب كل هذه الإشكاليات كما يرى الدكتور محمد رشاد : عدم وجود واعتماد مدونة مصطلحية عربية واحدة , تشمل الرصيد المصطلحي النقدي العربي المعاصر هذه المدونة التي يجب أن تكون مستوفية لشروط ومقاييس زمانية ,  ومكانية , كميةً وكيفيةً , وحتى اجتماعية وثقافية , تؤسس لها اللسانيات الحديثة (23)  .

  أن الضبابية التي تلف مصطلح التأويل , والتباسه مع المصطلحات المرادفة له كالتفسير , والتحليل , والهيرمينوطيقا , والقراءة وما إلى ذلك من المصطلحات , تُشكَِل عقبة حقيقية أمام الباحث في موضوع التأويل .

لذا فإننا سنتناول هذه الإشكاليات من خلال الهيرمينوطيقا والتأويل , في محاولة للفصل بين مفهومي المصطلحين , وإماطة اللثام عنهما , علّنا نصيب أجراً واحداً في الكشف عن مفاهيم هذه المصطلحات , وكذا سنفعل من خلال القراءة والتأويل .

 

 

 

 

ٍ

1-   الهيرمينو طيقا والتأويل :

 

     أن الاستعمال الفضفاض لكلمتي ( تأويل ) و ( هيرمينو طيقا ) يجعل مهمة الباحث صعبة ويضعه أمام مسؤولية كبيرة في البحث والإستقصاء .

والهيرمينو طيقا بما يكتنفها من ضبابية وراء الكثير من الملابسات التي جللت مصطلح التأويل بهذه الضبابية , وعدم الفهم .

   لقد تعددت زوايا النظر إلى الأدب عبر تاريخ النقد بعدد زوايا مثلث الإبداع المؤلف, والنص, والمتلقي. فقد كان ينظر إلى الأدب بوصفه صورة لمبدعه , ووسطه الاجتماعي  والثقافي , وبيئته عموماً . فيما نظر اتجاه نقدي آخر إلى النص بإكبار , وعدّه مستقلاً بذاته , يمتلك أدوات اشتغاله , والآليات الكفيلة بالكشف عن معناه , دون اللجوء إلى الاستعانة بما هو خارج عنه ,وهذا ما تبنته البنيوية ودعاتها . وفي هذا الرأي تطرف زاد على تطرف أصحاب الرأي الأول . فيما نظر فريق ثالث إلى ( الملتقي ) واكسبه أهمية تتعدى أو تتجاوز أهمية النص والمؤلف .

  والحقيقة أن هذه الزوايا الثلاث للإبداع , إنما ترتبط بعلاقة جدلية لدرجة انه لا يمكن تغييب أو تهميش دور أي عنصر من هذه العناصر  في أو أثناء ممارسة العملية النقدية وماعدا ذلك محض وهم .

  ومهما يكن من أمر فان الهير مينوطيقا عبر تاريخها الطويل , لم تمتلك أرضية خاصة بها , وإنما تابعت المعنى وإدراكه حيثما حل .

  وفي مجال النقد الأدبي عند من تبنّوا نتائجها , ومنهجياتها , فقد ركزّت الهير مينوطيقا في بادئ الأمر على المؤلف كمصدر للمعنى , ومن ثم انتقلت نقلة عنيفة , نرى آثارها عند ( هيرش ) و( كادامير ) حين أرست المعنى على النص والمتلقي معاً , مُلغيةً بذلك دور المؤلف . ونجد هذا الاتجاه عند معظم ممارسي النظريات النقدية الحديثة , كنظرية التلقي , ونظرية التقويض وما يسمى بالتفكيك وغيرها .

 

 

 

 

 

 

 

  وفي الوقت الذي ترفض فيه هذه النظريات ارتباط معنى النص بالمؤلف فأنـها ترفض كذلك مفهوم المعنى المحدد للنص , ومبدأ التأويل الصحيح , وتدعو إلى لا محدودية المعنى أو على الأقل نسبتيه , واعتماده على المنهجية والإستراتيجية التأويلية التي يعتمدها كل قارئ (24) .

