مقدمة
ها نحن، إذ ندخل القرن الحادي والعشرين، نرى بأن التموين الغذائي العالمي يخضع لتحولات سريعة ومتتالية. وللمرة الأولى عبر ملايين السنين، أصبح الإنسان والحيوان يتناولان أطعمة وأغذية غير طبيعية؛ أغذية لم تكن طوال تلك السنين تدخل في التموين الغذائي للبشرية. لقد قام الإنسان في الفترة الأخيرة بتغيير التركيب الأساسي للكائنات الحية، وخصوصاً تلك التي تُستخدَم كغذاء بشري وحيواني. وبتعبير علمي، قام الإنسان بتغيير التركيب الجيني للنباتات والأغذية المختلفة عن طريق استخدام تقنيات الهندسة الوراثية genetic engineering. كما أنه توجد محاولات لتعديل الجينات البشرية ونقل أعضاء معدَّلة أو محوَّرة جينياً ما بين الإنسان والحيوان – وهي تغييرات التي لم تشهد الطبيعة لها مثيلاً منذ نشأتها وتطورها.
إن الأغذية المهندَسة وراثياً Genetically Engineered Foods انطلقت بشكل غير منظور لتحل محل الأغذية الطبيعية في الأسواق وفي عالم التجارة. واليوم، قد تضم معظم الأغذية المكدَّسة على رفوف المتاجر وفي المطاعم، وحتى في محلات بيع الأغذية الطبيعية أطعمة وأغذية محوَّرة وراثياً.
ومن الجدير بالذكر أن الأغذية الحديثة (المعدَّلة وراثياً) لم تخضع بعد لدراسات وتجارب تبين أثرها على صحة الإنسان وعلى البيئة على المدى البعيد!! – حيث توجد وجهات نظر عديدة حول الموضوع وتُعقَد المؤتمرات العالمية لبحث مختلف نواحيه، آخرها المؤتمر العالمي الذي عُقِد في سياتل في الولايات المتحدة الأمريكية في تشرين الأول 1999 والذي لم يخرج الباحثون منه بأية نتائج ملموسة أو توصيات محددة لوقف أو استمرار العمل في هذا المجال.
ومن جهة أخرى، لا يعلم المواطن المستهلك شيئاً عن ماهية هذه الأغذية ومن يقوم بإنتاجها وهل لها تأثير على صحة الإنسان وعلى البيئة بشكل عام؟ وما هو السبيل لتجنب آثارها الضارة؟!
*
ما هي الجينات وما هي وظيفتها؟!
الجينات (أو الموَرِّثات، كما يسميها بعضهم) هي أجزاء دقيقة جداً في خلايا الكائن الحي مسؤولة عن الخواص المميِّزة لكل كائن حيّ على حدة. والجينات هي المكان الذي يتم فيه خزن جميع المعلومات عن كل عملية كيميائية-حيوية تجري داخل الكائن الحي. وموقعها على الحمض النوويDNA الذي يشكل سلسلة مكونة من أعداد لا تحصى من الجينات التي تحمل الصفات الوراثية للكائنات الحية. الـ DNA إذن هو الطبعة الأصلية blueprint أو البصمة الوراثية، وهو أساس بناء جميع الكائنات الحية. والجينات مهمة أيضا من حيث موقعها في سلسلة DNA، سواء بالنسبة لموقعها في الكروموسومات، أو بالنسبة لمكانها في الخلية أو في جسم الكائن أو في المحيط الفسيولوجي لها أو النشوئي بشكل عام.
إن المادة الوراثية الكلية (الجينوم Genome) للإنسان تحتوي على أكثر من مئة ألف جين (مورِّث gene)، ربما تشكل نحو 5 % من حوالى 3,5 بليون زوج من القواعد النتروجينية المكونة لسلسلةDNA في الجينوم البشري الفردي. ومعظم هذه السلسلة غير مترجمة وتقع ما بين الجينات نفسها وسميت "المباعِدة" spacer، أي التي تترك مواقع فارغة، وتسمى أيضاً "حشوة" الـDNA أو الرَّمَم Junk DNA. وهذه المواقع الفارغة يمكن استخدامها في شكل ما جديد (Mark V. Bloom, Ph.).
إن الأجزاء الكبرى (غير المترجمة) من سلسلة DNA، وربما 99 % منها في بعض الجينومات، تظهر وكأن ليس لها أي عمل محدد، أو أنها لا تحقق أية غاية وليس لها أي هدف سوى مضاعفة وتكرار نفسها على مدى بقية الجينوم. لذا فهي تسمى أيضا أجزاء سلسلة DNA الأنانية (Mae-Wan Ho, Prof.) (53، 54) (2).
