( بين صلاح الدين وريتشارد قلب الأسد ) , 20 شعبان 588هـ ـ 2 سبتمبر 1192م .
كان لتحرير المسلمين لبيت المقدس سنة 583هـ، رد فعل سريع وعنيف في أوروبا، تجسد ذلك في وفاة البابا «أوربان» الثالث من هول الصدمة، ثم قام خليفته «جريجوري»الثامن بإرسال خطاب بابوي لكل نصارى أوروبا يدعوهم فيه إلى صيام كل يوم جمعة على مدى خمس سنوات قادمة والامتناع عن أكل اللحم أيام السبت والأربعاء وفرض ضريبة العشور عليهم بحيث يدفع كل نصراني في غرب أوروبا 10% من دخله لتمويل حملة صليبية ثالثة على الشام لاسترجاع بيت المقدس.
مات جريجوري الثامن وترك لخليفته «كليمنت الثالث» مهمة الاتصال بملوك ألمانيا وفرنسا وإنجلترا، ونتيجة هذا الاستنفار الباباوي هرع ملوك وأمراء أوروبا للاشتراك في الحملة الصليبية، وسرت روح قوية في الغرب الأوروبي، وكان أبرز ملوك الحملة فريدريك بربروسا ملك ألمانيا، وفيليب أغسطس ملك فرنسا، وريتشارد قلب الأسد ملك إنجلترا، وانطلقت الأساطيل الثلاثة، كل واحد من طريق فتمزقت الحملة الألمانية لغرق «بربروسا» عند نهر سريع الجريان بجبال طوروس، وتنافس فيليب أغسطس وريتشارد قلب الأسد فيما بينهما على أولوية الوصول وطريق الدخول للشام.
في هذه الفترة كان الصليبيون محاصرين لميناء عكا، ذلك لأن صلاح الدين قد ارتكب خطأ إستراتيجيًا في الحروب الصليبية تمثل في سماحه لفلول الصليبيين المنهزمين في كل معركة، بالتوجه إلى ميناء «صور» فتجمع بالمدينة أعداد كبيرة من المحاربين شنوا هجومًا قاسيًا على ميناء «عكا» وأرسلوا لإخوانهم الصليبيين في أوروبا، فقدمت الأساطيل الفرنسية ثم الإنجليزية على عكا وظلوا محاصرين لعكا لمدة عامين حتى سقطت المدينة في النهاية بعد دفاع باسل ومجيد من المسلمين وذلك سنة 587هـ، واقتسمها فيليب وريتشارد، ولكن سرعان ما دب الخلاف بينهما لرغبة كليهما في السيطرة والقيادة، فآثر فيليب أغسطس الرجوع إلى بلاده تاركًا رياسة الصليبيين لريتشارد الإنجليزي الذي حاول تحقيق مكاسب صليبية جديدة، فافتتح عهده بذبح ثلاثة آلاف أسير مسلم لكسب محبة وتعاطف البابوية والصليبيين في أوروبا.
قرر صلاح الدين الأيوبي التركيز في هذه الفترة على حماية بيت المقدس، وتهديد خطوط الإمداد الداخلية للصليبيين في فلسطين، وهذه السياسة الذكية والحكيمة أدت لحرمان ريتشارد والصليبيين من القيام بأي جهد للاستيلاء على بيت المقدس طيلة عام كامل، حتى أجبر ريتشارد على طلب الصلح من صلاح الدين الذي كان يواجه هو الآخر بدوره متاعب كثيرة بسبب تعب وضجر جنوده من مواصلة القتال لعدة سنوات، وهكذا كانت الأمور تدفع كلاً من الجانبيين نحو نوع من الهدنة، فالصليبيون أيقنوا أنهم لن يستطيعوا الاستيلاء على القدس مرة أخرى، والمسلمون كان عليهم أن يرتاحوا قليلاً لالتقاط الأنفاس من حروب متصلة لعدة سنوات، وهكذا تم توقيع صلح الرملة في 22 شعبان 588هـ ـ 2 سبتمبر 1192م، وكانت أهم موادها بقاء الساحل الفلسطيني فيما بين يافا وصور بأيدي الصليبيين، وبقاء القدس والداخل كله بيد المسلمين، أي أبقى صلح الرملة على الأمور على ما كانت عليه تقريبًا قبل قدوم هذه الحملة الصليبية الثالثة. المقدمات
كان لوقع الانتصارات التي حققها القائد العظيم صلاح الدين الأيوبي على الصليبيين في بلاد الشام أثرها العظيم في الغرب الأوربي لا سيما سقوط بيت المقدس في أيدي المسلمين سنة ( 583 هـ / 1187 م ) بعد موقعة حطين ، وانكماش الممالك الصليبية في بلاد الشام ، مما جعل صوت البابوية يرتفع مجدداً منادياً ملوك أوروبا وأمرائها للقيام بحملة صليبية جديدة تسترد بيت المقدس وتثأر للصليبيين .
