أول ظهور للنباتات على الأرض كان قبل 425 مليون، ولكن الورود ظهرت بعد ذلك بكثير، أي بعد قبل 130 مليون سنة، وفي جنوب غرب آسيا بدأ ظهور النحل قبل 100 مليون سنة، وحتى أن العلماء اكشتفوا في شمال ميانمار (Myanmar) كهرمان يعود إلى 100 مليون سنة، فيه أحفورة لنحلة منقرضة سميت ميلوتوسفيكس بيرمانسس (Melittosphex Burmensis) طولها 3 مليمتر (صغيرة جدا)، واحتفظ الكهرمان بهذه النحلة بشكل جيد إلى درجة أنه حتى اللقاح كان ملتصقا بشعرات رجليها الخلفيتين، ما ساهم به هذا النحل لهذا العالم يتعدى العسل بكثير، فهو الحجر الأساس في انتشار الزهور على الأرض، ولو أن التلقيح يتعمد فقط على الهواء لما كانت الزهور بهذا الانتشار، لذلك فإن النحلة أكدت هذا الانتشار الواسع بالمساهمة الفعالة في نقل اللقاح من نبات إلى آخر.

الأرض تحتوي على 250,000 فصيلة من النباتات المزهرة، ومن هذه النباتات 130,000 تعتمد على الحشرات، ومن هذه الحشرات 20,000 فصيلة للنحل تساهم في لقاحها، باختصار، النحلة هي أحد أسباب وجود هذا العالم الذي نعيشه كما هو، ولها دور كبير في المحافظة على النظام الأيكولوجي المتزن، واليوم وظيفة النحل لا تقل أهمية عن السابق، فهي مسؤولة عن لقمة من ثلاث مما تأكله اليوم.

رقصة الاهتزاز

تنطلق النحلة للبحث عن الرحيق، فتسافر إلى عدة كيلومترات. حينما تأخذ الرحيق ترجع إلى خليتها اعتمادا على الرائحة، عندها تخبر باقي النحل بمكان الرحيق، والمسافة الفاصلة بين خلية النحل والرحيق، وحتى جودة هذا الرحيق تخبر به زميلاتها، بداية تقدم النحلة الرحيق للنحل الآخر، حتى يعرف الباقين مدى جودة العسل، وتقوم النحلة بالرقص لإخبار النحل بمكان العسل، حتى أشرح الفكرة لابد أن أبدأ بشرح شكل خلية النحل، خلية النحل عبارة عن صندوق، وبداخل هذا الصندوق شرائح عامودية يتم إدخالها داخل خلية النحل من الأعلى، أمثل هذه الفكرة بدرج الطاولة الكبير وملفات، الملفات تكون مطصفة بجانب بعضها البعض بشكل عامودي.النحل يصنع خلاياه السداسية في هذه الشرائح، ويمشي عليها (تخيل سبيدار مان على يتسلق على الحائط)، حنيما تأتي النحلة من الرحلة الطويلة، هي تعرف تماما المسافة والاتجاه للزهور، فتلتقي بمجموعة من النحل العاملات، فتبدأ بالرقص، تسير على شكل 8 باللغة العربية (كما هو مكتوب باللغة الإنجليزية، هذه الأرقام هي في الحقيقة أرقام عربية)، فتمشي تارة باتجاه عقارب الساعة، وتارة عكس عقارب الساعة، حينما تصل إلى نقطة التقاطع للرقم 8 تبدأ بالاهتزاز، ثم تتوقف عن الاهتزاز لتكمل الرقم 8، وحينما تعود مرة لنقطة التقاطع فإنها تهتز مرة أخرى، وفي أثناء تلك الرقصة يتابع بعض النحل حركة هذه النحلة الراقصة متتبعين خطواتها لمعرفة هذه الاتجاهات، نتأتي للنقطة المهمة في هذه الرقصة، وهي أن النحل حينما يهز بجسده فإنه دائما يهز في خط مستقيم، ويعود ليهز الجسد في نفس الاتجاه في كل مرة. لو أنك أخذت الزاوية بين الخط العمودي مع الاتجاه الذي يهز فيه النحل جسده لكانت هذه الزاوية هي الزاوية بين الشمس والورود. ولكانت طول المسافة التي تهتز فيها النحلة دلالة على المسافة الفاصلة بين خلية النحل والورد، ولكانت قوة الاهتزازات دلالة على جودة الطعام. بعد ذلك ينطلق النحل للورود لإحضار الرحيق، ويستدل على المكان حتى لو كانت هناك عوائق، ولا تنسى أيضا أن الشمس تتحرك، وحركتها تؤثر على معرفة اتجاه الورود، مع ذلك فإن النحل يعلم بهذا التغير، ويغير من اتجاه الرقصة بناءا على تغير مكان الشمس، حتى لو أنه عرف الاتجاه في الصباح وانطلق له في العصر، فلن تكون هناك مشكلة.

