يحمل الشهر الفضيل دعوة إلى الاعتدال في الإنفاق دون إسراف ولا تقتير، وهو ضرب من الاعتدال والتوسط، قال سفيان بن حسن: أتدرون ما الاقتصاد؟ هو الشيء الذي ليس فيه غلو ولا تقصير. والتوسط هو سلوك الطريق الأفضل واختيار الحل الأمثل، فهو سمة العاقلين الذين يحسبون للمفاجآت حساباً تجنباً للوقوع تحت طائلة الديون. قال تعالى: (وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا)، فلا يمسك إمساكا يضيق به على نفسه وأهله أو أن يتوسع في الإنفاق توسعاً يتجاوز به الحد العقول.

والاقتصاد منزلة محمودة وسطى بين الإسراف والتقتير، وهما صفتان ذميمتان تتعلقان بسوء التدبير المالي، فالأول حجبه عن أصحاب الحق فأتلفه على ملذاته، والثاني حجبه كذلك عن أصحاب الحق وشدد عليهم، وحرم نفسه وأهله من التمتع بنعمة المال التي سخرها الله لعباده، وحرم المحتاجين من الفقراء والمعوزين، لذلك كان الاعتدال في الإنفاق ضرورة اجتماعية لتمكين أصحاب الحقوق في هذا المال من حقوقهم.

الإسلام وسط في الإنفاق في اقتصادياته فهو يحارب الإفراط في الاستهلاك الذي يعتبر سمة المجتمعات الرأسمالية التي تقوم على مطلق الحرية في الدخل والصرف، مستغلة أجهزة الإعلام في الدعاية والإشهار لإغراء الناس واستهوائهم للاستهلاك وتغليب المنافع الخاصة عل حساب استقرار السوق وضمان الجودة واستقرار المجتمعات، ويحارب الإفراط في التقشف الذي تأخذ به الأنظمة الاشتراكية التي تقتر على مجتمعاتها وتحرمهم من الاستمتاع بمتاع الحياة وزينتها.

 

الاستخلاف

 

والإسلام من منطلق نظرية الاستخلاف يقر بأن المال مال الله، والإنسان مستخلف فيه، يتصرف فيه على ضوء الأحكام والتشريعات التي جاءت لتصون الأموال دخلاً وصرفاً، كي تؤدي وظيفتها الاجتماعية خير أداء، فتحقق التكافل والتضامن وتحمي الأسواق من العبث، لذلك يدعو إلى الإنفاق ولكن من غير سرف ولا تقتير، قال ابن عباس رضي الله عنها: المؤمنون لا يسرفون فينفقوا في معصية الله، ولا يقترون فيمنعوا حقوق الله.

وإذا كان التوازن والاعتدال في الإنفاق مطلوبا في كل وقت، إلا أنه أصبح أشد تأكيدا في وقتنا الحاضر بحكم تأثر مجتمعاتنا بما يجد في العالم من ارتفاع في الأسعار، وهذا يستوجب منا مزيشداً من الحزم والضغط على النفقات، فالإسراف المذموم يشمل كل يمكن أن يستهلكه الإنسان ولعل أهمها الماء والطاقة بمختلف أشكالها، فالحفاظ على هذه الثروة لا يؤثر في ميزانية الأسرة، فحسب بل هو سلوك حضاري ومشغل اجتماعي، فعلى الجميع عدم تبديد الطاقة وتوخي الحكمة في استهلاكها، حفاظاً على ثروات البلاد وضماناً للأجيال اللاحقة من حق العيش الكريم.

فالاعتدال في الإنفاق موازنة تراعى فيها الحقوق وتؤدى فيها الواجبات كما أمرنا الله تعالى وأوصانا رسوله الكريم ، إنها موازنة رشيدة تختلف حسب أوضاع الناس ومصالحهم الدنيوية والأخروية، فقال تعالى: (أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ).