  وعن البنيوية والتفسير البنيوي يتحدث بول ريكور قائلاً : (( إننا كقراء , إما أن ننزوي باعتبارنا قراءً داخل انغلاق النص , وان نعامله كنص مستقل بدون عالم , ولا مؤلف , والحالة هذه تجدنا نفسره  بواسطة دراسة علاقاته الداخلية أي بواسطة بنيته الخاصة . وإما أن نرفع انغلاق النص ذاك وان نكمل النص في شكل كلام , وان نعيده إلى قلب التوصيل الحي , وفي هذه الحالة تجدنــا  نؤوله )) (25) . وخلاصة رأيه , إننا إذا أردنا تأويل نص فإننا نقرأه مفتوحاً على عالمه , وان لا نستغني عن مؤلفه , وعالمه الخاص أو حياته الخاصة .

   ولا يبتعد ( امبرتو ايكو ) عن ذلك كثيراً , إذ يؤكد على إن الحياة الخاصة للمؤلفين لا يمكن سبر أغوارها بسهولة , وهي في ذلك شبيهة بنصوصهم , فما بين خفايا التاريخ الخاص بإنتاج نص ما وبين متاهات قراءته المقبلة , سَيُمثِّل النص في ذاتـه حضوراً مكثفاً ( للمؤلف ) أو هو بؤرة يجب أن نتشبث بها (26) .

  أما نظرية التلقي التي تتكئ على القارئ , فإنها ترتبط ارتباطاً مباشراً بالتأويل ؛ ذلك أن علاقة القارئ مع النص تتحدد من خلال التأويل الذي يمارسه على هذا النص . ويفيد (ايزر) بقوله : (( هناك شيء واحد واضح هو إن القراءة هي شرط مسبق , وضروري لجميع عمليات التأويل الأدبي )) (27) .

  ومن حيث لا يمكن النظر إلى نظرية التلقي بمعزل عن عنصر التأويل على أن نتبين أن هذا التأويل يختلف مقارنة بتأويل القدماء للنصوص ؛ لان هذه النظرية لم تعد رهينة التأويل أحادي الجانب , والذي يقف على المعنى الوحيد لأن النص لا يقتصر على معنىً واحداً , ومعانيه رهينة بأشكال تفاعله مع القراء المُتعاقبين .

  

 

 

 

 

 

 

  وأيا كانت زاوية النظر إلى مثلث الإبداع ( المؤلف , النص , المتلقي ) فان اغلب الدراسات التي تناولت الهيرمينوطيقا والتأويل تتفق على أن ليس هناك خطوات إجرائية , أو إستراتيجية معينة , وثابتة تتبع في الوصول إلى الهدف الذي تعلن عنه الهيرمينوطيقا والتأويل . وكل من تطرقوا إلى هذه الخـــطوات أو القواعد كان في كلامهم الكثير من التعميم , وربما اللبس أحيانا .

   فهذا الدكتور ( حامد نصر أبو زيد  ) يتحدث عن هذه  القواعد والخطوات دون إن يفصح عنها (( إن الهيرمينوطيقا تشير إلى مجموعة القواعد والمعاييـر التي يجب إن يتبعها المفسِّر لفهم النص الديني )) (28) . فهو يقتصر الهيرمينوطيقا على الخـطوات التي يُفسّر بها النص الديني حصراً .

 أما ( سيزا قاسم ) ففي كلامها عن الهيرمينوطيقا شيء من الإطلاق ولا يخلو من التعميم وعدم الوضوح فهي تقول : ((الهيرمينوطيقا تسعى إلى كشف الطرق والوسائل التي تُمكِّن من فهم النصوص )) (29) .

والحقيقة أن في هذا الكلام تعميم وتمويه ؛ إذ إن الباحثيَن لم يحددا مـا هـي هـذه الطرق والقواعد , والوسائل , والمعايير التي يتبعها المؤول أو المفسِّر , في الكشف عـن مكنـون النص ,  وهل إن مهمة المؤول هي ذاتها مهمة المفسِّر .

   وإذا كان الباحثان لم يحددا الفرق بين مهمة المؤول ومهمة المفسِّر , فانهما لم يحددا أيضا الفرق بين الهيرمينوطيقا والتأويل .

   وربما نلمح في تعريف الدكتور . ( محمد شوقي الزين ) إشارة إلى بعض هـذه القواعد , والوسائل , أو ما يجب أن يركز عليه المؤول أثناء كشفه عن المعنـى الباطـن للنص فهو يرى : (( إن الهيرمينوطيقا تعني فن تأويل وتفسير وترجــمة النصوص , فالتأويل هو فن , بمعنى طريقة الاشتغال على النصوص , بتبيان بنيتها الداخلية , والوصــفية , ووظيفتها المعيارية والمعرفية , والبحث عن حقائق مضمرة في النصوص , وربـما المطموسة لاعتبارات تاريخية أو أيدلوجية )) (30) .