كيف يتم تعديل الأغذية؟
لقد توصل العلماء إلى أساليب يستطيعون بواسطتها التصرف بالجينات من حيث فصلها وتركيبها وإعادة بناء سلسلة DNA كما يشاؤون> يصبح عندها الكائن الحي الذي تم تغيير سلسلته الوراثية كائناً معدَّلاً وراثياً genetically modified (GM)، أو بعبارة أخرى، كائناً مغيَّراً وراثياً Genetically Altered (GA). وبطرق معينة وفي ظروف المختبرات، يتم قطع الجين الذي تم اختياره من أحد الكائنات (وهذا الجين يحمل صفة معينة يراد نقلها إلى كائن حي آخر) وغرسه في سلسلة DNA لكائن حي آخر (ليست لديه تلك الصفة). وهناك عدة طرق مستخدمة حتى هذا الوقت لهذه الغاية (Glausisuz, 1996) (18، 19) نذكر منها:
أولاً. استخدام أنواع معينة من الفيروسات تسمى Retroviruses، وهي عبارة عن فيروسات تعمل على تحويل الحمض النوويRNA إلى الحمض النووي DNA بواسطة إنزيمReverse Transcriptase، وباستخدام كائنات أخرى تسمى Retrotransposons.
ثانياً. إطلاق الجينات بواسطة مسدس خاص يحتوي على غاز الهليوم غير المشتعل عن طريق رصاصة من الذهب تحمل الجين المطلوب نقله، وتسمى هذه الطريقة بـ الباليستية balistics وتستخدم بشكل خاص على القمح والأرز.
ثالثاً. استخدام الليبوسومات Liposomes، وهي عبارة عن جسيمات دهنية مفرغة.
رابعاًَ. استخدام بكتيريا من التربة تسمى Agrobacterium tumefactions.
خامساً. استخدام خلايا نباتية تسمى البروتوبلاست Protoplasts.
وهذه الطرق والأساليب قائمة على تطوير أو تغيير النبات بمعاملة خلية واحدة فقط أو نسيج نباتي وزراعته لإنتاج النبتة المطلوبة. وهكذا يتم تغيير أو تبديل نوعية النباتات والمحاصيل الزراعية المختلفة التي تشكل أساس الغذاء والطعام للإنسان والحيوان.
ماذا حققت الهندسة الوراثية وعملية نقل الجينات؟
لقد أسهم العلم الحديث في تقديم فوائد ومنافع جمَّة للمجتمع. فالتكنولوجيا الجديدة، كالصناعة الحيوية Biotech industry، وخصوصاً الهندسة الوراثية، لها أبعاد إيجابية عديدة. فعلى سبيل المثال، يستخدَم الحمض النوويDNA حالياً على نطاق واسع في مجالات عدة، منها الطب والقضايا الجنائية، كتحليل الدم وسوائل الجسم، والإسهام بشكل فعال في تحرير وإطلاق سراح أعداد لا حصر لها من أفراد كانوا متَّهمين بجرائم لم يرتكبوها. وبشكل مماثل أيضاً، تأخذ الهندسة الوراثية مجراها في حل مشاكل تخص الأبوَّة والأنساب في المحاكم، وذلك على أسس الفحص الجيني. بالإضافة إلى فوائدها في الإناسة Anthropology وعلم الآثار Archeology وفي مجال التعدين في استخراج الذهب والنحاس وغيرهما من المعادن، وذلك بتطوير واستخدام كائنات محوَّرة وراثياً. وأيضاً في مجال تنقية قنوات تصريف الزيوت والمياه لإبطال تأثير الملوِّثات الخطرة. كما يتم استخدام بعض الكائنات المعدَّلة وراثياً في امتصاص الإشعاعات المختلفة. كما تم تطوير بكتيريا معدَّلة وراثياً من أجل استخدامها لتحويل النفايات والفضلات بهدف إنتاج الوقود وحقول اقتصادية أخرى.
وماذا عن النباتات المعدَّلة وراثياً وعن الأغذية المنتَجَة منها؟
في عام 1992 أعلنت إدارة الغذاء والدواء الأمريكيةUS FDA أن التشريعات الخاصة بالأغذية المهندَسة وراثياً سوف لا تختلف عن التشريعات الموضوعة للأغذية التقليدية. لقد أحدثت صناعة الأغذية الحيوية Biofoods industry تحولات في الزراعة الأمريكية، بحيث لم تعد تخضع في الواقع لأية أنظمة أو قوانين أو لأي إشراف أو مراقبة، ولا حتى لأي اهتمام بالرأي العام وبالأضرار التي تحيط بكل ذلك.