 

 

كارل فون فريسج (Karl von Frisch) حاز على جائزة النوبل بسبب دراسته للنحل، وكان هو أول من فسر رقصة الاهتزازات، ولكن هناك بالطبع وكالعادة أراء أخرى تحاول تفسير كيفية وصول النحل للرحيق، فهناك من يقول أن هذه الرقصة ليست إلا لتحريض النحل على التوجه إلى الورود، والاستدلال يتم عن طريق الرحيق الذي يتم تبادله بعد عودة النحلة، حيث يشتم النحل الآخر رائحة الرحيق، ثم تعمتد على هذه الرائحة للتوصل إلى الورود المعنية، بالرغم من وجود نظريات أخرى إلا أنها لا تزال آراء كارل هل الأكثر قبولا. بالإضافة لدراسة كارل فريسج رقصة النحل درس أيضا قدرة النحل على الاشتمام، وقدرتها على تحديد الاتجاه، حيث يحدد النحل الاتجاه بثلاث طرق، أولا عن طريق الشمس، ثانيا عن طريق الاستقطاب (Polarization) (وهذه خاصية لها علاقة بالضوء وتستخدم في بعض النظارات وأنا في الغالب حينما أشتري نظارة فإني أشتري نظارة مستقطبة)، وأخير عن طريقة المجال المغناطيسي الأرضي، النحلة تعتمد على الشمس بالخصوص، ولكنها تستعين بالطرق الأخرى عند الحاجة، ودرس كارل أيضا قوة نظر النحل، حيث أن النحل نظره ليس أقوى من نظر الإنسان، ولكنه بسبب عينه المركبة يستطيع اكتشاف الحركة بشكل أفضل، وحتى الألوان، النحل لديه القدرة على رؤية الألوان، ولكن يختلف عن الإنسان في تصنيفه للون، فهو يرى الأحمر أسودا، ولديه القدرة على رؤية الأبيض والأصفر والأزرق والبنفسجي، وفي نفس الوقت الذي ترى فيه أنت بعض الزهور على أنها صفراء، فالنحل يرى ألونها الحقيقية، فهو يميز الألوان بشكل أدق، فيرى ألوان زاهية لنفس هذه الورود التي لا ترى فيها اختلافا.

دفاعات النحل ضد الأمراض

تقوم النحلة الواحدة بجمع الرحيق من آلاف الورد في اليوم الواحد، وتنطلق من الخلية وتعود إليها 12 مرة في نفس اليوم، وفي كل مرة من هذه المرات تقوم النحلة بجمع الرحيق من فصيلة واحدة من الورود وكذلك بالنسبة للقاح الذي تجمعه، والخلية الواحدة من النحل تستطيع أن تجمع لقاح من 500 مليون وردة في السنة، ومجموع المسافة التي يطير بها النحل الموجود في الخلية الواحدة يقدر بـ 7 مليون ميل، ومتوسط المسافة التي تطيرها النحلة الواحدة هو 2.5 ميل من الخلية، ولكن بإمكانها الوصول إلى 10 أميال بمعدل سرعة 13.5 ميل في الساعة، عملية جمع الرحيق المضنية هذه تقوم بها أنثيات النحل العاملات.