 

 

 

 

 

 

 

   من هنا نستنتج أن الهرمينوطيقا هي ليست نظرية , أو علم , إنما هي آلية وأداة تقنية لترجمة وتفسير وفهم ومقارنة للنصوص ؛ لذلك أطلق عليها البعض ( التأويلية ) أو (علم التأويل ) على أن اكثر من تحدثوا في ذلك حَبَذّوا تسميتها بـ ( فن التأويل ) (31) .

   والحقيقة لا توجد مدرسة هيرمينوطيقية , ولا يـوجد من يمكن إن يطلق عليه هيرمينوطيقي , ولا هي منهج له صفاته , وقواعده الخاصة , أو نظرية منظمة ( أما تاريخها فيضرب جذوره في التأويلات الرمزية التي خضعت لها أشعار ( هـوميروس ) في القرن السادس قبل الميلاد , وفي تأويلات الكتب المقدسة ولهذا كانت العملية الهيرمينوطيقية تُعنى بتأويل حقيقة النص الواقعية التي تحكم القراءة المشروعة للنص المقدّس (32) .   

   أما في الفلسفة الاجتماعية فهي مرادفٌ للتخصص الذي يُعني بتقصّي السلوك والأقوال  , والممارسات الإنسانية , وتأويلها على أنها أمور غائية بالضــرورة ومن هنا أخذت منحى البحث في غاية الوجود الإنساني في الفلسفة الوجودية خاصة عند هايدغر (33) .

   وقد تطور مفهومها في القرن التاسع عشر لتعني الإجراءات , والمبادئ المسـتخدمة في الوصول إلى معاني النصوص المكتوبة , بما في ذلك النصــوص القانونيـــة , والتعبيرية ,  والأدبية , والدينية . وقد تبنّى الفيلسوف ديلتاي الفكر التأويلي , وطوّره , وقدّم  الهرمينوطيقا على أنها تحليل وتأويل أشكال الكتابة في العلوم الإنسانية , بما أنها تُجَسِّد طرق التعامل مع التجربة المعاشة , الزمانية والمكانية . وتوصل ديلتاي إلى ما اسماه بالحلقة الهرمينوطيقة . ومفادها : (( إننا لكي نفهم أجزاء أية وحدة لغوية لابد أن نتعامل مع هذه الأجزاء وعندنا حس مسبق بالمعنى الكلي , لكننا لا نستطيع معرفة المعنى الكلي إلا من خلال معرفة مكونات أجزاءه )) (34) .

   هذه الدائرة في الإجراء التأويلي تنسحب على العلاقات بين معاني الكلمات المفردة ضمن جملة , وبين المعنى الكلي للجملة . كما تنطبق على العلاقات بين معاني الجمل المفردة في العمل الأدبي ككل.

   ويرى ديلتاي : إننا نستطيع أن نصل إلى تأويلٍ مشروع من خلال التبادل المسـتمر بين إحساسنا المتنامي بالمعنى الكلي , وفهمنا ألاسترجاعي لمكوناته الجزئية (35) .

 

 

 

 

 

 

2-   القراءة والتأويل:

 

   إن الكتابة تستدعي فعل القراءة الذي يقوم عليه مفهوم التأويل والقارئ في هذا الفعل إنما يأخذ دور المحاور داخل عملية الكلام, تماماً مثلما تأخذ الكتابة مكان العبارة المنطوقة , والمتكلم معاً . لكن البعض يرى أن العلاقة بين الكتابة والقراءة ليست علاقة تخاطب , ولا هي حالة خاصة للحوار , ولذالك لا يكفي أن نقول : إن القراءة هي حوار مع المؤلف عن طريق نتاجه المكتوب ؛ بل إن علاقة القارئ بالنص مخالفة لذلك تماماً , فالحوار : تبادل للسؤال والجواب , في حين إن ذلك ينعدم في العلاقة بين القارئ والمؤلف , فالمؤلف لا يجيب عن أسئلة القارئ , والقارئ يظل غائب عن فعل القراءة (36) . 

   وإذا أسلمنا بغياب الكاتب عن فعل القراءة تبيّن لنا من غير شك أن معني النص أو تأويله يتوقف على القارئ  , ويتعدد بتعدد القرّاء , وأن مقولة القراء المختلفين , وإمكانية تأثيرهم بطرق معينة وصور مختلفة بـ ( واقعية ) نــصٍ  معين , هي دليل على الدرجة التي تُحَوَّل بها القراءة إلى عملية إبداعية .

