الأمم المتحدة ..... تغير العالم، وبقي "الصنم"

منذ حولي من 75 عاماً خلت، أسس المنتصرون في الحرب العالمية الثانية منظمة الأمم المتحدة على أنقاض عصبة الأمم، بعد 27 سنة من تأسيسها. صاغ المنتصرون الخمسة للمنظمة الجديدة غايات نبيلة وميثاق رائع، ولكن بآليات تضمن استمرار سطوة المنتصرين ومصالحهم في المقام الأول. لقد منحوا أنفسهم امتيازاً خاصاً وأبدياً يُحَصِن كل منهم من الإدانة من تلك المنظمة الوليدة؛ ليس هذا فحسب، بل يمنح كل منهم الحق الأبدي المطلق في إبطال أي قرار يتعارض مع مصالحه ورؤيته!

وإلى اليوم، ويُحكَم العالم من خلال تلك المنظمة وفق نتائج ومعطيات الحرب العالمية الثانية، ووفق تلك القواعد التي وضعوها هم. ربما كان ذلك مقبولاً في حينه، نظراً للظروف الاستراتيجية والاقتصادية في ذلك الوقت؛ إلا أن ذلك لا يمكن قبوله اليوم، بعد أن تغير العالم. .... فتعالت الأصوات، من الغرب والشرق، بانتقادات منطقية تتهم المنظمة في مصداقيتها ونزاهتها وكفاءتها؛ إلا أن منتصرو الحرب العالمية الثانية يصرون على ألا تتغير قواعد اللعبة؛ ويدافعون عن شرعية المنظمة وشرفها بمبررات واهية مكررة جعلتها تبدو كالصنم المقدس "هُبَل" .... بعد أن تغير العالم استراتيجياً وديموغرافياً واقتصادياً.

لقد تغير العالم استراتيجياً؛ فلقد تمحور الحلفاء وتحالف المتمحورون، وظهرت تكتلات دولية سياسية واقتصادية وعسكرية تجمع الحلفاء مع المحور. لقد سقطت النازية، وسقطت الشيوعية، وسقط سور برلين ... وبقي الصنم كما هو! لقد نهض المنهزم، وتحرر المحتل. نهضت اليابان لتصبح ثالث أكبر اقتصاد في العالم، وقبل المملكة المتحدة وفرنسا وروسيا؛ ونهضت ألمانيا لتصبح رابع أكبر اقتصاد في العالم، وقبل نفس الدول السابقة أيضاً. تحررت الهند لتصبح خامس أكبر اقتصاد في العالم، وقبل نفس الدول السابقة أيضاً. إلا يقنعكم ذلك بأن العالم قد تغير؟! .....

إننا نعيش الثورة الصناعية الرابعة، حيث تختفي الخطوط الفاصلة بين المجالات المادية والرقمية والبيولوجية، وينتشر الروبوت، والذكاء الاصطناعي، وتكنولوجيا النانو، والحوسبة الكمومية، والتكنولوجيا الحيوية، وإنترنت الأشياء، والطباعة ثلاثية الأبعاد، والمركبات ذاتية القيادة. .... وما يحمله المستقبل القريب، لا يمكن تخيله الآن. فهل يظل الصنم كما هو إلى ما لا نهاية؟!

لقد تغيرات إمكانيات وقدرات البشر؛ تغيرت وسائل المواصلات والاتصالات، لقد صار بإمكان الإنسان العادي اليوم أن يدور حول الكوكب في نفس اليوم، وصار بيده اليوم أداة توصله بأركان المعمورة، وصار يعرف أخبار العالم في نفس اللحظة. إمكانيات وأدوات لم يكن يملكها روزفلت أو تشرشل أو ستالين عند تأسيس الأمم المتحدة. لقد تغير الإنسان، تغيرت إمكانياته وقدراته وتطلعاته؛ .... لقد صار أكثر احتراماً للإنسانية. مع هذا الإنسان، وفي ظل هذا الواقع الجديد، حيث أصبح العالم قرية صغيرة، لا يمكن لأي قوة على وجه الأرض أن تقتل 60 مليوناً من البشر، كما حدث في الحرب العالمية الثانية. لقد تغير الإنسان وتغير العالم استراتيجياً .... وبقي "الصنم"، بنفس الوجه والملامح والتكوين.