ولما تبصَّرت الجهات المختلفة في الولايات المتحدة الأمريكية، كالمؤسسات العلمية والبيئية والدينية وإدارات الصحة العامة، وأخذت تزِن الأمور المتعلقة بهذا الأمر، بدعم من المزارعين المتضررين والذين يزرعون على أسس طبيعية، ومن مستهلكي الأغذية الطبيعية، أصبحت الصناعة الحيوية نوعاً ما تتراجع وتنسحب (1). وفي خضمّ هذه التغيرات والمؤثرات المتتالية، الاجتماعية منها والاقتصادية والسياسية، غدت عملية الإشارة إلى بعض المواد الغذائية أمراً لا بد منه لبيان نوعيتها من حيث إنها معدَّلة وراثياً أم غير معدَّلة!
وقد بدأ الاهتمام في الآونة الأخيرة بالموضوع وقامت مجلات وصحف رئيسية معروفة[1] بتغطيته من جوانب عديدة أيضاً، وخصوصاً من الجوانب ذات العلاقة بالحرب التجارية، التي لاحت في الأفق ما بين الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي في هذه القضية.
إن معظم دول العالم، وبشكل خاص الدول الأوروبية، بدأت بمراقبة التكنولوجيا الجديدة في محاولات للحد من النشاطات غير المرغوب فيها. نذكر بهذا الخصوص مرض جنون البقر الوبائي الذي بسببه دعت جمعية الطب البريطانية إلى موراتوريوم – اتخاذ قرار رسمي بتعليق نشاطات إنتاج محاصيل وتطوير أغذية معدَّلة وراثياً وبشكل تجاري لحين إجراء دراسات وأبحاث وافية ومكثفة عليها وعلى أثرها على الصحة والبيئة.
ولقد دعا نادي سييرا Sierra Club ومنظمة الاتحاد الوطني للأحياء البرية National Wildlife Federation واتحاد المستهلكين Consumers Union ومؤسسات أخرى ذات اهتمام بالموضوع إلى وقف مثل هذه الأعمال. إضافة إلى أن العلماء يحذرون من زيادة العواقب المتعلقة بأمراض مختلفة، كأمراض الحساسية وأمراض نقص المناعة والسرطان وغيرها من الأمراض والعلل التي قد يسببها تناول أغذية معدَّلة وراثياً.
إن الأمر لدى حكومات بعض الدول لا يستدعي وضع ملصقات أو علامات تدل المواطنين على ماذا يبتاعون من المتاجر وماذا يأكلون في بيوتهم أو في المطاعم أو ماذا يزرعون في مزارعهم وفي حدائقهم المنزلية!
ما هي الدول التي تتعامل مع الأغذية المغيّرة وراثياً؟
إن الولايات المتحدة الأمريكية هي على رأس قائمة الدول الأكثر تطوراً في العلوم الحياتية وبالتحديد في الهندسة الوراثية، ومن أوائل الدول المنتِجة والمصنعة لهذا النوع من الأغذية.
لقد صارت أعداد لا تحصى من المنتجات الغذائية المغيَّرة وراثياً مستَخدَمة في مختلف أرجاء العالم. وفيما يلي جدول يبين الدول التي تُستَخدم فيها المحاصيل التي خضعت لتعديل جيني وأعداد هذه المحاصيل:
عدد المحاصيل المحوَّرة وراثياً |
الدولة |
50 |
الولايات المتحدة الأمريكية |
30 |
كندا |
22 صنفاً من 6 محاصيل |
اليابان |
9 |
الاتحاد الأوروبي |
3 |
الأرجنتين |
3 |
المكسيك |
2 (القطن والقرنفل) |
أوستراليا |
1 |
البرازيل |
1 |
جنوب أفريقيا |
1 (القطن) |
الصين |
تشير التقديرات بأن حوالى 360 مليون دونم من أراضي الولايات المتحدة الأمريكية مزروعة بمحاصيل مغيَّرة وراثياً. وهذا يشمل حوالى 55 % من فول الصويا و40 % من القطن و35 % من الذرة و 5 % من البطاطا.