ملكة النحل تستطيع أن تبيض 2,000 بيضة في اليوم الواحد، وتخزن نطفة الذكر لسنوات، وبالإضافة لذلك فإن خلايا النحل تحتوي على النحل الممرضات، (Nurse Bees)، ووضيفة هذه الممرضات هي الاعتناء وتطهير النحل العاملات، وتهتم أيضا في صحة الخلية، فهي تقوم بتنظيف الخلية من الوسخ والحطام والعث وأي مسبب للمرض، وتساهم أيضا في الاهتمام في صغار النحل، وهناك أيضا النحل الحارس، وأيضا النحل المسؤول عن تدفئة أو تبريد الخلية، وذلك النحل المنظف، وبنائي الخلايا، ومعالجي العسل، كل تلك الأنواع من النحل لها وظيفة خاصة ودور مهم في الخلية، ونأتي أخيرا للنحل الذكر، وهو النحل الوحيد الذي ليس له أي دور أبدا خلال فترة حياته سوى تلقيح الملكة، وبعد تلقيحه لها يقطع عضوه ويموت.

حينما قام العلماء بسلسلة جينات النحلة المسماة بـ أيبس مليفيرا (Apis Mellifera) اكتشفوا أنها ظهرت قبل 60 مليون سنة، وعرفوا أنها قريبة في تركيبتها الجينية لذبابة الفاكهة والبعوضة، ومن أهم ما عرفوه عن هذا النحل أنه يحتوي على جنيات كثيرة مخصصة للتعلم، وهذه تستغل للتخاطب فيما بينها من خلال الصوت والحركة والفرمونات، ثم أن بعض هذه الجنيات مخصصة للاشتمام، فالنحل لديه قدرة عالية على الاشتمام، ونأتي للنقطة الأساسية الآن، وهي أن الجنيات المسؤولة عن مقاومة الأمراض والمسؤولة عن إزالة السموم من الجسم قليلة، لذلك فمناعتها ضعيفة بالمقارنة مع البعوض أو الذباب، ولكن في مقابل هذه المناعة نجد أن النحل لديه بنية اجتماعية وتنظيم معقد للوقاية من الأمراض، فما ذكرته قبل قليل عن التنظيم الذي تقوم الممرضات والحراس وغيرها من النحل تأتي بسبب من هذه الجنيات الغير موجودة في البعوضة ولا في الذبابة، هذه الجينات استبدلت جينات المناعة فأصبح النحل يدافع عن نفسه من المرض بهذه التركبية الاجتماعية المنتظمة، ولذلك نجد أن النحل الممرضات تمنع دخول السموم إلى الخلية، وإذا ما اكتشفت أن نحلة أصابها المرض، عندها تلقي به مباشرة خارج الخلية حتى لا تنشر العدوى للنحل الآخر.

مرض انهيار مستعمرة النحل

صداقة الإنسان بالنحل تعود إلى 20,000 سنة إلى الوراء، حيث أن هذه كانت البدايات لتربية النحل ولجمع العسل، وحتى أن المصريين القدامى كانوا يربون النحل قبل سنة 2422 قبل الميلاد، ولذلك لديهم رسومات على معبد الشمس لعمال ينفخون الدخان على خلايا النحل أثناء جلبهم للعسل، وهناك تفاصيل مكتوبة تشرح إنتاج العسل تعود إلى 650 قبل الميلاد، ولا تزال هذه الصداقة موجودة، والكثير من المزارعين اليوم يعتنون بالنحل لأنه مصدرا لرزقهم، فبالإضافة لاستخلاصهم العسل وبيعه في السوق، يستخدم النحل لتلقيح شتى أنواع الفواكه وبعض أنواع المكسرات.

فمثلا النحل مسؤول عن تلقيح 80% من محاصيل اللوز العالمية، وتعود هذه محاصيل اللوز هذه بمبلغ يقدر بمليار دولار في الولايات المتحدة، وحتى التفاح والأفوكادو والكرز والشمام وغيرها من الفواكه تعتمد بشكل كبير على التلقيح، وحتى اللحوم التي يأكلها الناس تعتمد على وجود النحل، فمثلا، حينما يجمع محصول اللوز ويقشر، فهذه القشور تقدم للبقر للتغذية، وكذلك نباتات ألفا ألفا، تلقحها النحلة، وبنقصان هذه النباتات يعني نقصان الأبقار التي تعتمد عليها، ومعنى ذلك نقصان منتجات الألبان، لذلك فإن تأثير النحل أكبر بكثير من النباتات، في الولايات المتحدة 15 مليار دولار من المحاصيل سنويا تعتمد على تلقيح النحل، وحتى في بريطانيا تردد خبر قبل أيام أن النحل يساهم بمقدار 440 مليون باود سنويا للاقتصاد البريطاني، وهذا الرقم يعد 13% من الدخل البريطاني من الزراعة.