    فالنص الأدبي ينشِّط قدرتنا , ويمكننا من إعادة خلق العالم الذي يخلقه , وان ناتج هذا النشاط الإبداعي , هو ما يمكن أن نطلق عليه ( البعد الواقعي للنص ) البعد الذي يمنح النص واقعيته . وهذا البعد الواقعي ليس النص نفسه ولا هو تخيّل القارئ , إنما هو التمازج بين النص والمتخيّل (37) .

   وفي هذا المعنى يتفق ( ايزر ) مع ( رومان انجاردن ) إذ يؤكدان إن للعمـل الأدبي قطبان هما : القطب الفني , والقطب الجمالي , حيث يشير الأول إلى النص الذي أبدعه المؤلف . فيما يشير القطب الجمالي إلى الإدراك الذي يقوم به القارئ, وإن التقاء النص والقارئ هو الذي يأتي بالعمل الأدبي إلى الوجود. وهذا التلاقي لا يمكن تعريفه أبدا على نحو دقيق – وفق ما يرى ايزر – ولكنه لابد أٍن يظل واقعياً على الدوام كما انه لا يتطابق ومزاج القارئ الشخصي (38) .

 

 

 

 

 

 

 

   على إن هذا التلاقي بين النص والقارئ ؛ لكي  يثمر فانه يحتاج إلى خيال القارئ الذي يعطي شكلاً للتفاعل بين الجمل المتعالقة  المُكّونة للنص .

   وإذا كانت القراءة ممكنة فلأن النص ليس منغلقاً على ذاته ؛ بل مفتوحـاً علـى شـيء آخر . أن نقرأ – بمعنى آخر – ان ننتج خطاباً جديداً وأن نربـطه بالنـص المقروء , هذا الارتباط بين الخطاب القارئ والخطاب المقروء يكشف – داخل التكوين الداخلي للنص – قدرةً أصليةً على استعادة الخطاب لذاته بشكلٍ متجدد وهي التي تعطيه خـاصيته المفتوحة على الدوام , والتأويل هو النهاية لهذا الارتباط  ( بين خطابٍ وآخـر ) وبهــذه الاسـتعادة المتجددة , وتبعاً لهذا  المعنى يحتفظ التأويل بخاصية ( الامتلاك ) – حسب ما يرى ( بول ريكور ) أي امتلاك فهم متجدد للنص والذات المؤولة نفسها , وهي الخاصية التي جعلها كل مـــن ( شـــلايرماخر ) و ( بولتــــان ) ميـــزة التأويل (39) . وفي هذا المعنى يقول بول ريكور : (( اقصد بالامتلاك , أنّ تأويل النص يجد اكتماله داخل تأويل الذات المؤولة لذاتها ,هذه الذات التي منذ ابتـداء تأويلها للنص فصـاعداً , تفهم ذاتها بشكل أحسن , ومغاير وتبدأ في تحقيق ذلك الفـهم الذاتي )) (40) .

    إن القراءة هي : ذلك الفعل المُشَخّص الذي تكتمل فيه وجهة النص , وداخل أعماق هذه القراءة يتعارض كل من التأويل والتفسير , ويتوافقان بشكل لا محدد , وإذا كـانت الكتابة لا تخرج أن تكون – بوجه من الوجوه – تشخيصاً  وتمثيلاً   للواقع الذي تنطلق منه , فالنص هو (( ملامسة مجازية لمجريات الواقع وقضاياه تتم برفق وإيحاء )) (41) , وملائمة لهذا الطرح حدد ( تودوروف ) معنى القارئ الضمني وهو (( ذلك الذي يستطلع المؤلف , درجة كفايته سلفاً , فَيُكَيِّف كتابته بحسب ما ينتظر منه من تفعيل )) (42) . فليس هناك أي معنى لكاتب يُنشىء أدباً وهو معزول عن التربة الثقافية التي تجمعه بالقارئ .

    ويمكن القول : إنّ عملية القراءة في كل النصوص الأدبية , عملية انتقائية وان النص الكامن أغنى بشكل مطلق من أي إدراك فردي , يؤيد هذا الزعم , الحقيقة القائلة : بان القراءة الثانية لنصٍ أدبي غالباً ما تنتج انطباعاً مختلفاً عن الانطباع الأول . وقد تعود أسباب ذلك إلى تغير الظروف الخاصة للقارئ؛ لذلك يجب أن يكون النص على هذه الشــاكلة ؛ ليسمــح بهذا الاختلاف في القراءة , ذلك أن النصوص الأدبية مليئة  بالانحرافات غير المتوقعة وأيضا بإحباط التوقعات (43) . 

