الحمد لله الذي خلق الإنسان من عدم، وأسبغ عليه وافر النِعم، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين قولاً وفعلاً وصلة وبراً.
أما بعد:
فقد أمر الله عز وجل ببرّ الوالدين والإحسان إليهما، قال تعالى: (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناً إما يبلغنَّ عندك الكبرأحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أفٍ ولا تنهرهما وقل لهما قولاً كريماً * واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل ربِّ ارحمهما كماربياني صغيراً).
قال ابن عباس رضي الله عنه في تفسير قوله تعالى: (فلا تقل لهما أُفٍ ولا تنهرهما) هي كلمة كراهة. وقال مقاتل: الكلام الرديء الغليظ.
وقد خصَّ الله عز وجل التربية بالذكر في قوله تعالى: (وقُل ربِّ ارحمهما كما ربياني صغيراً) ليتذكر العبد شفقة الوالدين وتعبهما في التربية فيزيده ذلك إشفاقاً وحناناً عليهما.
وقال تعالى مؤكداً على حق الوالدين: (وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله وبالوالدين إحساناً وذي القربى واليتامىوالمساكين).
وبرّ الوالدين من أفضل الأعمال، وأجلِّ القربات، وأعظم الطاعات، فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: سألت رسول الله (ص): أي العمل أحبّ إلى الله؟ قال: «الصلاة في وقتها» قلت: ثم أي؟ قال: «بر الوالدين» قلت: ثم أي: قال: «الجهاد في سبيل الله»([1]).
كما وأن بر الوالدين من أسباب دخول الجنة، ومن الطرق الموصلة إليها، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله (ص) يقول: «رَغِم أنفه، رغم أنفه، رغم أنفه» قيل: من يا رسول الله؟ قال: «من أدرك والديه عند الكبر أحدهما أو كلاهما ثم لم يدخل الجنة»([2]).
قال الحسن: البر أن تطيعهما في كل ما أمراك به ما لم تكن معصية لله، والعقوق هجرانهما، وأن تحرمهما خيرك.
أخــي المســــلم:
وهذا الشهر العظيم يبسط رداءه عليك وقد أظلك يومه، وأقبل عليك نفعه. تأمل في حال رجل يأتي إلى النبي (ص) يستأذنه في الجهاد وهو من أعظم الأعمال، وفيه من المشقة والتعب والحِلِّ والترحال وتقطع الروح فقال له الرسول (ص): «أحيٌّ والداك؟» قال: نعم. فقال: «ففيهمافجاهد»([3]).
والأمر بالإحسان إلى الوالدين عام مطلق، ينضوي تحته ما يُرضي الابن وما لا يرضيه، من غير احتجاج ولا جدل ولا مناقشة، وهذه نقطة يجب الانتباه إليها لأن أكثر الأبناء يغفلون عنها، إذ يحسبون أن البر فيما يروق لهم، ويوافق رغباتهم، والحقيقة على عكس ذلك تماماً. فالبرّ لا يكون إلا فيما يخالف أهواءهم وميولهم، ولو كان فيما يوافقهما لما سُمّي براً.
قال الله تعالى حاثاً على برهما ومعرفة مكانتهما: (واخفض لهما جناح الذلّ من الرحمة وقل ربِّ ارحمهما كما ربياني صغيراً).
أخـــي المســـلم:
لا تمش إليهما بل كن مثل الطائر في سرعة إجابتهما وتلبية حاجتهما والوصول إلى رضاهما، وأتبع تلك الخدمة بالدعاء لهما بالرحمة والمغفرة، وما أحسبك بلغت بعض حقهما، ولكن الله يثبت على القليل، ويبارك فيه.
ومع هذه الدعوة الكريمة من الله عز وجل للبر والإحسان بالوالدين، إلا أننا نلاحظ اختلالاً في الموازين، ونقصاً في الإفهام، فنرى من يقدم الصديق والرفيق على الوالدين، والبعض يترك فضائل الأعمال من البر والدين ويذهب لأقل منها.
ولننظر إلى حال الكثير وهو يهرب من أبيه حال كبره، ولا يزوره إلا في فترات متباعدة، بل ربما وضعه في أحد دور المسنين، وربما نهره أو عنَّفه بصوت مرتفع وكلام سيئ، وكأنه يتخاصم مع عدوه. بل رأيت من يتعامل بحسن خلق ولين جانب مع الكفار، وهو سيئ الطبع والخلق مع والديه!! وغالب شباب اليوم تتقدم منزلة الصديق عنده على منزلة الوالدين، والله المستعان.