وهناك شركات عديدة ومؤسسات مختلفة تتعامل مع الهندسة الوراثية، منها ما تنطبق على نتائج أعمال شركات منتِجة، ومنها شركات مميَّزة تقوم بإنتاج نباتات أو أغذية معدَّلة وراثياً بالتعامل المباشر معها؛ ومن أكبرها شركة مونسانتو Monsanto Company الأمريكية المشهورة بإنتاج وبيع المواد الكيميائية والهرمونات المختلفة. وفيما يلي أسماء للشركات والمؤسسات التي تتعامل بأشكال مختلفة مع هندسة الجينات : -
الشركات والمؤسسات التي تتعامل مع الهندسة الوراثية وتتطبق نتائجها
نورد فيما يلي أسماء الشركات العالمية التي تتعامل مع الهندسة الوراثية (6):
Agritope Ecogen, Plant Genetic Systems, Asgrow, Hoechst / AgrEvo Research Seeds, Calgene, Monsanto, Rhone Merieux, Ciba-Geigy, Mycogen, Rhone Poulenc, DeKalb, Northrub King, Sandoz, DNA Plant Tech, Novartis, Zeneca, Dupont, Petro Seed, Cornell Univ., Hawaii Univ.
الشركات المختارة التي تستخدم الأغذية المهندَسة وراثيا ونوع هذه الأغذية
فيما يلي أسماء لبعض الشركات وماذا تنتج من أغذية معدَّلة وراثيا:[2]
Company |
Food stuff |
Crisco |
shortenings |
Frito, Dorito, Tostito |
corn chips |
Green Giant |
harvest burger |
Isomil and Pro Sobee |
soy formula |
Kellogg’s |
corn flakes |
Kraft |
salad dressings |
McDonald’s |
french-fries |
Nabisco |
sundry |
Nestle |
chocolate |
Old El Paso |
taco shells |
Ovaltine |
malt beverage |
Parkey |
margarine |
Pillsbury |
sundry |
Procter & Gamble |
sundry |
Quaker Mills |
sundry |
Wesson |
vegetable oils |
وهكذا نرى بأن 50-60 % من الأغذية المصنعة في الولايات المتحدة الأمريكية تدخل فيها أغذية معدَّلة وراثياً أو أغذية مضافة إليها أجزاء مكوِّناتingredients من نباتات مغيَّرة وراثياً، وخصوصاً من المشتقات الثانوية لمحصولَي الصويا والذرة. وهذه تشمل سمن المارجارين والمايونيز ومرق توابل السلطات الذي يضاف إلى الأطعمة، والزبد (الدهن) والخبز والسلع المحمَّصة التي غالباً ما يتم تصديرها إلى الدول الأخرى.
لماذا يهمنا نحن هذا الأمر؟
إن الأمر يهمنا نحن أيضاً في البلاد العربية كغيرنا من الشعوب والبلاد الأخرى من الدول النامية، والمعتمدة اعتماداً كبيراً (وأحياناً كلياً) في غذائها على الدول المتطورة تقنياً، حيث تعتبر الدول النامية أسواقاً استهلاكية مربحة وحقول تجارب لترويج تقنيات الدول المتطورة، ولاسيما فيما يخص بذور المحاصيل والأطعمة المتنوعة. إن من يزور المتاجر، وخصوصاً الضخمة منها، يشاهد، أكثر ما يشاهد، المنتجات الأجنبية المستوردة من أغذية وأطعمة من أصل نباتي أو حيواني ومشروبات وملابس، يندر ما يكون منها منتج محلي أو بلدي. وحتى المواد الخام التي تعلِّب مصانعنا بها الأغذية المختلفة مادة مستوردة! وهذا يشمل محاصيل الحبوب والأعلاف المنتشرة في جميع أنحاء بلادنا التي معظمها مستورد ومجهول الهوية والنوعية.
إن تطبيقات الهندسة الوراثية في الإنتاج الغذائي وفي الزراعة ككل، وخاصة فيما يتعلق بنقل الجينات ما بين الأنواع المختلفة، محفوفة بالمخاطر. وفي ظروف بلادنا قد لا يلجأ بعض المتعلِّمين والمتخصصين إلى معارضة العلم وإنجازاته، أياً كانت، بشكل مباشر، خشية أن يؤثر ذلك على وضعهم العلمي والعملي والشخصي أحياناً، ولكي لا يقال عنهم إنهم يقفون ضد التطور التكنولوجي الهائل؛ ناهيك عن قلة اطلاع بعضهم على الموضوع وما يستجد حوله من أمور بشكلها الشامل.