وقد آتت هذه الدعوة ثمارها حيث استجاب لها ثلاثة من أكبار ملوك أوربا وهم ( ريتشارد قلب الأسد – ملك انجلترا ) و ( فيليب الثاني أغسطس – ملك فرنسا ) و ( فردريك بربروسا – امبراطور المانيا ) ، وكان هذا الأخير قد اختار ان يسلك طريق البر حيث تعرض لمصاعب جمة انتهت بغرقه في أحد أنهار أسيا الصغرى وتشتت حملته .
وصل كل من فيليب أغسطس وريشارد قلب الاسد الى عكا وبدأا حصار المسلمين ، إلا أنه لم يكد يمضي الوقت حتى دبت الخلافات بين قائدي الحملة الصليبية نتيجة خلافات قديمة تجددت في أرض المعركة ، نتج عنها انسحاب فيليب اغسطس ملك فرنسا والعودة الى بلاده .
بقي ريتشارد وحيداً في بلاد الشام ليتحمل وحده عبء مواجهة المسلمين بقيادة صلاح الدين الأيوبي ، وكانت هذه المواجهه ثقيلة على القائد الصليبي اذ تزعم لوحده جموع الصليبيين في بلاد الشام لاسترداد بيت المقدس ودارت بينه وبين صلاح الدين عدت معارك خلال السنوات ( 587 – 588 هـ / 1191 – 1192 م ) كان من أهمها معركة أرسوف سنة ( 587 هـ / 1191 م ) التي أوشك فيها صلاح الدين أن يقضي على الصليبيين لولا اعادة ريتشارد تنظيم صفوفه .
بدأ موقف صلاح الدين يزداد قوة وصلابة في الدفاع عن بيت المقدس ، بالرغم مما كان يعانيه من ظروف وأزمات داخلية ، وفي المقابل بدأت تظهر داخل الجيش الصليبي خلافات كبيرة ومعقدة ، إضافة إلى قلق القائد الصليبي ريتشارد من الأنباء التي كانت تصله تباعاً من عودة عدوه اللدود فيليب أغسطس إلى الاعتداء على أملاكه في الغرب .
وفي ظل تلك الظروف بدأ يظهر نوع من المفاوضات بين الطرفين كان كل منهما بحاجة إليه لمعالجة مشاكله الداخلية وترتيب أموره ، حيث توصلت تلك المفاوضات العسيرة إلى توقيع اتفاق عرف بصلح الرملة سنة ( 588 هـ / 1192 م )
بنود الاتفاق :
كان من بنود الاتفاق أن تتوقف الحرب بين الطرفين لمدة ثلاث سنوات وثلاثة أشهر وعلى أن يكون للصليبيين المنطقة الساحلية من يافا وقيسارية وحيفا وأرسوف وما عدا ذلك يبقى بأيدي المسلمين بما فيها بيت المقدس، كما نص الاتفاق أن للمسيحيين حق الزيارة بدون حمل سلاح.
وقد تضمنت شروط الاتفاقية ما يلي:
تكون الهدنة عامة في البر والبحر، ومدتها ثلاث سنوات وثلاثة أشهر.