 

 

 

 

   لذلك فان عملية التأويل التي يقوم بها القارئ , تجعل من النص فيضاً من الدلالةِ والمعنى فهو – أي النص – مشحون بالقصدية والهدفية , ويحيلنا إلى ذاتٍ مبدعةٍ جديدة هي ذات القارئ , التي تكشف عن المسكوت عنه والمُتَخَفِّي في النص . فالنصُ نسيجٌ من المرجعيات المتداخلة فيما بينها , دون ضابطٍ ولا رقيب , ولا يحد من جبروتها , أي سلطان ؛ لذا يندرج التأويل ضمن كل المسيرات الدلالية الممكنة , وضمن السياقات التي ينتجها الكون الإنساني باعتباره يُشَكِّل كلاً متصلاً لا تحتويه الفواصل والحدود . وهو – أي التأويل – من هذه الزاوية لا يروم الوصول إلى غاية بعينها فغايته الوحيدة هي الإحالات ذاتها , فاللذة كل اللذة كما يقول ايكو (( إن لا يتوقف النص عن الإحالات  وأن لا ينتهي عند دلالةٍ بعينها , والبحث عن عمقٍ تأويليٍ يُشكل وحدة كلية تنتهي إليها كل الدلالات سيظل حلماً جميلاً من اجله ستستمر مغامرة التأويل , وان الوصول إلى هذه الوحدة يعد أمرا  مستحيلاً )) (44) .

   وفي ضوء ما سبق , لابد أنْ تبرز وبشكلٍ مُلِحٍّ مسالةٌ في غاية الأهمية تطرح أسئلةً عدة منها : ما حدود عملية التأويل هذه ؟ وما حدود صلاحية القارئ ؟ وهـل هي صلاحيـة مطلقة ؟ هل نطلق يده وندعه يعبث بالنص كما يشاء ؟ وهل حقاً أن القارئ أو المؤوِّل يستطيع أن يؤول نصاً ما , اعتماداً على النص لا غير ؟ أي بمعزلٍ عن المؤلف والسياق التاريخي والثقافي ؟

   وللإجابة عن ما تقدّم من أسئلةِ الشطر الأول نقول : انْ نؤوِّل , يعني أنْ نمتلك قصدية النص , فما يريده النص هو أن يُلقي بنا داخل معناه , أي أن يُلقي بنا في الاتجاه الذي يقصده , والتأويل يعني السير في الطريق الفكري الذي يفتحه النص , أي الاتجاه نحو ما يضيئه , وهذا كله يبدأ بلحظة الفهم والتي يصبح فيها النص جواباً على سؤال في زمــن إنشائه كما يرى ( هانز روبــــرت ياوس ) (45) . ولحظة الفهم هذه تُشكِّل الأفق التأويلي الذي يتخذ هدفاً هو : ما قيمةُ نصٍ ما ؟ ولكي نتمكن من الإفصاح عن قيمةِ نصٍ ما ,  أو هدفه في مضمونه الموضوعي , فان علينا أن نعي لعبة اللغة ونتقنها , وهذا ما يُحَدِّد القارئ أو المؤول بحيث لا يُطلق لنفسهِ العنان في تأويل النص , كما يحدد نوعية القارئ وثقافته .

 

 

 

 

 

 

 

   وهنا لابد أنْ نُدخِلَ في الحُسبان قيام المعجم المُشتَرَك بين الكاتب والقارئ (المؤول ) إذ من دونه يتعذّر التواصل كما يرى ( بارث ) ، ولعل أهم شروط ذلك , الكفايـة النحويـة للمؤوِّل (( إذ إنّ النص يمثل سلسلة من الجمل التعبيرية التي ينبغي للقارئ أن يُفَعِلّها وهذا التفعيل هو الفعل الذي يمارسه هو , حالما تقع عيناه على النص ساعياً إلى إدراكه )) (46) . وهـذا ما يمكن أنْ نُطلق علية بـ ( التأويل النحوي ) .