لقد تغير العالم ديموغرافياً؛ فبينما كان الخمسة الكبار المنتصرون في الحرب العالمية الثانية يمثلون، أو يحكمون باسم، أكثر من 60% من سكان العالم عند صياغة نظام الأمم المتحدة، فإنهم الآن لا يمثلون سوى 26% من سكان العالم. وإذا ما استثنينا الصين من هذه النسبة، فإن الأربعة الكبار الآخرون مجتمعون لا يمثلون سوى 8% فقط من سكان العالم، وهو ما يعتبر أقل من نصف ما يمثله سكان الهند حالياً. عند نهاية الحرب العالمية الثانية كانت بريطانيا العظمى تحكم باسم حوالي 25% من سكان الأرض؛ بينما هي لا تمثل الآن سوى 0.9% فقط، بعد تحررت العديد من الدول من الاحتلال البريطاني. وكذلك فرنسا، والتي كانت تحكُم باسم حوالي 5% من سكان العالم، لا تمثل سوى 0.9% من سكان العالم اليوم. الخديعة الكبرى هنا، أن تلك الدول تحررت، لكنا لم تسترد حقوقها كاملة؛ استردت الأرض، ولكنها لم تسترد الثقل السياسي في المنظمة الدولية، والذي مازال المحتل مستغلاً له.

وبينما لا تمثل كل من فرنسا وانجلترا سوى 0.9% من سكان العالم، نهضت الهند المتحررة لتمثل 18% من سكان العالم اليوم. كما نهضت نيجيريا لتمثل 2.6% من سكان العالم، وهو ما يعادل ثلاث أضعاف ما تمثله كل من المملكة المتحدة وفرنسا. كما نهضت اليابان المنهزمة لتمثل 1.7% من سكان العالم، وهو ما يعادل ما تمثله كل من فرنسا والمملكة المتحدة مجتمعتين. ... لقد تغير العالم ديموغرافياً بشكل جذري.

لقد تغير العالم اقتصادياً أيضاً؛ فبينما كان الخمس الكبار بمستعمراتهم يمثلون أكثر من 60% من الناتج المحلي الإجمالي للعالم عام 1938، تقلص ذلك إلى 48% عام 2018. وعلى الرغم من أن هذا التناقص في نصيب الدول الخمس من الناتج المحلي الإجمالي العالمي ليس بنفس حدة تناقصهم السكاني، إلا أن هذا التناقص كان حاداً بالنسبة للمملكة المتحدة وفرنسا وروسيا. فبالنسبة للمملكة المتحدة، تقلص نصيبها بمستعمراتها من الناتج المحلي الإجمالي العالمي من 17% عام 1938 إلى اقل من الخُمس (3.3% فقط) اليوم؛ وانخفض ترتيبها من المرتبة الثانية عام 1938 إلى المرتبة السادسة اليوم، بعد اليابان (5.8%)، وألمانيا (4.5%)، والهند (3.5%). كما تقلص نصيب الناتج المحلي لفرنسا ومستعمراتها من حوالي 6% عام 1938 إلى النصف (3.2% فقط) اليوم، ولتأتي اليوم في المرتبة السابعة. أما روسيا، فتأتي اليوم في المرتبة الثانية عشرة؛ بعد كل من إيطاليا والبرازيل وكندا وكوريا الجنوبية. لقد تغير العالم اقتصادياً بشكل كبير.

...............

في ضوء هذا الواقع الاستراتيجي والديموغرافي والاقتصادي الجديد، لم يعُد من المنطقي أن يستمر فرض واقع الحرب العالمية الثانية على اليوم والمستقبل! كما لم يعد من المنطقي، أو المقبول، أن يُعَطِل من لا يمثل سوى 0.9% من سكان العالم، رغبة أكثر من 99% من سكان العالم؛ ولا لشيء، إلا لأنه كان منتصراً في الحرب العالمية الثانية ... منذ 75 عاماً؟! هل يتفق هذا مع مبادئ العدالة وحقوق الإنسان والديموقراطية التي تبشرون بها، والتي أنشئت منظمتكم من أجلها؟.

إن استمرار هذا الوضع غير العادل يضع العالم كله أمام تهديدات كبيرة ومستقبل مجهول؛ وهو ما يحتم علينا ضرورة العمل معاً بجد وإخلاص لتصحيحه من أجل غد أفضل للإنسانية جمعاء. إن عالمنا به من الموارد والخيرات ما يكفي لأن يعيش الجميع في رغد ورفاهية، إذا ما أُحسن استخدام هذه الموارد والحفاظ عليها.

لقد تغير العالم يا سادة، وفقد "صنمكم" سحره وهيبته. أصلحوه، .... أبعثوا فيه روحاً من الإنسانية والعدل، قبل أن تضطروا قريباً لأن تدفنوه؛ .... وهو ما لا نرجوه، مع أنه سهل ومحتمل.

إننا نحب أطفالكم، فلا تسرقوا مستقبل أطفالنا.

عنتر عبد العال أبو قرين

أستاذ التخطيط الحضري والتنمية الإقليمية،

كلية الهندسة، جامعة المنيا

"البوابة نيوز"، 2 مايو 2020 ..... https://www.albawabhnews.com/4001334?fbclid=IwAR07nSR2-xfrPptazPhVgAgsGJl9gSbttk0YSZkgxQU89_hcJJ1CCiDnezQ

 

 

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 317 مشاهدة
نشرت فى 2 مايو 2020 بواسطة antarkorin

ساحة النقاش

antarkorin
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

10,525