الاتكال في الطير
في حياة الإنسان وفي معظم سلوكه في الحياة تأتي إما متوارثة علمه الله بها من سابق الزمان بوحي منه لأدم أو أنبيائه من بعده. فقد علمه الأسماء كلها لأدم وعلمه صنعة لبوس لكم, وعلم نوح كيف يصنع الفلك, وعلم الكثير والكثير في طرق العيش وسلوك الحياة وسلوك التعامل ومجمل ما يهم الإنسان.
ولم يتوقف تعلم الإنسان عند هذا الحد بل قدر الله أن يكون ذو عقل يفكر ويتأمل ويتعلم ويفهم فكان له أن يتعلم من جميع من حوله منذ أن أرسل الله له غرابا يواري أخيه في التراب ليعلمه كيف له أن يواري سوئت أخيه بعد وفاته. إلى كل مخلوق من مخلوقاته التي علمها الله ولقنها وفطرها عليه من التعامل أو العمل أو السلوك فكان من النمل حكمة وموعظة للبشر في سلوكها وتفانيها وأمتها في طريق كسب القوت والاكتناز إلى التعاون والتكاتف. ومن النحل تعمل كيف يكافح في العمل ليصنع الخير الذي يعطيه لغيرة دون منه أو كدر. ومن العنكبوت مثال عن البيت الواهن الذي يفتقد لأواصر المحبة والبقاء كيف له أن ينتهي بسهولة. ومن الهدهد تعمل كيف يكون للإنسان هدف سامي يعمل من أجله ويكون ترحاله وسفره وعودته وإيابه من أجله كيف يكون أمينا في نقل الواقع وتصويره. ومن هذه المعاني والمقاصد الكثير التي أمرنا الله أن ننظر في الأرض لنرى ونفكر من أجل الإيمان ومن أجل أن نتعلم مبادئ الحياة الراقية والسامية. سواء في طريقة العيش أو في دلالة أخرى أراد الله أن يبرهن لنا عن حكمته وكماله, وعن تحقق أسمائه وصفاته.
فإذا نظرنا إلى النمل رأيناه يعلمنا ويدلنا على أسلوب أو سلوك يحقق لنا البقاء وهو الادخار. نعم الادخار الذي يضمن فيه النمل طعامه لشتائه. ولكن أراد الله أن لا تزل عقولنا في اللهث نحو الدنيا واكتناز القوت والمال فيها بشكل أبدي وتصبح هذه زيجة الحياة. حيث أراد أن يقول لنا أنه هو الرزاق صاحب الزرق وصاحب العطاء ومالك الملك نقلنا إلى صورة أخرى من صور التوكل عليه وأنه لا طير للإنسان أو أي مخلوق صغر أم كبر في الأرض أو الكون بأكمله إلا وهو مطلع عليه ولا يكله إلى ضعفه وعجزة فقال في الحديث القدسي لون أن ابن أدم أمن بي وتوكل علي حق توكله لرزقته كما أرزق الطير تغدو خماصاً وتروح بطاناً. أو كما قال صلى الله عليه وسلم عقيدة من هذه الطير التي تجني رزقها يوما بيوم وساعة بساعة ولا تكتنز لغدها شي عدا ما جمعته في أحشائها نهاراً. ولا تؤمن بغير أنها لن تجوع أو تعاني ما دام من يرزقها هو صاحب الرزق والملكوت. هو إيحاء لنا الإنسان أن لا ننسى أن الفضل منه وأن نتكل على مخزون خزناه من يومنا لغدنا وننسى أن من قدره هو الله. لفتت منه سبحانه أن لا يجزع الضعيف وأن لا نتهافت تهافت الوحوش في البراري وأن لا نيأس من كوننا لم نبقي لغدنا شيء. فما يغنينا شيء ما جمعناه لغدنا لو أن الله لم يرده لنا. فأصحاب الجنة حين عجبوا بجنتهم وأقسموا أن لا ينال منها مسكين وليس لهؤلاء المساكين حق فيها, لم يغنهم كون ثمارها نضجت وأينعت ولم يتقى لهم سوى الجني والحصاد في غداة لا يصلهم إليها مسكين أو محتاج. فحال بينهم وبين ما يشتهون هو الله الذي أرانا كيف لنمل أن يدخر لغداه وعلمنا كيف الطير ترزق كل يوم. فلا اغترار بما جمع وتهافت لجمعه, ولا ترك للمقاصد ولكن توكل على الله وعمل داؤب بحق دون أن يغلب هذا على ذاك.
وليقول لمن نظر إلى النمل وأسره تفانيها وذكائها في ادخارها, لا تنسى أن تنظر إلى الطير كيف تعيش جديدها كل يوم وما أحلى تغريدها كل يوم. ليقول لنا لا للركون إلى ما جمع في جشع ومكر, ولا للتعطيل الحياة. بل أبني وأعمل. وكأنه يختم لنا بما قاله صلى الله عليه وسلم اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا وأعمل لأخرتك كأنك تموت غدا. ففي الطير متعة العمل للحياة وعيشها برغبة وسعادة وتوكل. وفي النمل سلوك العمل للآخرة. إنها عظمة الخالق الذي لا يزال يرينا الحق بحقه تبارك وتعالى.
دعوة كريمة من كريم معطي للإنسان أن يتكل عليه وأن لا يكلأ أو يمل أو يخشى فاقة أو عوز. حقيقة لا يغفل عنها إلى من عمى بصيرته وفقد رشده, وهذا هو ما عاش عليه أصحابه صلى الله عليه وسلم حين كان ينفق الواحد منهم جميع ما يملك في سبيل الله ويرد على من يسأله ما أبقيت يقول أبقيت الله. أبقى توكل على الله توكل يروح به الطير الخماص في غدواتها بطان. توكل يصنع الطمأنينة في القلب ويترك السكون في العقل فلا يرهقه التفكير في غد لا أحد يعلمه إلا خالقة توكل تلتقي في الروح كل لحطة وكل ساعة وكل ليل مع خالقها تسبحه وتحمده وتتعلق به صباح مساء لا تنفك تذكره وتسبحه وتحمده وتراه مراء العين حين تلتقط رزقها وتكسب زادها وتشبع جوعها وتروي طمأها. توكل يجعل الإنسان يعيش سعيدا بنفسه حيث يكون وسعيدا بروحه بمعية الله وسعيدا بحياته حيث يجتمع الإيمان مع العمل.
الزبير
6\7\2011
ساحة النقاش