ومما شاع وانتشر لقلَّة الدين، وضعف الأنفس، وتسلط النساء، طاعة الزوجة وتقديمها على الوالدين. عن معاذ قال: أوصاني رسول الله (ص): «لا تعقَّ والديك وإن أمراك أن تخرج من أهلك ومالك»([4]). ولا خير في امرأة تسوق زوجها إلى عقوق والديه وقطع رحمه.
عن عبد الله بن عمر عن أبيه قال: كانت تحتي امرأة كان عمر يكرهها، فقال: طلقها فأبيت، فأتى عمر النبي (ص) فقال: «أطع أباك»([5]). وهذا إذا كان هناك مصلحة شرعية وعدم ضرر.
أخـــي المســـلم:
عن أبي الدرداء رضي الله عنه أن رجلاً أتاه فقال: إن لي امرأة وإن أمي تأمرني بطلاقها. فقال: سمعت رسول الله (ص) يقول: «الوالدأوسط أبواب الجنة فإن شئت فأضع ذلك الباب أو احفظه»([6]). في هذا الحديث بيان واضح أن في عقوق الوالدين إضاعة لأوسط أبواب الجنة، وأوسطها أعدلها وأكثرها خيراً، وفي برهما حفظه. فمن التمس السعادة حافظ عليه، ولو على راحته وسروره، ومن باع آخرته بدنياه وآثر الحياة الفانية على الحياة الباقية، وفضل اللذة الدائمة فإنه لا يبالي إن حفظ أو ضيع. هذا إذا كانت المرأة صالحة وأمراه بفراقها. أما إذا كانت سيئة الخلق خبيثة المنبت، وسيئة الطبع جموح القيادة؛ فطلاقها خير وأبقى.
كما وأن الأخت المسلمة الموفقة التي تخاف الله عز وجل لها نصيب في إعانة الزوج على بر والديه واحتساب الأجر في ذلك، ودفعه إلى برهما ومراعاة حالهما وكبر سنهما، وإن من حسن العشرة وطيب المعدن التودد إلى والديه وخدمتهما وتفقد حاجاتهما.
قال مجاهد: لا ينبغي للولد أن يدفع يد والده عنه إذا ضربه، ومن شدَّ النظر إلى والديه فلم يبرهما، ومن أدخل عليهما حزناً فقد عقهما:
واحذر ـ أخي المسلم ـ من عقوق الوالدين فقد قال الرسول (ص):«ثلاثة لا ينفع معهن عمل: الشرك بالله، وعقوق الوالدين، والفرار منالزحف»([7]).
وعن معاوية بن جاهمة بن العباس السلمي: أن جاهمة رضي الله عنه أتى النبي (ص) فقال: يا رسول الله، أردت الغزو وجئت أستشيرك. فقال: «هل لك من أم؟» قال: نعم. قال: «الزمها فإن الجنة عند رجليها»([8]).
وجاء رجل إلى النبي (ص) فقال: يا رسول الله، جئت أبايعك على الهجرة، وتركت أبواي يبكيان. فقال: «ارجع فأضحِكْهما كما أبكيتهما» وفي لفظ آخر: «لا أبايعك حتى ترجع إليهما فتضحكهما كما أبكيتهما»([9]).
قال بشر بن الحارث: الولد بالقرب من أمه تسمع نَفَسَه، أفضل من الذي يضرب بسيفه في سبيل الله عز وجل، والنظر إليهما أفضل من كل شيء.
وعن عطاء أن رجلاً أقسمت عليه أمه: لا تُصلي إلا الفريضة، ولا تصُوم إلا شهر رمضان، قال: يُطيعها؛ لأن طاعتها مقدمة على نوافل العبادات.
وقال هشام بن حسان: قلت للحسن: إني أتعلم القرآن وإن أمي تنتظرني بالعشاء، قال الحسن: تعشَّ العشاء مع أمك تقرُّ بها عينك أحب إليَّ من حجة تحجها تطوعاً.
ورأى ابن عمر رضي الله عنهما رجلاً قد حمل أمه على رقبته وهو يطوف بها حول الكعبة، فقال: يا ابن عمر: أتراني جازيتها؟ قال: ولا بطلقة واحدة من طلقاتها، ولكن قد أحسنت، والله يثيب على القليل كثيراً.