   أمّا الشطر الثاني من الأسئلة ,وهو إمكانية تأويل نص بمعزلٍ عن المؤلف والسيـاق التاريخي والثقافي , فذلك أمرٌ غيرُ واردٍ , ومن قال به لا يملك الحجة في القول , فإذا كان التأويل النحوي يستقصي ملامح المعنى من جانب اللغة للنص , فان هذا الاستقصاء يؤدي إلى الوصول إلى لحظة الفهم التـي ذكرنا ، وهي الانطلاقة الأولى لعملية التأويل , والتي هي محاولة من القارئ لرصد معنى المعنى على حد عبارة الجرجاني المشهورة (( إن لحظة الفهم توغل في مطاوي النص )) (47) . ذلك الذي لا يمكن للقارئ أنْ يصلَ إليه إلا بتنزيل النص ضمن سياقه التاريخي , كذلك فإنَ (( تأويل أي نـص لا يتم إلا من خـلال جعلــه يتسق مع سياقٍ ثقافي مُحدد )) (48) .

   فتأويل  نصٍ عربي مثلاً يجب أنْ يراعى فيه الخصوصية الثقافية العربية للنص وصاحبه , وملابسات إنتاجه , كي لا نعمل على إسقاط واقعٍ ثقافيٍ غريب على واقعنا , خصوصاً بعد أنْ أخد الكثير ممن أُغرِموا بالنقد الغربي  مفاهيم هذا النقد على أنها مُسَلَّمات فيها شيء من القدسية ؛ لذا كانت نتيجة أعمالهم سراياً يحسبه الضمآنُ ماءً .

   ولعلّ لكل جيلٍ غروره الذي يجعله يعتقد انه على عتبة عصرٍ جديد فيسلك سلوك خاتمَ أو قاهرَ كل ما سبقه !!  ومهما يكن من أمرٍ فإنه لا يمكن لأية حالـةِ فهم ٍ فرديةَ التأويل أنْ تُعد حجة مستقلة يُعتَمَدُ عليها . فنحن باستطاعتنا أنْ نجد معنى الكلمة في المعجم , أو عن طريق تحديد السياق المحيط بها , ولكن في الوقت نقسه فإن معناها منوط بالحدث , ويقرره المؤلف , والمعنى في هذا المنظور إنما هو وظيفة من وظائف القصد الذي يُدلى به (49) .     

 

 

 

 

 

 

 

 

    وفي هذا المعنى يرى ( وليم راي ) أنَ تحديد المعنى (( يعتمد على الخبرة السابقة والأعراف التي يتعلمها المرء )) (50) .

    كما يرى ايزر (( أن توقعات القارئ أو ذخيرة التقاليد هي التي تولِّد المعنى وهذه الذخيرة هي فعل القراءة )) (51) .  

    وعلى أساس ما تقدّم هناك مَنْ قَسَّم التأويل أو فعل التأويل – بتعبيرٍ أدق – إلى لحظـاتٍ ثلاث , ليس الفصلُ بينها إلا من قبيل الإيضاح المنهجي هذه اللحظات هي : (52) .

 

1-   لحظة التلقي الذوقي : وفيها يستشعر القارئ جماليات النص , وهي محاولة لتذوق النص في كلّيته شكلاً , ومعنى .

2-   لحظة التأويل الإسترجاعي : وفيها يتم استجلاء المعنى انطلاقاً من المبنى .

3-   لحظة الفهم والقراءة التاريخية: والتي تعيد بناء أفق الاستشراف لدى القارئ.

 

   وجدير بالقول : أنّ هذه اللحظات الثلاث , لا يمكن الفصل بينها كما اشـرنا ؛ إذ أنها متداخلة مع بعضها , وإيرادها بهذا الشكل من التفصيل  , لا يعني مطلقاً أننا مقتنعون بها تماماً إذ إنّ جمالية النص – كما نعتقد – لا تتجلى للقارئ بشكلهـا الكامـل مـن الوهلة الأولى ,بل تكتمل درجتها بعد لحظة الفهم , وهي اللحظة الثالثة , على أنَ هذه الجماليـة لا يمكن إن تكون واحدة أو بمستوى واحد لكل القراء , إنما تتفـاوت بتفـاوت مسـتوياتهم الثقافية , واختلاف أذواقهم , كما تتفاوت القراءات والتأويلات لنصٍ واحـد . فقـد اتفـق الشكلانيون الروس على أن الآثار الأدبية الفذة هي تلك التي تتحمل عدداً لا يُحصـى مـن التأويلات بفضل ما في خصائصها الصياغية من كثافة خلاقة (53) .   