إن المخاطر تكمن في عدم وجود دراسات وأبحاث على المدى الطويل في موضوع التقنية الحيوية، ولاسيما في مجال التأثير على الجينات لأنواع الكائنات الحية المتباينة – بالتعديل أو بالتحوير أو التغيير أو بالنقل. إذ لا سبيل في الوقت الحاضر إلى قياس تأثيرها على صحة الفرد وصحة المجتمع أو على صحة العالَم والبيئة ككل.
ومن جهة أخرى، تبين لنا الدراسات قصيرة المدىshort-term studies وجود نتائج خطيرة محتملة على الإنسان والحيوان والنبات. وخلافا للسلع الاستهلاكية الأخرى كالسيارات والأدوات الكهربائية وحتى العقاقير والأدوية فالمحاصيل الزراعية المهندسة وراثيا لا يمكن تصحيحها أو صيانتها أو إعادتها إلى ما كانت عليه عند اكتشاف أضرارها ومساوئها (1)، بل ستبقى على حالتها المعدَّلة تنمو وتتكاثر وتجري عليها الطفرات ناشرة جينات غريبة وفيروسات وسموم إلى مالا نهاية سيكون من الصعب جداً إلغاؤها إن لم يكن ذلك متعذرا تماماً.
إن الأخطاء الصناعية واللامسؤولة في منتجات الأغذية المحوَّرة وراثياً تشكل أيضا مشاكل كبيرة. فعلى سبيل المثال، تم تعديل محتوى الأغذية من مادة التريبتوفان tryptophan-1 (وهو عبارة عن حمض أميني أشير إليه بأنه مسكن طبيعي وعقار منوِّم) عن طريق هندسة الجينات، الأمر الذي تسبب في موت 30 شخصاً ممَّن تناولوا أغذية عُدِّلت فيها جينات هذه المادة، وإلى إصابة 1500 شخص بعجز دائم من جراء تلف أجهزتهم العصبية وإصابتهم بمرضeosinophilia mylagia syndrome أو EMS.
ما هي مجالات دراسات وتطبيقات الهندسة الوراثية؟
للهندسة الوراثية تطبيقات واستخدامات كثيرة في النبات والحيوان والإنسان. إلا أن ما يطبق الآن بشكل تجاري واسع هو في المجال الزراعي بمختلف فروعه (Jeremy Rifkin, 1998) (2، 16).
1. في مجال الإنتاج النباتي:
- تمت هندسة أنواع من المحاصيل الزراعية وراثياً لكي تصير مقاومة لمبيدات الأعشاب ومبيدات الحشرات والأمراض الفيروسية؛ وفي اتجاهات أخرى، كإنتاج نباتات ذات تركيبة فسيولوجية خاصة وغير ذلك تستطيع بواسطتها أخذ عنصر النتروجين من التربة بشكل مباشر.
- تجري دراسات لإنتاج محاصيل زراعية في المختبرات مباشرة باستخدام بكتيريا معدَّلة وراثياً.
- يتم إنتاج نباتات للاستفادة منها في تصنيع بعض المواد. فعلى سبيل المثال، صارت بعض النباتات بمثابة مصانع كيميائية بحد ذاتها: فقد أصبح البلاستيك الطبيعي polyhydroxyalkanoates يُنتَج بهذا الأسلوب، أي بأسلوب هندسة النباتات وراثياً لكي تعطي بلاستيكاً ضمن سيقانها والأوراق BIOINFO (2، 10).
- تتم هندسة حشرات جينياً لتعمل ضد آفات زراعية أخرى تهاجم المحصول وتقضي على هذه الآفات. كما توجد أفكار لمعاملة النباتات عن طريق هندسة الجينات بسموم العقارب لمقاومة الحشرات الضارة على هذه النباتات، وذلك باستخدام فيروسات حشرية معينة ومعدَّلة وراثياً، بحيث تموت الحشرة الضارة (والحشرات الملقحة أيضاً) بمجرد ما تتغذى على المحصول أو تمتص عصارة النبات Joseph Cummins, 1996 (2، 11) وكما نعلم فإن المحاصيل الزراعية تشكل مادة غذائية للإنسان والحيوان.
أ. في الولايات المتحدة:
- يتم إنتاج صنف بندورة مقاوم للصقيع باستخدام جينات من سمك الفلوندر القطبي (3).
