صنمٌ يكثر ويتردّد الحديث عنه وعن مآثره وفضائله، ولا تكاد تسمع عنه أي عيبٍ أو نقص. قوله حكمة، وقرارته لا يقربها الخطأ ،والجميع يقف له إكبارا وتعظيما.

صنم يصنعه الإنسان أو المجتمع ككل ثم يعبده، بينما هو يستمرئ المقام الذي وضُع فيه فيتمسّك به ويحافظ عليه بكل ما أوتي من قوة وبشتى الوسائل.

لا يسأل عمّا يفعل وهم يسألون، يتحدث ويجبرهم على الاستماع ويكره أن يسمع رأي الآخرين فيما قال عدا التصفيق والمديح!
صنم آدميّ خُلق من الطين ويعود للطين، يأكل ويشرب وينام، وله عقل لا يختلف عن عقولنا ,يعبد ذاته والمجتمع يعينه على ذلك ,سلّم له الأعناق والعقول والمقدرات حتى استهان وعبث بها واستغلّها في تضخيم صنم ذاته وتقديم القرابين لها.

تجده على كرسيّ الحكم وخلف مكتب الرئيس أو المدير وفي حلقات الدرس وطلب العلم ,في مجلس القبيلة وعلى مقعد الأبوة
إنه ذلك الصنم الذي يمكن أن يكون جهاز دولة أو مؤسسة اقتصادية أو إعلامية أو علمية أوثقافية أو هيئة دينية أو فرد يتحرّك ضمنها. صنمٌ خطيرٌ جداً يصعب اجتثاثه وتحطيمه إلّا بقوةٍ ضاغطةٍ تتمكّن منه.

فجميع الأصنام التي ذكرناها سابقاً والتي سنذكرها لاحقا بقوّة العقل والنفس وبعون الله تعالى يمكننا نسفها، أما هذا الصنم فله شأنٌ آخر,لأن الجماعة سواء أكانت أسرة أو أفراد قبيلة أو شعب أو عملاء أو طلّاب علم قد وَضعت آمالها وكل ما تملك رهينةً في يده كشخص أو مؤسسة ستعمل على تحقيق أهدافهم وفق المبادئ المرسومة ,فإما أن يصون الأمانة ويكون بقدر المسؤولية ويشاركهم الهموم والآمال وإما أن يخونها فيعثوا في الأرض فساداً فينهب ويسرق ويستضعف ويُذل ,ويحولهم إلى عبيدٍ وخدم له مستغلّاً ضعفهم وحاجتهم إليه.
 

يقتات صنم القائد وينمو ويترعرع على الصمت ،فكما يقولون السكوت علامة الرضا!
وهو صنمٌ يعبده المطبِّلون والمزمرون والمنافقون الذين يستفيدون من بقاياه وفتاته.. وأولئك الذين يغرقون في الجهل والجهالة يرون في الدكتاتور هويتهم الضائعة ومثلهم الأعلى الذي لا تخفى عليه خافية ,وإن ضرّهم وضيق عليهم وسلبهم لقمة عيشهم باسم الأمن أو الدين أو التاريخ (صنم) أو باسم أمورٍ أخرى لا يحيط بها سواه –كما يدّعي! فيحيط بها نفسه ليصنع له هالةً يَصعب اختراقها.

وهو يحافظ على ذلك المقام بكل ما أوتيَ من قوةٍ بشراء الضمائر وتفريق الجماعات وزرع الفتن وإثارة البلابل وخلق الأعداء الوهميين، وزراعة من يقوم بمراقبة المجتمع ومعاقبة كل من يجرؤ على مخالفة أوامره أو آراءه.
 صنمٌ يفرض سلطانه بقوّة السلاح والمال والتفوّق العلمي والمعرفي الذي يبهر الجماهير في البداية فيستعبدهم بها فيسلِّموا ويخضعوا له.

 

صحيح أن صنم القائد صعبٌ وعصي ولكن تحطيمه ليس مستحيلاً

فعدوّه العلم والعقل والنقد والإبداع والمشاركة والحرية والعدالة والمساواة والقلوب المتيقظة..

فاحذروا صناعة هذا الصنم وحطموه إن كان موجوداً بهذه الأسلحة!

واحذروا إعادة تشكّله من جديد فإنه يبذر له بذوراً في المكان الذي ينبت فيه ,ويترك له بقايا آدمية وفكرية متغلغة يُمكن أن تعيد ذات السيناريو إذا غفل المجتمع عن اجتثاثها ,وما الثورات والإنقلابات والصراعات التي تُحدث مرحلة انتقالية وتغييرية في المجتمعات والمؤسسات والدول وداخل الذات إلا محاولةً جادّة لتحطيم ذلك الصنم والإنفصال عن سلطته الذي يعكس المفاهيم ويخلط الأوراق ويكبّل العقل والجسد بنظرته الضيقة للواقع ,لتحاصره في مساحة ضئيلةٍ جداً تمنع تنفّس الإبداع وتفعيل الذات وتصحيح الأخطاء ومراجعة المسار.
 

لقد أدرك أول خليفة راشد ورث الحكم بعد نبيّ هذه الأمة محمدٍ صلى الله عليه وسلم خطورة هذا الصنم ,ولم يشأ أن يكون أو يُصنع منه صنماً يُعبد ..فقال أبو بكر في الخطبة التي ألقاها مع توليه الخلافة : (فإِن أحسنت فأعينوني، وإِن أسأْت فَقوِّموني)

أعينوني بمعنى المشاركة ,وقوّموني بمعنى النقد ,وكما ذكرنا أنهما من أسلحة مقاومة هذا الصنم ومنع تشكّله وعبادته في الخفاء.

وقد قاوم عليه الصلاة والسلام عبادة هذا الصنم كما فعل صحابته من بعده ,حينما حرص على استشارة أصحابه في مختلف المواقف وأصعبها أيضاً ,فاستشار زوجته أم سلمة واستشار سلمان الفارسيّ وغيره من الصحابة ..هذا إلى جانب حرصه على أن يترك لهم حرّية التصرّف في كثيرٍ من الأوقات ,وكان أيضاً يعطيهم مبدأً أو أمراً دون الإغراق في التفاصيل والجزئيات ليطبقوه كما يرونه مناسباً.

وقد انتقد تبارك وتعالى أهل الكتاب في عبادتهم لهذا الصنم ,حين قال: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله ).

فتّشوا بينكم وفي عقولكم ,لربما اكتشفم صنماً قابعاً هنا أو هناك سلّمتموه عقولكم ومقدّراتكم دون مساءلةٍ أو مراجعة ,ظانّين بأنكم قد إتّكأتم على أريكة الراحة الأبدية ,بينما في الحقيقة تكونوا قد إتّكأتم على مزرعةٍ من الهموم والمتاعب المستمرّة ..وتذكّروا أنكم خلقتم لعبادة الله وحده دون سواه ,حينها ستكونون بشراً يتمتّعون بحريّة التفكير والحركة وستكونون خلفاء الله في أرضه كما ينبغي.

arwa7

علا باوزير

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 263 مشاهدة
نشرت فى 4 أغسطس 2012 بواسطة arwa7

ساحة النقاش

علا عمر باوزير

arwa7
من فكرٍ تمتد لنا آفاقه..وأدبٍ يطيب لنا مذاقه..وقّعت اسمي هنا..كانعكاساتٍ قابلةٍ للتعديل ..وضوءٍ يكون هنا دليل..وعزفٍ لحروفنا يروي أرواحنا الخصبة بالحب والعطاء.. »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

23,612