أخــي المســلم:
لو أكرمك إنسان يوماً من الدهر أو يومين لأكثرت من الثناء عليه وشكره وتعداد محاسنه، فما بال والديك لا يريان إلا جحوداً وصدوداً وهمّاً منهما في حياتك؟ سنوات طويلة وهما يتفقدانك ويقدمان لك الأكل والشرب والغذاء والكساء، والدواء والعلاج، والرحمة والحنان، والرعاية والتربية، ثم نهاية كل ذلك المعروف وهذا الخير أن تهجرهما! سبحان الله ما أقسى القلب وما أبعده عن الخير!
أخــي المســلم:
لم نر ابناً مرض حينما فقد أباه أو أمه، وتأمل في يعقوب عليه السلام وكيف أثر فقد ابنه يوسف عليه: (وابيضت عيناه من الحزن فهوكظيمٌ).
ومما شاع من صور العقوق إبكاؤهما وتحزينهما، وعدم زيارتهما إلا على فترات متباعدة، وعدم تفقد أحوالهما الصحية والمادية. كذلك إدخال المنكرات والتهاون في طاعة الله من قبل الأبناء فإن ذلك يسوؤهما ويدخل الحزن على قلوبهما، وما شاع بين بعض الناس عدم احترامهما والقيام لهما وتقبيل رأسهما وإجابة طلبهما، ومن العقوق أن يستحوذ الغرور على الأبناء فيستحيون أن يُنسبوا إلى آبائهم، لاسيما إذا كانوا في مراكز اجتماعية مرموقة وبسطة في المال واسعة.
جاء رجل إلى رسول الله (ص) فقال: يا رسول الله، من أحق الناس بحسن صحبتي؟ قال: «أمك» قال: ثم من؟ قال: «أمك» قال: ثم من؟ قال: «أمك» قال: ثم من؟ قال: «أبوك»([10]).
قال ابن بطال: إن الأم تنفرد عن الأب بثلاثة أشياء: صعوبة الحمل وصعوبة الوضع وصعوبة الرضاع.
وفي تقديم الأم على الأب حكمة بالغة فهي بالإضافة إلى ما تبذله من جهد يفوق جهده إلا أنها في حاجة إلى من يعولها ويبرها، لأنها ضعيفة الجسم عديمة الكسب تحتاج إلى المداراة والعاطفة! ومن أحق الناس بذلك سوى ابنها؟!
أخــي الحبــيب:
من صور البرّ لمن فقد والديه وغيَّبهما الموت، الدعاء لهما بالرحمة والمغفرة وإنفاذ وصيتهما، وكذلك التصدق عنهما، وصلة رحمهما، كما جمع ذلك الرسول (ص) حينما سأله رجل من الأنصار فقال: يا رسول الله، هل بقي عليَّ من بر أبويّ شيء بعد موتهما أبرهما به؟ قال: «نعم، خصال أربع: الصلاة عليهما والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما، وإكرام صديقهما، وصلة الرحم التي لا رحم لك إلا من قبلهما،فهو الذي بقي عليك من برهما بعد موتهما»([11]).
أخــي الشـــاب:
وصية من الله لك من فوق سبع سماوات، من كتاب الله عز وجل وسنة نبيه (ص). ها هما بجوارك قد بدأ المشيب إليهما واحدودب منهما الظهر وارتعشت الأطراف، لا يقومان إلا بصعوبة ولا يجلسان إلا بمشقة، أنهكتهما الأمراض، وزارتهما الأسقام، عليك بالبر والإحسان ولا تبخل عليهما بمالك وجهدك وحسن خلقك وطيب معشرك.
اللهم اغفر لنا ولوالدينا، واجزهم عنا خير الجزاء، اللهم ارفع درجاتهم وأَعْلِ قدرهم، واجعل ما أصابهم تكفيراً لذنوبهم، ورفعاً لمنزلتهم، اللهم أسكنهم الفردوس الأعلى مع النبيين والصديقين والشهداء، وصلى الله على نبينا محمد.
([1]) متفق عليه.
([2]) رواه مسلم.
([3]) رواه البخاري.
([4]) رواه أحمد.
([5]) رواه أحمد.
([6]) رواه الترمذي.
([7]) رواه الطبراني.
([8]) رواه أحمد.
([9]) رواه البخاري في الأدب المفرد.
([10]) رواه البخاري.
([11]) رواه أحمد.
ساحة النقاش