- يتم إنتاج صنف من فول الصويا مقاوم لمبيدات الأعشاب، وبالتحديد مبيد الراوند-آب Roundup شديد السمية (الذي يستخدم في الأردن أيضاً). واسم الصنف Roundup-Ready Soybean. جاء في مجلة الأغذية الطبية Journal for Medicinal Foods بأن نتائج دراسة مستقلة تدل على أن فول الصويا المحوَّر وراثيا يحتوي على مادة فيتوايستروجين Phytoestrogens بنسبة تقل عن 12-14 % عن المحتوى الطبيعي لها في هذا النبات، علماً بأن هذه المادة ضرورية لأجل الوقاية من مرض السرطان وأمراض القلب (1).
- تم إنتاج صنف بطاطا مقاوم للحشرات، وخصوصاً حشرة خنفساء كولورادو Colorado potato beatle، وذلك باستخدام جينات من بكتيريا Bacillus thuringiensis أو Bt، واسم الصنف New Leaf (3، 4). وصنف آخر مقاوم للحشرات واسمه Burbank Russet (1). وفي إحدى التجارب المخبرية في اسكوتلاندا وجد الباحثون بأن البطاطا المحوَّرة وراثياً التي أُطعِمت للفئران أحدثت نمواً غير طبيعي فيها وأضراراً في أعضاء رئيسية، من ضمنها الكليتان والطحال والمعدة والغدة الصَّعترية Thymus.
- تم إنتاج صنف ذرة مقاوم لحشرة ثقّاب الذرة Corn borer باستخدام جينات من بكتيريا Bacillus thuringiensis (4). ومما يجدر ذكره أن هذا النوع من البكتيريا يطلق بروتيناً ساماً يستطيع قتل ثقَّاب الذرة وكائنات أخرى تضرُّ بالمحصول؛ إلا أن حبوب لقاح نبات الذرة المحوَّر وراثياً، الذي صار يحوي هذا السم "بفضل" جين البكتيريا الذي نُقِل إليه، تستطيع أن تنتقل إلى نبات حشيشة اللبنWildweed في الجوار وأن تقضي على يرقات ملكات فراشات Monarch butterflies، التي تقتات عليها. و تُعتبَر هذه الفراشات مهمة في أمريكا نظراً لكونها حشرة وطنية ترمز إلى الجمال والمثابرة والأمل.
- تم إنتاج صنف من القطن مقاوم لآفة دودة القطنbollworm بغرس جين في سلسلة جينات القطن مأخوذ من بكتيريا القطن Bt cotton (Bollgard) (4).
- تم إنتاج صنف من القرع المعقوفCrookneck squash يبدي مقاومة للأمراض الفيروسية، باستخدام فيروسات معدَّلة جينياً (8).
ب. في اليابان:
- أنتج العلماء صنفاً من الأرزّ محوَّر جينياً يحتوي على عنصر الحديد المغذِّي بكميات تفوق بثلاث مرات ما هو عليه في الأرزّ العادي. وتم الحصول على الأرز الغني بالحديد من جين (موَرِّث) تم أخذه من نبات فول الصويا ثم غرسه في سلسلة جينات DNA الأرزّ. وهذا الجين مسؤول عن إنتاج بروتين يسمى فيرِّيتينferritin (1).
ج. في سويسرا وألمانيا:
- يقوم العلماء من هاتين الدولتين بتطوير صنف أرزّ عن طريق الهندسة الوراثية للحصول على فيتامين A ثانوي، وبجينات مرتبطة أو متصلة مأخوذة من نبات النرجس البريdaffodi وجرثومة بكتيرية bacterium (1).
ج. في الصين:
- يقوم العلماء بنقل جينات بروتين بشري إلى نبات البندورة والفلفل الحلو للتحكم في نضج الثمار Arthur Fisher, 1996 (2، 12).
ومن الخضراوات الأخرى المعدلة وراثياً البندورة الكرزية (الشبيهة بثمرة الكرز الأحمر)cherry tomato والكوسة الصفراء والهندباء (الشيكوريا) ذات القمة الحمراء Radicchio والكوسا.
ومن الخضراوات المعدلة وراثياً التي لاتزال قيد التجارب الحقلية: الفلفل، الخيار، البازلاء، البروكولي، الجزر، الزهرة، الخس، البطاطس، الشمندر، الشمام، البطيخ، الملفوف، الهندباء، الباذنجان... وهي ستكون في غضون سنوات قليلة قادمة قيد الاستخدام وفي متناول المواطنين (1، 6).