  وإذْ يؤسس ( ياوس ) للحظةِ الفهم التي تحدثنا عنها , فانه يسعى إلى أيـجادِ تآلف ٍ متواز بين الحقيقة الجمالية والمقصد التاريخي , وهما ما  ينهـض عليهمـا كـل إنشاء ٍ أدبــي (( فالحقيقة الجمالية جسر إلى المعنى وليست تابعة له )) (54) .

 

 

 

 

 

 

 

   وكما يزعم ( ياوس ) فانه لا يكمن الحديث عن فهم ٍ  إلا حينما يكون النص جوابـا علــى سؤال , فهو يدلنا على ما كان للقراء من مشاكل زمن كتابة الكاتب لنصـه قي عصرٍ من العصور ؛ لذلك فان لحظة التأويل هي : إدراك للمعنى من خلال المجاز . والفهم التاريخي هو وعي لمنزلة النص ضمن صيرورة المجتمع التاريخي (55) .

    ومن شروط الفهم , يجب أن يكون شاملاً , فهو ليس مجرد توضيح أو إجلاء لمقـاطع نصية غامضة , بل كل شيء غامض في النص , من جهة كونه يحتاج إلى تنزيل في سياقه التاريخي والاجتماعي .

    ويرى ( كانت ) أن وظيفة المؤول تتمثل في فهمه للكاتب , أكثر مما فهم نفسه ومعنى ذلك أن الفهم عنده عملية تشريح نفسي مُنَزّل في سياق اجتماعي (56) .

    من كل ما تقدّم نتوصل إلى حقيقة القراءة , والتأويل من حيث هما مفهومين مختلفين في الدلالة , والوظيفية , فالقراءة فعل يستدعيه فعل الكتابة , هـذا  الفعل هو الذي يخلق التذوق الأول للنص , وهي – أي القراءة – الجسر المؤدي إلى لحظة الفهم المؤدية بدورها إلى تأويل النص والكشف عن معناه المستتر , ولذلك يمكن أن نقرر مطمئنين أن القراءة وسيلة غايتها التأويل ؛ لذلك لسنا مع من يجعل القراء ة والتأويل مصطلحين لمفهوم واحد .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

    

 

د- محاولة تحديد المصطلح :

 

   في البدء لابد من الإشارة إلى أن الباحث في الهير مينوطيقا  أو فـن التأويـل يُصـاب بالدوار , والحيرة أمام التعاريف الكثيرة ( العربية , والأجنبية )  التي تشتبك أحياناً وتفتـرق أخرى , وتعمل جاهدة على إضاءة المصطلح  , فلا تزده إلا غموضـاً  وضبابيـةً واضطراباً , إلا ما ندر منها , واعتقد أن العامل الأول في هذا التباين والاختـلاف , والتشويش يعود إلى عامل الترجمة المضــاعفة (57) فقد تُرجِمَــت مفــردة ( هيرمينوطيقا ) بـ ( التأويل ) و( علم التأويل ) ومنهم من ترجمها بـ ( التفسير ) بينما ترجمها آخرون بـ ( فن التأويل ) . والحقيقة أنّ لكل مصطلحٍ من هذه المصـطـلحات مفهوماً مغايراً للمصـطلحات الأخرى ؛ لذلك سـنتطرق إلى تعاريـف ومفـاهيم هذه المصطلحات بشيء من التفصيل.

    الهيرمينوطيقا  هي : (( فن التأويل وهي تطرح نفسها في مواجــهة الموضـوعات التي تفترض أنها تمتلك معنىً عميقاً  لا يمكننا إدراكه , حيث تقترح الهيرمينوطيقا تحديد ما تريد هذه الموضوعات قوله حقيقيةً )) (58) .

    أي أن المعنى الطافي على السطح ليس هو مجال اشتغالها , ويقدم لنا ( كادامير ) وظيفـة المؤوِّل على أساس أنها (( الكشف عن دلالةٍ , أصلية ٍ تماماً متوازنة فـي المكتـوب المراد معالجته )) (59) .

وهناك مجموعة ضوابط أو عناصر يشترط كبار المنظرين للهرمينوطيقا توفرهـا فـي القراءة التأويلية . هذه العناصر  , أو الضوابط هي : (60) .

1-   الفرضية . وهي المعرفة القبلية للنص .

2-   المقصدية .

3-   الدائرة الهيرمينوطيقية .

4-   السَّياق .

5-   تأويل النص لا استعماله .