ما يقوم به المزارعون من شتى مناطق العالم هو نقل مليون خلية نحل والتي تحتوي على 40 مليار نحلة للأراضي الزراعية حتى تقوم بتلقيح هذه النباتات، فتلقح هذه النباتات ثم يعاد النحل إلى المزرعة مرة أخرى ليقوم المزارعين بالاهتمام فيهم، فتخيل معي أن في سنة 2006 وفجأة وبلا إنذار سابق يأتي المزارع إلى خلايا النحل ليكتشف أن النحل غير موجود، إختفى نهائيا، ومن العادة أنه حينما يموت النحل يموت بقدر 20% منه سنويا، ويرى أثر موت النحل بجانب الخلية، ولكن فيه هذه المرة يختفي النحل، ولا يبقى له أثرا، فيبدو أن النحل خرج من الخلية وتاه في الطريق ولم يرجع مرة أخرى إلى مقره، إلى درجة أن 30% إلى 90% من النحل اختفى في بعض المناطق، وليس من عادة النحل أن يغادر ويترك صغاره، والغريب أنه حينما يترك النحل خلية معينة فإنه حشرات أخرى مثل الخنفساء أو العثة تستغل الفرصة لاستلاب هذه الخلية، ولكنها لم تفعل ذلك في هذه المرة، ما الذي حدث؟ وأين ذهب النحل؟

 

وجهت عدة اتهامات لعدة جهات لمسؤوليتها عن مرض انهيار مستعمرة النحل، هذا الإسم أطلق على اختفاء النحل، منها العثة، حيث أنها تلتصق ببطن النحلة، وتنقل لها المرض، ولكن هذه العلاقة موجودة منذ الأزل، ولا يمكن أن تكون المسبب الرئيسي لاختفاء النحل، هناك أيضا مرض اسمه فيروس الشلل الحاد الإسرائيلي (Israeli Acute Paralysis Virus)، وهذا يسبب ارتعاش وشلل ثم الموت للنحل، ولكن حتى هذا المرض لم يثبت أنه هو السبب في اختفاء النحل، وأصباع الاتهام أشيرت للإجهاد الذي يصيب النحل من جراء نقله من مكان لآخر، حيث هذه التنقلات لا تسمح للنحل للتعافي في الشتاء، وقد يضعف من مناعتها، وأخيرا المبيدات الحشرية قد تكون هي السبب في هذه المرض، وخصوصا أن العلماء يعتقدون أنه قد تتسبب المبيدات بأمراض في المخ،  ولكن العلماء إلى يومنا هذا لا يعلمون السبب بالتأكيد، حيث قد تكون واحدة أو عدد من هذه الأمور تسبب هذه المرض، ولكن أغلب الظن يتركز على المبيدات الحشرية، . لذلك قامت بريطانيا بصرف 10 ملايين باوند موزعة على 9 مشاريع لدراسة أسباب هذه المرض، وصرفت هذه المبالغ على جامعات متعددة ومؤسسات لدراسة هذا المرض.

هذا المرض اكتشف في الولايات المتحدة الأمريكية، وانتشر في أنحاء كثيرة من العالم، والعلماء يعملون على المشكلة بشكل مكثف، سواء أكان في أمريكا أو بريطانيا أو فرنسا وإيطاليا والكثير من الدول الأخرى، إن لم يكتشف الحل فستحصل كارثة، هذه الكارثة قد تتسبب في نقصان الطعام والزيادة في أسعارها بشكل غير مسبوق في العالم، وسيتسبب ذلك في فقدان الاتزان الإيكلوجي، لنرجوا من الله التوفيق لهؤلاء العلماء.


  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 301 مشاهدة
نشرت فى 28 أغسطس 2011 بواسطة apiculteur

ساحة النقاش

عدد زيارات الموقع

67,495