جدير بنا أن نذكر هنا نتائج بعض الدراسات المنشورة حول مخاطر تناول الأغذية المحوَّرة وراثياً التي تقول بأن بعض المخاطر تكمن في رفع مستوى سُمِّية الأغذية وبعضها في زيادة الكائنات المسبِّبة لبعض الأمراض ومقاومتها للمضادات الحيوية، وبأن عملية تحوير الأغذية (النباتات) لجعلها مقاومة للحشرات لهي خطوة للوراء بالنسبة إلى طرق الانتخاب الطبيعي المنتشرة بين النباتات عبر ملايين السنين. فعلى سبيل المثال، عند هندسة النباتات بهدف جعلها مقاومة للمفترسات (الآفات الزراعية)، غالباً ما يتطلب من جهاز المناعة تكوين (تصنيع) جينات طبيعيةnatural carcinogens تسبب مرض السرطان.
2. في مجال الإنتاج الحيواني والأسماك:
- إن الثروة الحيوانية (أبقار، ماعز، دواجن) والأسماك هي في تطوير مستمر عن طريق الاستنساخcloning أو عن طريق الهندسة الوراثية، على الرغم من عدم ثبات أهمية تناول مشتقات الثروة الحيوانية، من لحوم وألبان وبيض، على صحة الإنسان. علاوة على ذلك، فإن الأعلاف التي تُقدَّم لهذه الحيوانات، سواء من المجترات أو الطيور أو الأسماك، كالذرة وفول الصويا والقطن، هي محوَّرة وراثياً أو تحوي أجزاء مقوِّمة خضعت لتعديل أو تحوير وراثي genetically altered ingredients.
- تم في الولايات المتحدة الأمريكية إنتاج هرمون يسمى هرمون النمو البقريBovine Growth Hormone أو BGH عن طريق هندسة الجينات. ويزيد هذا الهرمون إنتاجية حليب الأبقار بنسبة تصل إلى 20 %. وثبت نتيجة الدراسات العلمية بأن هرمون النمو هذا له علاقة بإصابة الإنسان بمرض السرطان، وبرفع نسبة إصابة الأبقار الحلوب بمرض التهاب الضرع mastitis.
- تستخدم في الوقت الحاضر في صناعة الأغذية إنزيمات (خمائر) معدَّلة وراثياً، منها إنزيم الرّينيت Rennet (وهو عبارة عن مادة مأخوذة من غشاء معدة الحيوانات تستعمل في تجبين اللبن وفي صناعة الجبن بشكل واسع).
- يتم انضمام الهندسة الوراثية مع عملية الاستنساخ بهدف تطوير وتنمية الحيوانات المجترة من أجل الحصول على لحوم ذات دسم أقل وعلى أسماك تنمو بسرعة وتكون أضخم (2).
3. في مجال الطب والصيدلة:
أصبحت الحيوانات المهندَسة وراثياً بمثابة مصانع حيَّة من أجل إنتاج مستحضرات صيدلانية، ومصادر لأعضاء يتم نقلها أو زرعها في البشر. وفي هذا الصدد يتم إنتاج الحيوانات الجديدة عن طريق "مزج (تهجين) الأنواع" أو نقل الجينات أو ما يسمى بالتلقيح الغريب أو الدخيل، أو بمعنى آخر، الرسم الغريب xenographs. وعملية نقل الأعضاء ما بين الأنواع تسمىxenotransplantation ، بمعنى نقل أعضاء غريبة (2).
كيف يتم ذلك؟!
- هناك دراسات تجري لتطوير خنازير لها أعضاء تحتوي على جينات بشرية. تستهدف مثل هذه الدراسات تسهيل استخدام هذه الأعضاء في الإنسان عند نقلها إليه. وقد ألغت بريطانيا مثل هذه الأساليب لنقل الأعضاء لأن لها أبعاداً خطيرة جداً London AP, Associated Press, Jan 1997.
- تجرى تجارب على الإنسان، وخصوصاً على الأطفال الأصحاء، بإعطائهم هرمون نمو مهندَس وراثياً، وببساطة ليس لسبب آخر سوى كونهم قصار الأجسام عن المعدل، ولأن آباءهم يريدونهم أن يكونوا طوال الأجسام (Andrew Kimbrell, 1994). كما تجرى تجارب أخرى لتكبير حجم الثدي عند النساء في ظروف المختبر.
- قام أحد باحثي علم الوراثة بتقديم مشروع يقترح فيه هندسة بشر دون رأس لاستخدامه ليكون بمثابة قطع غيار للإنسان (Associated Press, 1997)، وهندسة ضفادع دون رأس لنفس الغاية (Prof. Jonathan Slack, 1994) (2، 13).
