هذا خطاب موجه إلى الجماعة القانونية المصرية المهتمة بأمر الشرعية والدستور، وإلى جماعة النخب الثقافية والسياسية فى مصر المهتمة بأمر استقامة عمل الجماعة القانونية المصرية، وإلى جماهير المصريين الذين يهمهم أمر استقامة نخبهم وأمر استقامة مسألة الشرعية والدستور.
كان هم الدستور هماً حاضراً فى وجدان المصريين، يتذكرونه بمرارة كلما طافت بخاطرهم ذكرى التعديلات الدستورية التى أجهضت كل أحلام الديمقراطية، والتى أُدخلت على الدستور عامى ٢٠٠٥ و٢٠٠٧، وبات واضحا أن الدستور قد أصبح- دون مواربة- مطية يمتطيها الرئيس السابق وجماعته من أجل تحقيق أهوائه ومطامحه السياسية فى توريث الحكم لنجله متحررا من كل قيد على سلطاته ومن كل قابلية للرقابة أو المساءلة، وقتئذ اسْتُهلكت طاقات النخبة الليبرالية فى حوارات غير مجدية عن التعديلات الدستورية، كان حوارا من أجل الحوار وحده، وكانت قافلة تعديل الدستور من أجل التوريث تمضى والمثقفون والساسة يصيحون ويعترضون كيفما تسنى لهم الصياح والاعتراض.
ثم جرى استدعاء أمر الدستور وتعديلاته مرة أخرى إلى حلبة الصراع السياسى بواسطة الرئيس السابق عندما اندلعت ثورة ٢٥ يناير، وكان التلويح بالتعديلات الدستورية أداة فى يد النظام السابق لإدارة الصراع مع الثوار وحملهم على التهدئة والانصراف فى مقابل تعديل المادتين ٧٦و٧٧، ولم يفهم الرئيس السابق ومستشاروه أن المصريين لم يثوروا من أجل تعديل بعض مواد الدستور بل من أجل إسقاط النظام بأكمله، ويأتى بالتبعية لذلك إسقاط دستور النظام وليس مجرد تعديل مادة أو عدة مواد منه.
بنجاح الثورة فى حمل الرئيس السابق على التخلى عن الحكم فى ١١ فبراير آثر الرئيس إلا أن يقرن تخليه عن الحكم بإعلانه استمرار ازدرائه للدستور وانتهاكه له، فتخلى عن الحكم على خلاف ما هو مقرر فى المادة ٨٣ من الدستور التى أوجبت عليه تقديم استقالته إلى مجلس الشعب، وأسند الرئيس السابق حكم مصر على خلاف ما نصت عليه المادة ٨٤، إلى جهة لا ذكر لها فى الدستور وهى المجلس الأعلى للقوات المسلحة.
ما هو وضع دستور ١٩٧١ بعد أن بادر الرئيس بانتهاكه فى آخر قرار يصدره؟ هل سقط الدستور؟ قد يصح القول إن مخالفة الرئيس السابق بعض نصوص الدستور لا تعنى سقوط الدستور، وقد نوافق على ذلك، فالدستور باقٍ رغم انتهاكه، ولكن الأهم من ذلك أن قبول المجلس الأعلى للقوات المسلحة القيام بأعباء الحكم على غير مقتضى الدستور ليس له إلا معنى واحد وهو أن المجلس لا يستند فى شرعيته إلى دستور ١٩٧١. فإلى أى شرعية يستند المجلس فى حكم مصر وفيما يصدره من قرارات تتعلق بإدارة شؤون هذا الحكم؟ ليس أمامنا لتبرير اختصاصات المجلس بالحكم سوى شرعية الثورة ذاتها باعتبار أن الشعب هو مصدر السلطات، وهذا ما ذهبت إليه المحكمة الإدارية العليا فى حكمها الأخير فى قضية الاستفتاء على التعديل، ويكمل هذا الاستخلاص استخلاص آخر ملازم له وهو أن دستور ١٩٧١ قد سقط إلى غير رجعة، إذ لو قلنا ببقائه لسقطت الشرعية عن المجلس الأعلى للقوات المسلحة ولدخلنا فى مأزق دستورى وسياسى لا مخرج منه، ومؤدى القول بسقوط دستور ١٩٧١ بمجرد تولى المجلس الأعلى للقوات المسلحة الحكم أن قراره بتعطيل هذا الدستور هو قرار منعدم لأنه وقع على غير محل، فقد عطل المجلس دستورا لا وجود له، ويثور السؤال حول الشرعية التى استند إليها المجلس فى الفترة ما بين تولى المجلس شؤون الحكم وقراره بتعطيل الدستور، أى فى الفترة ما بين ١١ فبراير، تاريخ تخلى الرئيس السابق، و١٣ فبراير، تاريخ تعطيل الدستور؟ هل كان يستند المجلس إلى شرعية الدستور؟ إذن فهو مجلس غير شرعى لأن الدستور لم ينص على هذا المجلس. أم كان يستند إلى شرعية الثورة؟ إذن فنحن أمام دستور لا وجود له بفعل الثورة. وقد أجمع فقهاء القانون الدستورى على أن الثورة تُسقط الدستور ولم يخرج عن ذلك القول أحد منهم (راجع- على سبيل المثال- كتاب الدكتور عبدالحميد متولى: القانون الدستورى والأنظمة السياسية، ١٩٨٩، ص ٧٤ وما بعدها).