الإسراف والتبذير

الإسراف مفسدة في كل أحواله وباب شر وفساد على الأفراد والمجتمعات، فعلى الأسرة تنظيم شؤونها الاقتصادية حتى لا يرتفع نسق مصاريفها وتختل ميزانيتها وتضطر للديون، وعليها وتجنب ما لا تحتاجه من كماليات محافظة على الاقتصاد العائلي من الانخرام نتيجة تكليف النفس ما لا تطيق بالإفراط في الملبوسات وأدوات الزينة والأثاث، وهذا ما أرشدنا إليه ربنا تعالى في كتابه الكريم عندما قال: (لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آَتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آَتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا).

وسلبيات الإسراف على المجموعة أعمق، فهو يفسد ثروة الأمة ويضعف رأس المال، ويربك الأسواق، ويسبب ارتفاع الأسعار وما يصحبه من كثرة الديون، وهي في مجموعها تؤدي إلى التضخم المالي المخل بالتوازن الاقتصادي والاستقرار الاجتماعي، قال عليه السلام: من أخذ من الدنيا فوق ما يكفيه أخذ من حَتْفِه وهو لا يشعر.

أما الاقتصاد في الإنفاق فمن محاسنه أنه يقي من الفقر والحاجة ويحقق التوازن المالي للفرد ويمكن الإنسان من ادخار شيء لمستقبله، فكم من محتاج أصبح باقتصاده وحسن تدبيره في سعة من العيش، قال عليه السلام: “ثلاث منجيات: خشية الله من السر والعلانية والقصد في الغنى والفقر وكلمة الحق في الرضا والغضب”، وقال أيضاً: الاقتصاد نصف العيش وحسن الخلق نصف الدين، فالاقتصاد والتوسط والاعتدال في الإنفاق نصف المعيشة، لأنه يتوخى التدبير والتخطيط والإحكام وضبط الأمور والتقيد بما هو واقع، والنصف الآخر في حسن التطبيق وقراءة الواقع بموضوعية واستشراف للمتوقع، وهو الجانب العملي للاقتصاد، فهو ليس مجرد تدبير وضبط وحسابات وإنما هو سلوك يومي يشمل كل ميادين الحياة.

الاعتدال

وليس السرف في الإنفاق كل ما ذكرنا لكن في المسكن والملبس والمركب والخدم من السرف مثل ما في الطعام والشراب، إذ أن هم كثير من الناس هو التفنن في المقتنيات بقصد المحاكاة والمباهاة، فيجب أن يكون مبعث الشراء الحاجة لا التباهي والتفاخر أو متابعة الموضات، ورحم الله عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين استنكر هذا اللون من الإسراف بقوله: “أكلما اشتهينا اشترينا”.

فجدير بالمسرف أن يراجع حساباته وأن يرجع عن إسرافه، ويعقد العزم على الاعتدال حفاظا على ماله. قال صلى الله عليه وسلم: إِنَّ الْهَدْىَ الصَّالِحَ وَالسَّمْتَ الصَّالِحَ وَالاِقْتِصَادَ جُزْءٌ مِنْ خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ، وقال أيضاً صلى الله عليه وسلم: ما عال امرؤ اقتصد أي ما افتقر ولا احتاج من حافظ على أمواله ولم يبذرها.

وليست دعوة الإسلام إلى ترك الإسراف توجب الشح، فالله يقول في وصف عباده المعتدلين المتوسطين الذين يرضى عنهم وعن سلوكهم: “وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا)، والقوام العدل والقصد بين الطرفين. إن ترشيد الاستهلاك اعتدال وتوسط وسخاء وجود وسماحة وعدل اجتماعي واعتدال اقتصادي وتضامن جماعي يوفر الحياة الكريمة لكل أفراد المجتمع ويثبت أمن الوطن ويعزز مسيرته نحو التقدم والرقي، فهو وسيلة من وسائل الحفاظ على تماسك المجتمع وتعبير عن فهم عميق لمقاصد الدين القائمة على الوسطية والاعتدال.

د. سالم بن نصيرة

المصدر: الاتحاد
  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 126 مشاهدة
نشرت فى 11 أغسطس 2012 بواسطة alsanmeen

ساحة النقاش

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

1,279,033