- يقوم الباحثون في مجال الطب، عن طريق الهندسة الوراثية، بدراسة أمراض وراثية منقولة عن طريق الحشرات، تهدف إلى تحطيم قوة وفاعلية هذه الأمراض (2).
- تجرى أبحاث حول هندسة جينات جلد الإنسان وصناعة جلود لغايات التسويق والتجارة. ويسمى الجلد الجديد Apligraf أو الجلد المطعَّم graft-skin، وهو مكون من طبقتين، كما هو في جلد الإنسان، مؤلَّفتين من خلايا قرنية (ليفية) حيَّة Keratinocytes, Fibroblasts (2).
- تستخدم طريقة الكشف (العرض) الجينيGenetic Screening للاطلاع على بعض الصفات الوراثية وغربلتها.
- تجرى أبحاث على استخدام طريقة العلاج بالجينات gene therapy في محاولات لتصحيح بعض الصفات الوراثية. وأبحاث أخرى تركز على استخدام الطرق الفنية في صياغة تغييرات جينية مباشرة في أجنَّة البشر human embryos والمداواة بطريقة العلاج الخلوي الجيني Germline therapy، حيث تبقى التغييرات من جيل إلى جيل ثابتة.
- كثير من الأدوية والعقاقير الطبية، ومن ضمنها الأنسولين insulin، تمت هندستها وراثياً في المختبرات باستخدام بكتيريا معدَّلة وراثياً (14).
4. في مجال الطبيعة
- تم تطوير كائنات حية عن طريق الهندسة الوراثية لاستخدامها في مجالات التعدين واستخراج الذهب والنحاس وغيرها من المعادن من مكامنها المطمورة.
- تم تطوير كائنات حية عن طريق هندسة الجينات لتنقية قنوات تصريف الزيوت وقنوات المياه من تأثير الملوِّثات الخطرة.
- تم تطوير كائنات حية عن طريق هندسة الجينات باستطاعتها امتصاص الإشعاعات.
- تم تطوير بكتيريا مهندَسة وراثياً لاستخدامها في تحويل الفضلات والنفايات إلى مادة الإيثانول لإنتاج الوقود biofuels.
5. في مجالات أخرى
هناك دراسات في غاية السرية تجري في بلدان عديدة لتطوير بكتيريا وفيروسات عن طريق هندسة الجينات لاستخدامها في الحروب البيولوجية (Richard Preston, 1998) (2).
* * * *
يقول العالم جيمس واطسون James Watson, 1978، وهو مكتشف DNA والحائز على جائزة نوبل : "إذا كان باستطاعتنا صنع إنسان أفضل عن طريق معرفة الجين الصحيح وطريقة نقله، فلماذا لا نقوم بذلك؟ فالمشكلة الأخلاقية الكبرى التي نواجهها هي أننا لا نستخدم معرفتنا وعلومنا." (2) وعن الآثار المرضية المحتملة التي قد تخلِّفها عملية التغيير أو التحوير في سلسلة DNA يضيف واطسون قائلاً: "لستُ على استعداد أن أنفق بنساً واحداً حتى لمعرفة أن مثل هذه الآثار المرضية موجودة أم لا"!! أليس في هذا الكلام شيء من الغرابة؟! يعلق البروفيسور رون إبشتين Prof. Ron Epstein على ذلك قائلاً: "على حد قول واطسون فإنه يجب علينا المضي قدماً حتى نجابه تلك الأضرار (الأمراض) الخطيرة. وبأنه علينا المخاطرة، حتى ولو كانت ستؤدي إلى كارثة كامنة وراء تقنية تعديل سلسلةDNA ؛ أي بما معناه، لن تعرف بأن الغابة خطيرة حتى يهاجمك النمر ويأكلك. فما الخطأ إذن في نظرية واطسون؟ إذا كان واطسون يريد دخول الغابة ويضع نفسه أمام خطر افتراس النمر، فهذا من شأنه. ومن أعطاه الحق ليجرَّنا جميعا معه ويعرضنا لهذا الخطر؟!"
وهكذا أيضاً عندما تنتشر الكائنات المهندَسة وراثياً في البيئة المحيطة، فالذين سيتعرضون للخطر ليسوا فقط أولئك الذين أوجدوا هذه الكائنات، إنما جميعنا كذلك. وهذا يوضح تماماً أنه ليس من الضرورة أن يقوم هذا العالم أو ذاك باتخاذ القرارات الأخلاقية فيما يخصنا بالنيابة عنّا (2).
ومن جهة أخرى، ليس كل العلماء في حقل علم الوراثة فرسان متعجرفون، أو غ