 

 

 

 

 

 

 

   وكي نتعرف على أهمية هذه العناصر , فأننا ستناول كل واحدة منها بالتفصيل :

1-  الفرضية : هي المعرفة الأولية للنص , وهذه المعرفة تعد من أبجديات الإدراك الجمالي للنص , ومن دونها يستعصى النص على الفهم وهي تنطلق من معارفنـا السـابقة فتأويل نص أدبي يفترض معرفة أولية بخصائص وتقنيات الجنس الأدبي الذي ينتمي إليه النص , إذ إن (( التأويل ليس رجماً بالغيب أو تقويلاً اعتباطياً للنصوص على وفق هوى المؤوِّل ؛ بل هو نشاط ينطلق من ظاهر النص إلى الخفايا التي ينطوي عليها ؛ بسبب نظامه وتوتر لغته وإيجازها وتكثيفها )) (61) .

2-  المقصدية : وهي عنصر مهم , إذ لا يمكن (( أن نتحدث عن تأويـل مــا لم نفترض سلفاً قصد المؤلف بوجهة ذلك التأويل )) (62) . وهو أمر ينبغي الوقوف عنده ملياً لا سيما بعد ارتفاع الأصوات المجارية للنقد الغربي فيمـا يدعيـه ( بارث ) بـ ( موت المؤلف ) مما يلغي مقصدية إنسانية ويضعنا وجهاً لوجه أمام تصور عدمي بامتياز (( إذ إن التأويل إنما هو محاولة إعادة بناء القصد الأصلي للمؤلف بأيةِ بنيةٍ نتوصل إليها )) (63) . وهكذا فالمقصدية أخص من الفرضية التي تتعلق بالتمييز بين الأجناس الأدبية من حيث معرفتنا الأولية , إذ من السخف أن نؤول النصوص وكأنها دون مؤلفين , فهل يمكن أن نقرأ معلقة امرئ ألقيس في إطار سياسي أو مقصدية أيدلوجية , أو أن نقرأ حسان في إطار مقصدية عمر بن أبي ربيعة ؟ (64) .

3-  الدائرة الهير مينوطيقية : وهي أداة منهجـية تتنـاول الكـل فـي علاقتـه بأجزائـه والعكس ,أي إن فهم المعنى الذي قصده المؤلف يقود إلى فهم النص المراد تأويله , بوصفه كلاً , وهذا لا يمكن فهمه إلا من خلال فهم أجزاءه المكوِّنة له .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

4-  السَّياق : للسياق أهمية كبرى في العملية التأويلية , فأي نص يواجه المؤوِّل لا يمكن أن يواجهه بمعزلٍ عن سواهُ من النصوص , وقد ميز الباحثون بين ثلاثةِ أنواعٍ من السياق :

أ‌-     السَّياق المقامي : ومُثّل له بأسباب نزول الآيات القرآنية .

ب‌-  السَّياق النصــي : إذ يـرى اللسـانيون أن المعنـى فـي النص خاضــع لعملية التركيب سواء على مستوى الجملة أو على مستـوى الخطاب , وبموجب ذلك يكـون فهم اللاحق مستنداً إلى فهم السباق .

ج – السَّياق التاريخي والثقافي .

5- تأويل النص لا استعماله : وملخصها كما يقول ديلتاي : (( ينبغي أن نفهم النصوص انطلاقاً من النصوص نقسها , وليس من المذهب الذي ننتمي إلية )) (65) . ويجب أن نميِّز بين استعمال النص , وتأويل النص , فاستعمال النص : أن يلوي المــؤول عنق النص لمفاهيم ينطلق منـها هو وتخدمه هو , وهذه ظاهرة قديمة شاعت في تراثـنا العربي الإسلامي خاصة عند الفرق الكلاميــة التي بدأت بتـأويل القرآن الكريــم انطلاقاً من وجهة نظرها (66) .

   ومما يستوجب الذكر أنّ العملية التأويلية ليست تلقياً ساذجاً إنما هي مساهمة واعية فـي إنتاج وجهة النظر التي يحملها النص . ويرى ( بول ريكور ) أن التأويل نظرية للمعنى المتعدد ليس هدفها (( أن نجعل نصاً ما يدل على شيء آخر فحسب , ولا يدل على كل ما يستطيعه ؛ بل أن يبرز ما أُسميه اليوم علم النص )) (67) .

    والتأويل حسب تودوروف هو

  • Currently 3/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
2 تصويتات / 18890 مشاهدة
نشرت فى 30 إبريل 2012 بواسطة aylaabd

ساحة النقاش

عدد زيارات الموقع

35,913