العسل يهجر جبال رأس الخيمة والمواطنون ينتجونه في البر
الاتحاد
كانت مهنة جمع عسل النحل من الجبال مصدر رزق للمئات من أبناء رأس الخيمة، على مدى عقود، خصوصاً بين أبناء المناطق الخارجية والجبال.
وخلال السنوات القليلة الماضية عانى العديد من أهالي المناطق الجبلية لمواجهة تحديات اندثار هذه المهنة التي تعتمد بشكل رئيسي على خبرة العاملين فيها، والتي تستقر في وجدان وذاكرة الآلاف من ساكني الجبال والسيوح، فبعد أن تراجعت أعداد نحل الجبال، ابتدع هواة المهنة أساليب أخرى لتربية النحل، بل إن المهتمين بهذا العالم تمكنوا خلال السنوات الماضية من تهجين أنواع من النحل الإيطالي والقوقازي والنوبي “الميدنايت” و”الاسترلاين”، وغيرها من الأنواع التي نجحت في الإمارات.
وإذا كان ناحلو الجبال يتعاملون مع المهنة كهواية، فإن أصحاب المزارع في البر والسيوح ينفقون الكثير لمواجهة اندثار المهنة، وفي كلتا الحالتين لا بد من توافر الخبرة.
وفيما يخص نحل الجبل هناك ميثاق شرف بين “العسالين” بألا يعتدي أي واحد منهم على نحل الآخر، وأخيراً هناك القدرة على تحديد نوعية العسل والمراعي التي يتغذى عليها النحل لإخراج عسله. أما في مزارع البر فالأمر مختلف، فعلى مدى أكثر من أربعين عاماً عمل ناصر المنصوري في مهنة تربية نحل العسل، وأجرى العديد من الأبحاث والدراسات حول أفضل السبل للتعامل مع هذا العالم .
وبات المنصوري الذي ما زال مصراً على هوايته، واحداً من أفضل خبراء تربية النحل على مستوى العالم، ورغم ما تكبده من خسائر خلال هذه السنوات إلا أنه ما زال يواصل أبحاثه وهواياته بعد أن أحاطها بأسوار من السرية، خوفاً من تسربها.
ففي عام 1967 سافر المنصوري إلى العراق واستقر بمدينة البصرة لأكثر من ثلاث سنوات اكتسب خلالها خبرة التعامل مع هذا العالم، وعاد بعدها لتبدأ تجربته في منطقة ضاية الجبلية برأس الخيمة، لكنه في عام 1981 خسر خلايا النحل الكثيرة التي كان يملكها للإبادة الكاملة، بعد أن قامت طائرات رش المبيدات برش المنطقة، ما أدى لخسارته حوالي مليوني درهم، ومع هذا عاد الرجل لممارسة نشاطه من جديد بعد أن اتخذ من الجبال والمناطق البعيدة عن الكتلة السكنية مكاناً لتربية العديد من أنواع النحل.
يقول المنصوري: اعطني ملكة واحدة وعشرين نحلة ومكاناً آمناً، أعطيك مئات الطرود سنوياً، ويضيف لو أحسنا استغلال البيئة والظروف في الإمارات، يمكننا أن نكون من أفضل منتجي العسل في العالم، فنحن نملك خبرات تتعلق بطرق تسكين النحل وتكاثره وكيفية علاجه من الأمراض، ونسبة الذكور في الخلية، وعدد الشغالات وكل شيء. ويضيف أن العسال الحقيقي يمكنه الدخول إلى مملكة النحل دون قناع، شريطة ألا يستفز النحل أو أن تظهر عليه علامات الخوف أو العصبية.
ويضيف المنصوري: السنوات الطويلة التي قضيتها في هذا المجال أكسبتني خبرة تتعلق بكل شيء في هذا العالم، حتى مواعيد التكاثر وعمر كل نحلة في الخلية، والأمراض التي تصيبها، ومواعيد هذه الأمراض وكيفية علاجها، بل إنه يستطيع إحصاء عدد النحل في الخلية.
يقول ناصر المنصوري: وصل إنتاج الخلية عندي إلى 90 كيلو جراماً من العسل، وهو معدل غير مسبوق، جعل أكبر خبراء إنتاج العسل في العالم يأتون إلى رأس الخيمة لاكتشاف السر وراء هذا الإنجاز، بل إن أكبر منتجي العسل في ألمانيا وأستراليا وأميركا جاؤوا وحاولوا شراء أفكاري، لكنني رفضت لأن هذه الأفكار هي محصلة بحث استمر على مدى أكثر من 40 عاماً.
ويشير إلى أن الاحتباس الحراري، وندرة الأمطار، وتغير معالم البيئة، ساهمت في هجرة أسراب النحل التي كانت تتخذ من الجبال بيوتاً، واستطعت التغلب على هذه المصاعب من خلال تصميم جديد لشكل الخلية، بل إنني أملك أسراراً يمكنها أن تجبر النحل على التعامل مع زهور معينة دون أخرى، بما يحكم طبيعة العسل الذي تنتجه هذه الخلايا، وهى أسرار لا أستطيع أن أنشرها إلا بعد تسجيلها كبراءة اختراع.