فقرار المجلس الأعلى للقوات المسلحة بتعطيل الدستور هو قرار منعدم، كما قلنا، لوقوعه على غير محل، ولا يعرف الفقه عموماً، والفقه الدستورى على وجه الخصوص، ما يسمى تعطيل القانون أو الدستور، فالقوانين والدساتير توضع لتُنفّذ وإلا فلتُلْغ بواسطة من يملك الإلغاء، أما التعطيل المؤقت للقانون أو للدستور فلم نعثر له على ذكر لا فى كتب نظرية القانون ولا فى مؤلفات الفقه الدستورى، وإنما هو بدعة قانونية لجأ إليها فقهاء هذا الزمان لهدف لا نعلمه ولم نتبين مراميه. يتحدث السنهورى وحشمت أبوستيت فى كتابهما (أصول القانون) (ص ٢٥١) عن الإلغاء الصريح للقانون أو الإلغاء الضمنى له، ولم يتحدثا أو يتحدث أحد من الفقهاء عن التعطيل المؤقت للقانون، ويتحدث عبدالحميد متولى عن إلغاء الدستور بواسطة سلطة وضعه أو بفعل الثورة، ولم يتحدث أو يتحدث أحد قاطبة عن تعطيل الدستور بصفة مؤقتة.
شكّل المجلس الأعلى للقوات المسلحة لجنة أخرى غير التى كان الرئيس السابق قد شكّلها لتعديل بعض مواد الدستور هى بذاتها المواد التى كان الرئيس السابق قد عرض تعديلها فى صفقته التى أراد بها إجهاض الثورة . كان للرئيس السابق منطقه السياسى والقانونى فى الشروع فى تعديل الدستور، منطقه السياسى تمثل فى مناورته بالمقايضة على إخماد الثورة بالتعديل الدستورى، ومنطقه القانونى كان قائماً ومفهوماً فى الوقت الذى كان فيه دستور ١٩٧١ نافذا لم يسقط بعد، أما بعد سقوط الرئيس وتولى المجلس الأعلى للقوات المسلحة الحكم بشرعية الثورة وحدها، وعلى خلاف ما ينص عليه الدستور، فلم يكن ثمة منطق سياسى أو قانونى لا لتعطيل الدستور ولا لتشكيل لجنة لتعديل الدستور الساقط الذى عُطّل.
كان من المأمول أن تتصدى لجنة تعديل الدستور، وهى تضم كوكبة مرموقة من شيوخ القضاء وفقهاء القانون، لهذه المسألة الأصولية المبدئية، ويعلم رجال القضاء والقانون أن بحث القاضى فى مسألة ولايته يسبق بداءة البحث فى الموضوع لكونه يتعلق بمفهوم النظام العام وبمشروعية ما هو مقدم عليه من عمل، ولكن اللجنة تجاوزت عن هذا البحث الأصولى رغم ضرورته وبداهته، وانطلقت فى مهمتها فعدّلت بعض المواد المتعلقة بانتخاب رئيس الجمهورية وبتعديل الدستور وتغييره ووضع دستور جديد. وبعيدا عن خلافنا أو اتفاقنا مع ما انتهت إليه اللجنة من تفصيلات فى هذه المادة أو تلك، فلاشك أن جهد اللجنة قد أسفر عن نتائج لم تكن تدور فى خلد المصريين منذ أسابيع مضت، وكانت تُعتبر من قبيل الآمال والأحلام المستحيلة، أسفر عمل اللجنة عن تحرير نصوص الترشح لمنصب الرئيس من قيود ثقيلة كانت موضوعة لهدف يعلمه المصريون جميعا،
ومع ذلك فقد كان أمرا مثيرا للتأمل ثم للريبة ثم للتوجس أن تتضمن التعديلات نصاً مستحدثاً حمل رقم ١٨٩ مكرر يوجب على الأعضاء المنتخبين فى أول مجلسين للشعب والشورى أن يشكلوا لجنة من مائة عضو لوضع دستور جديد، وكان اللافت للنظر وفقا لمقتضى تعديلات المادة ٧٦ أن انتخابات مجلسى الشعب والشورى يجب أن تجرى أولا قبل انتخاب الرئيس. معنى هذا أن مجلسين للشعب والشورى سينتخبان بعد شهور قليلة مطلوب منهما أن يشكلا لجنة من داخلهما أو من خارجهما أو لجنة