أن يتخلى الفرنجة الصليبيون لصلاح الدين عن عسقلان وغزة والداروم (دير البلح)، وأن يبقى الساحل بيدهم من صور إلى يافا بما فيها قيسارية وحيفا وأرسوف.
للنصارى الحرية التامة في زيارة الأماكن المقدسة في القدس دون أن يؤدوا ضرائب للمسلمين، وتكون السيادة على الأماكن التعبدية حسب الاتفاقية من صلاحية المسلمين.
اشترط صلاح الدين دخول الاسماعلية الباطنية في الهدنة وفي المقابل اشترط الصليبيون دخول أميري أنطاكية وطرابلس الصليبيين في ذلك .
تكون مدينة الرملة واللد مناصفة بين المسلمين والصليبيين .
تتم هذه الاتفاقية بعد أن يحلف عليها ملوك وأمراء كلا الطرفين
وناب عن الملك ريتشارد في التوقيع على الاتفاقية هنري دي شامبني وباليان الثاني دي أبلين وأونفروي الرابع دي تورون، في حين مثل الجانب الإسلامي: الملك الأفضل والملك الظاهر ابنا صلاح الدين، وأخوه الملك العادل وبعض الأمراء الأيوبيين الآخرين. هذا وقد اشترط الصليبيين دخول صاحب أنطاكية وطرابلس في الهدنة فوافق السلطان على أن يقسموا فإن لم يفعلوا ذلك لا يدخلوا فيها. وقد أمر صلاح الدين أن يذاع خبر الهدنة في معسكرات الجنود وفي الأسواق ليتنقل المسلمين والصليبين في البلاد بحرية وسلام
بعد هذا الصلح غادر ريتشارد عن طريق البحر عائداً الى بلاده حيث واجهته مصاعب جمة في طريق عودته سار خلالها متنكراً عبر النمسا واكتشف امره الامبراطور الألماني ووضعه في السجن ولم يطلق سراحه إلا بدفع فدية كبيرة وقتل بعدها في معركة ضد خصمه اللدود فيليب أغسطس ملك فرنسا سنة (1199م) ، أما صلاح الدين الأيوبي فما لبث بعد هذا الصلح إلا سنة واحدة ، حيث توفي رحمه الله في دمشق سنة ( 589 هـ / 1192 م ). وكانت وفاته فاجعة وخسارة كبيرة على الأمة الإسلامية. الفرق بين صلح الرملة والسلام مع العدو الصهيونى
ما برح بعض “المعتدلين” اليوم يسعون لتبرير الانخراط في “عملية السلام” مع العدو الصهيوني بوسائل شتى وبذرائع شبه “تاريخية”، منها مثلاً “صلح الرملة” الذي أبرمه الناصر صلاح الدين مع ريكاردوس قلب الأسد ملك بريطانيا في بداية شهر أيلول عام 1192، أي بعد تحرير القدس ومعظم أراضي بلاد الشام بخمس سنوات تقريباً.
وكان صلح الرملة يقضي ببقاء الساحل الشامي بين صور ويافا بيد الفرنجة، على أن يبقى بقية ما تم تحريره من الأراضي المحتلة، ومنها القدس، بيد المسلمين، وأن يعيد الصليبيون عسقلان للمسلمين، وأن يُسمح للفرنجة بالحج إلى القدس مسالمين، على أن تكون بين الفرنجة والمسلمين هدنة عسكرية مدتها خمس سنوات.
إذن، فلنلاحظ أن:
1- صلاح الدين رفض أن يقابل ريكاردوس، وفاوضه عبر أخيه العادل .
2- صلح الرملة كان هدنة محدودة الأجل، ولم يكن اعترافاً “تاريخياً” بحق العدو بالوجود .
3- المسلمين تمكنوا من منع جيش الفرنجة من تحقيق هدفه الأساسي وهو احتلال القدس .
4-صلح الرملة نص على بند يعترف بسيادة المسلمين على القدس، وكل داخل فلسطين، للمرة الأولى منذ بدأت الحروب الصليبية .