ويقول إن اشهر نحل في الإمارات هو من نوع الشرود، باعتباره كثير التنقل من منطقة إلى أخرى، وهذا النوع يسمى بأسماء أخرى عربية، ويضيف: هناك لغة للنحل لا يعرفها إلا من تعامل معه لفترة طويلة، وعن طريق هذه اللغة المتبادلة بين العسال والنحل يمكن الوصول إلى العديد من أسرار هذا العالم، فعلى سبيل المثال تصدر الخلية إشارات عندما يكون هناك مرض أو خطر يهددها، وعن نفسي أستطيع تحديد هذا المرض وعلاجه، وهذا من أسرار المهنة.
ومن عسالي الجبل إلى مربي النحل في البر، ففي منطقة الريبية القريبة من سيح الحرف وبين غابات من أشجار السدر والسمر، أقام سلطان محمد الذي ورث مهنة تربية النحل عن أجداده الذين عاشوا في المنطقة القريبة من السيح على مدى مئات السنين منحله الذي يوليه رعاية خاصة.
يقول سلطان “هناك ثلاثة مواسم لعسل النحل، الأول يبدأ في نوفمبر من كل عام، ويتغذى النحل فيه على زهور أشجار السدر التي تكثر في جبال رأس الخيمة، أما الموسم الثاني فيبدأ في نهاية فصل الشتاء ويتغذى فيه النحل على الزهور البرية والأعشاب الموسمية، وهذا النوع نادر بعكس عسل السمر والسدر الذي يكون إنتاج النحل فيه أوفر”.
ويضيف “إن البيئة الطبيعية التي يعيش فيها النحل هي الجبال، ولا ينتقل النحل من الجبال إلى السيوح أو الأودية إلا بعد أن تضطره الظروف لمغادرة بيئته الأصلية، فخلال السنوات الماضية، ومع بداية عمل الكسارات، وبعد أن نشطت حركة العمران بالمنطقة هجر النحل أعشاشه إلى السيح، حيث تكثر أشجار السدر والسمر”.
من جهته، يقول علي محمد، وهو من هواة تربية النحل “مع تراجع أعداد الخلايا بالجبل بدأنا في تمهيد بيئة شبيهة إلى حد ما في السيح وسط أشجار السدر والسمر، واستطعنا من خلالها إكثار أنواع من النحل المصري والأسترالي وهذه النوعيات تنتج بمعدلات أعلى من النحل المحلي، الذي لا يعيش إلا في الجبال”. ويؤكد أن نوعية العسل تعتمد على المرعى وليس نوعية النحل.
ويقول امتلك الآباء والأجداد خبرات كثيرة في المهنة وورثوها للأبناء الذين يعتبرون العمل بالمهنة إحياء للتراث، ونحن نستطيع تحديد مكان الخلايا من الروائح التي تنبعث من المكان، وكذلك من خلال حركة شغالات النخل التي يمكن رؤيتها على ضوء الشمس لمسافات بعيدة. ويقول عملية قطف الخلايا لا تتم إلا في أوقات محددة من النهار ولا يقوم عليها سوى متخصصين لتلافي لدغات النحل.
وأضاف “نستطيع تحديد نوعية العسل من لونه، فعسل السدر أبيض، وعسل السمر أحمر”. وأشار إلى أن القطاف يمر بمراحل عدة تبدأ بإخراج الألواح من الخلايا وكشط ما بها من عسل قبل تصفيته وتنقيته.
ويقول علي الحبسي، وهو واحد من هواة جمع العسل الجبلي “قد يمر الموسم كاملاً دون أن يحصل صاحب هواية جمع العسل الجبلي سوى على كيلو واحد من العسل، لكن هذه الكمية تعادل إنتاج خلية كاملة في البر”.
ويضيف هناك فارق كبير بين عسل الجبل والعسل الذي تنتجه المناحل في البر، وبطبيعة الحال، فإن النحل المحلي يختلف تماماً عن النحل الذي يستورده المربون الآن من أوروبا وآسيا، ولا مجال للمقارنة. ويقول هواية جمع العسل الجبلي متوارثة بين أهالي الجبال في منطقة الخليج وليس الهدف منها الربح، وإذا كانت هذه الهواية تراجعت الآن، فإن التمسك بها يعتبر نوعاً من إعادة الاعتبار للتراث المحلي الذي يواجه الاندثار، بفعل التقدم والمتغيرات التي أثرت كثير في شكل البيئة المحلية.
ناصر المنصوري: أبحاثي في المجال تعود إلى 40 عاماً
نشرت فى 31 أغسطس 2011
بواسطة apiculteur
عدد زيارات الموقع
67,487
ساحة النقاش