مشتركة لوضع دستور جديد، ولم تقيد المادة ١٨٩مكرر مجلسى الشعب والشورى بأى ضوابط أو معايير فى تشكيل لجنة وضع الدستور كأن تكون هذه اللجنة ممثلة لكل تيارات الأمة وشرائحها وطوائفها. لقد جعل النص المقترح سلطة المجلسين مطلقة فى تشكيل لجنة وضع الدستور الجديد، فلا غرو إذن أن شاع اعتقاد بين الناس أن مجلسين سيُنتخبان من القوى الجاهزة تنظيميا، وهما الإخوان المسلمون والحزب الوطنى، سيتحكمان فى مستقبل البلاد لعقود مقبلة عن طريق إطلاق أيديهما فى تشكيل لجنة وضع الدستور.
ومما أكد هذا الظن وزاده رسوخا لدى قطاعات واسعة من المصريين أن القوى السياسية الوحيدة التى أعلنت قبولها التعديلات هى الإخوان المسلمون والحزب الوطنى ومن شايعهما من التيارات الدينية، وأخذت المعركة الدعائية الإخوانية فى الدفاع عن التعديلات منحى حماسيا مثيرا للدهشة وللريبة معا، إذ أخذ ممثلو الإخوان يروجون بحماس زائد لهذه التعديلات كما لو كانت المسألة مسألة وجود وليست مسألة خلاف سياسى أو قانونى على نصوص ذات طابع فنى بحت لا شأن لثوابت الدين أو فروعه بها، وإلا فليدلنى أحد على دليل شرعى يرجح شروط الترشح لمنصب الرئيس أو مدد ولايته أو إشراف القضاة على انتخابه على هذا النحو دون ذاك، وتم الترويج لدعاوى كاذبة أن المادة الثانية من الدستور فى خطر من عدم الموافقة على التعديلات، وأن المصوتين بعدم الموافقة يتنكرون لواجبهم الشرعى، مما أكسب الاستفتاء على التعديلات طابعا دينيا غريباً عنها، بل وطابعا طائفيا ما كان يجب أن يكون،
وتساءل البعض: إذا كانت مسألة الإيمان وعدم الإيمان قد طُرحت عند الخلاف القانونى على تعديلات فنية، فكيف يكون الأمر إذن عندما يصل ممثلو التيارات الدينية للحكم وتعرض أمور تدعو للخلاف السياسى أو الفكرى؟ ألن تكون مقاصل التكفير جاهزة للمعارضين فى الرأى رغم كل دعاوى الدولة المدنية التى سبق رفعها، كان هذا هو الاختبار الأول فى الديمقراطية الذى رسب فيه الإخوان المسلمون عن جدارة.
ما علينا، طُرحت التعديلات للاستفتاء، وجاءت النتيجة فى صالح الموافقة عليها بأغلبية كاسحة، وخرج كُتّاب التيار الإسلامى يعلنون الشماتة والاستخفاف بمن قالوا لا من ممثلى التيارات الأخرى، وطالبهم بعض الشيوخ بحجز تأشيراتهم للهجرة خارج الوطن لأن البلد قد أصبح بلد التيار الإسلامى وحده، فهل كان المصوّتون على التعديلات بعدم الموافقة على حق إذن فى توجسهم من أن هذه التعديلات تخفى فى طياتها نذرا بوضع دستور يهدد مدنية الدولة؟ ورغم ذلك فقد اتهمهم شيوخنا الأجلاء من كبار المؤرخين والفقهاء بأنهم خائفون من الديمقراطية، وتجاهل المحذرون من الخوف من الديمقراطية ما سبق أن رددوه فى كتاباتهم السابقة من أن الديمقراطية ليست مجرد صندوق انتخابى بل تتطلب بنية أساسية من الأحزاب السياسية القادرة والنقابات الفاعلة ومنظمات المجتمع المدنى المؤثرة فى إطار عام من حرية التعبير والتنظيم، الديمقراطية بحق ليست قفزا على الواقع بنصوص لا يحتملها الواقع، وليست انتهازا للفرص السياسية، وليست إشاعة للشحناء والبغضاء بين أطياف الأمة، وليست تديينا للخلافات القانونية والسياسية بل هى ضد ذلك كله.