5- الصلح أنتج عودة ريكاردوس قلب الأسد إلى بلاده فتخلص الناس من شره، ولم يؤدي إلى استيطان ريكاردوس في فلسطين، وهو ما يشكل نصراً معنوياً كبيراً .
6- “التنازل” الذي قدمه صلاح الدين بالسماح للفرنجة الأجانب بالحج إلى القدس مسالمين لم يخرج قيد أنملة عن مبدأ السيادة العربية-الإسلامية على القدس، وينسجم مع العهدة العمرية .
7- صلاح الدين بقي متحصنا بالقدس، وكانت مقاومته العسكرية الباسلة للغزو الصليبي، وموقفه السياسي الصلب، هو الذي أجبر الفرنجة على التخلي عن استكمال حملتهم الثالثة على بلاد الشام بعد انكفائهم في شريط ساحلي ضيق.
إذن لم يكن صلح الرملة معاهدة استسلام تكرس هزيمة عسكرية، بل كان مناورة دبلوماسية لحماية نصر عسكري ضخم كان قد تم تحقيقه قبلها بخمس سنوات، بتكسير معظم الإمارات الصليبية في بلاد الشام، خاصةً في فلسطين وشرق الأردن. وكان صلح الرملة يمثل نهاية الحملة الصليبية الثالثة، ولم يتم توقيعه من قبل أطراف خائرة القوى ومتهالكة على كسب ود الغرب، ولم ينتج عن هزائم عسكرية للعرب، ولا عن استعداد للتفريط بالسيادة، ولا عن تساهل مع مشروع التدخل الخارجي ب”تغيير النظام” “حقناً للدماء”، بل نتج عن قوة انتصرت من قبل، ونجحت بمحاصرة الحملة الصليبية الثالثة في الساحل، وتستطيع بالتالي أن تراهن على نفسها لاقتلاع ما تبقى منها.
أما الداعون للسلام مع “إسرائيل” اليوم فلا يهادنون مؤقتاً ليحاربوا، بل يستسلمون، ويعترفون، وهذا فرق كبير، وهم لم يحرروا شيئاً، ولم يبنوا قوى، ولا يتمسكون بموقفٍ مبدئي صلب، ولا يفاوضون حتى من موقع ضعف، بل من موقع يأس، وتقوم كل إستراتيجيتهم على جعل العدو يحبهم!
فمن مراسلاته مع ريكاردوس قلب الأسد. أنظروا مثلاً بعض ما جاء في رسالة ريكاردوس لصلاح الدين، وبعضاً مما رد به عليها:
- ريكاردوس: “فأما القدس فمحل عبادتنا ولا نقبل أبداً بالعدول عنها حتى وإن لزم أن نقاتل إلى أخر رجل فينا. وأما الأرض فنريد أن يعاد إلينا ما هو واقع غربي نهر الأردن”.
- ويرد صلاح الدين: “المدينة المقدسة أمر تركها غير وارد في حسابنا، والمسلمون لا يقبلون بذلك قط. وأما الأرض فطالما كانت أرضنا، واحتلالكم إياها ليس إلا عَرَضاً. ولقد أقمتم فيها بسبب ضعف المسلمين الذين كانوا فيها، أما والحرب قائمة فإننا لن نسمح لكم بالتمتع بما ملكتم”.
وفي النهاية، رحل ريكاردوس دون أن يرى القدس، ودون أن يأخذ الأرض الواقعة غربي نهر الأردن، أما ما أخذه الصليبيون، فصلاح الدين يقول له أنها أرضٌ محتلة لن يُسمح للمحتلين أن يتمتعوا بها، وهذا رفض مبدئي لحق الاحتلال بالوجود، وليس “عملية سلام” مع المحتل، أو اعتراف ب”قرارات الشرعية الدولية” ولا سعي لنيل رضا الغرب للتمتع بالحكم أو من أجل الوصول إليه، على طريقة بعض “الثوار” العرب مؤخراً
ساحة النقاش