انتهى غبار معركة مفتعلة للاستفتاء على التعديلات استعرضت فيها القوى المؤيدة للتعديلات عضلاتها لغير ما هدف إلا مجرد إظهار القوة حول قضية تحتمل ألف اختلاف، وجاء وقت جنى الثمار والغنائم وتمخض الأمر على أنها معركة بلا نتائج أو غنائم. معركة دارت بين طرفين: تيارات اكتسبت قوتها تاريخيا من تحدى الشرعية، وأخرى أدى طول امتثالها لأطر الشرعية إلى ضعفها وهزالها.
كان مؤدى إقرار تعديلات الدستور أن يعاد الدستور إلى النفاذ بنصوصه المعدلة وغير المعدلة، وأن يُفك أسر التعطيل المؤقت، هذا هو مقتضى المنطق القانونى واللغوى للفظ التعطيل أو الإيقاف، التعديل لغة فى معاجمها هو تقويم الشىء وإصلاحه ليصبح معتدلا بعد أن كان معوجا (راجع مختار الصحاح، مادة عدل). ولا تعديل إلا لما هو قائم، ولا إصلاح لمعدوم، والتعديل قانونا هو إلغاء جزئى لبعض نصوص القانون وإبدال غيرها بها مع بقاء باقى نصوص القانون على حالها، ولكننا فوجئنا بمعنى آخر للتعديل، إذ خرجت التصريحات من المجلس الأعلى للقوات المسلحة ومشرعيه بأن الدستور المعطل لن يعود للعمل وإنما ستعود النصوص المعدلة فقط مضافا إليها بعض النصوص الأخرى التى تحكم الفترة الانتقالية لتشكل كل هذه النصوص المعدلة والمستفتى عليها والنصوص المضافة غير المستفتى عليها، إعلاناً دستورياً ينفذ حتى وضع دستور جديد، وسادت مصر حالة من الدهشة الجماعية البالغة، وبديهى أن يثار السؤال: لماذا كان تعطيل الدستور إذن ولم يحدث إلغاء له منذ البداية ما دمنا لن نعيده للحياة أبدا؟ ولماذا كُلفت لجنة من الفقهاء بتعديل بعض نصوص الدستور ولم تُكلف هذه اللجنة بصياغة إعلان دستورى متكامل؟ ولماذا كان الاستفتاء على بعض النصوص مع عدم استفتاء الشعب على نصوص أخرى ستوضع فى الإعلان الدستورى وقد تنطوى فى الغالب على حسم رؤى وخيارات سياسية؟ الإجابة عن هذه الأسئلة لن نعثر عليها فى أدبيات فن صناعة القانون إلا إن كانت من قبيل الأسئلة الاستنكارية، ولكننا قد نجد هذه الإجابات فى السياقات والنتائج السياسية المترتبة على منهج إدارة المسألة الدستورية، إذ لو عاد دستور ١٩٧١ للنفاذ بعد تعديل بعض نصوصه فسيفقد المجلس الأعلى للقوات المسلحة شرعيته، لأن الدستور حتى فى نصوصه المعدلة لا يمنح المجلس العسكرى أى شرعية، بل سيعود أمر الرئاسة المؤقتة إلى رئيس المحكمة الدستورية العليا الذى عليه أن يجرى انتخابات الرئيس قبل ستين يوما من تاريخ خلو المنصب (م ٨٤)، وهذه نتيجة لا يمكن تحملها سياسياً، (ولمجرد العلم كان من الممكن تدارك هذا المأزق بنص مؤقت يضاف للتعديلات يعطى صلاحيات للمجلس الأعلى للقوات المسلحة حتى انتخاب الرئيس الجديد).
■ ■ ■
يقينى أن المؤرخين لاحقاً لهذه الفترة من تاريخ مصر الدستورى ستعتريهم الدهشة والعجب من تعامل المصريين، ساسة وقانونيين، مع مسألة الدستور عقب ثورتهم فى ٢٥ يناير ٢٠١١. وربما يجد بعضهم ضالة حيرته لدى علماء النفس الاجتماعى بقولهم إن حالة من التلعثم والارتباك الاجتماعى قد أصابت المجتمع المصرى فى هذه الفترة الحرجة من الزمان، هذا إن افترض المؤرخون اللاحقون حُسن نية المُشرعين والساسة السابقين.
ساحة النقاش