1. الجوع حكمة الصوم... عند الفقهاء
2. الجوع محور الرياضة... ند الصوفية
سلام الله عليكم ورحمته.... "يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم، واشكروا الله إن كنتم إياه تعبدون".
تشهدون الموسم الرياضي السنوي، في رمضان؛ وهو موسم رياضي، أحسبه لوناً من التدريب الإصلاحي، يجند له المسلمون جميعاً... إذا ما كانت الأمم اليقظة اليوم، تلزم أبناءها الصالحين، في كل عام، ضرباً من التدريب الجندي مدة معينة. يتركون فيها أعمالهم المعتادة، من فنية وعلمية، وعملية.... ويأوون طول هذه المدة إلى مواطن خاصة، يؤخذون فيها بصنوف من النظم الجادة الحازمة، والأعمال الناشطة مما أشبه هذا الموسم الصومي، بأن يكون، لونا من التدريب الرياضي يؤخذ فيه المكلفون جميعاً، من أمة القرآن رجالاً ونساء، بنظام حياة، رزينة، فيها صلابة، وفيها عزم.....
وإذا ما كانت الأمم اليقظة اليوم، إنّما تدرب أبناءها، إعداداً ليوم، يحتاج فيه، إلى جلادة فيهم وصلابة، يلقون بها أزمات، تمتحن فيها حيويتهم، ويفدون فيها جماعتهم... فلعلّ هذا التدريب النفسي، أن يعدّكم لشيء، مما احتاج إليه شرقكم، في إثبات وجوده، وإحياء مجده وما أشد حاجته، إلى ذلك كله.
وإذا ما كانت مواسم التدريب في الأمم انتقالاً، يغير خطط الحياة والعمل، فالموسم الرياضي السنوي، خليق بأن يدخل غير قليل من التغيير، على تدبير حياتكم، ونظام أعمالكم.
لقد تحدثت عن نظام التدريب الإسلامي هذا طوائف، من أصحاب الثقافة الإسلامية فوصف برنامجه، أصحاب الفقه، فيما درسوه، من العبادات... كما تحدث عن أسراره ومراميه، أصحاب التصوف، فيما وصفوا، من رياضات ومجاهدات.
وإذا كان الفقهاء والصوفية، قد اختلفوا منذ عصر مبكر، في أشياء كثيرة، فلعلّهم في هذا الحديث عن الصوم، قد اتفقوا في فهم حقيقته الأولى وبيان مرماه الهام، في الشريعة، وما يؤخذ به المكلفون فيه، ونريد هنا لنستمع إلى قول الفئتين، في هذا، وما اتفقوا عليه بشأنه، على ألا نستمع لهم، في استسلام غافل، وقبول متساهل، بل للنظر فيه، بعين ناقدة، فاحصة، وعلى أساس، هو: أنّ هذا القرآن إنّما هو أصل، الأول والبيان الأكمل، فما أيده القرآن، من مرامي الفقهاء والصوفية هو المقبول، وما باعده القرآن، وجافاه من قولهم، فهو المردود، مهما تتوجه أسماء بارزة، وتروج له هيئات ذات شهرة سائرة.
ولهذا نتلمس فهم النظرة القرآنية، لهذه العبادات وتتبع حديثها فيها، وفيما يتصل بها، من جوع وأكل، تتبعاً نستبين منه وجهة نظره، لباب رأيه، ونعرف من الاعتبارات والأغراض التي يرمي إليها، من هذا كله... ثم نعرض قول الفقهاء والصوفية، على ما توصل إليه من ذلك؛ فما قرب من تقدير القرآن، وصادف اعتباره، فهو الرأي، وما لا فلا... وبهذا يتضح لنا مدى تمثلهم للحكمة القرآنية، واستشفافهم للهدى السني.
وإنا لنرمي بهذا إلى غرضين:
أقربهما، أن نهتدي من حكمة التدريب الصومي، إلى شيء أدق وأنفذ، مما قبل فيه، فتغير النغمة المكررة، في بيان تلك الحكمة، وذلك المرمى.
وأبعد هذين الغرضين، أننا في الوقت نفسه، نتدرب، وندرب أصحاب التفسير على طريقة في التدبر والفهم، تعتمد على التتبع الشامل لقول القرآن في الموضوع الواحد، واستقصاء غرضه في المرمى الواحد، على اختلاف تناوله له، في الأزمنة المتباعدة، والمناسبات المتعددة، إذ أن هذا التتبع والاستقصاء، هو الذي يقرب من ذوق القرآن الفني، وينقلنا إلى جوه الأدبي، حتى تنتهي إلى دقائقه، ولا نقف عند شرح اللفظة اللغوية، وذكر المعنى الشائع للجملة والغرض القريب اليسير من التعبير.
وهذه الطريقة في التفسير، قد يكون موسم هذا التدريب الرمضاني، أصلح أوقاتها، وخير ظروفها، إذ يدنو الصائمون من القرآن ويقرب إليهم القرآن في صومهم ورياضتهم: وينزل إليهم كما فهمنا قريباً من نزول القرآن في رمضان.
تحدث الفقهاء، عن الصوم، فردوه إلى معنى الإمساك والترك اللغوي، وبينوه بأنّه ترك الأكل والشرب، و....... من الصبح إلى المغرب، بنيّة من أهله، فجعلوا قوامه هو الجوع وترك الأكل، ولما ألموا بشيء من حكمته أداروها على الجوع وأثره؛ بل لم يكتفوا بذكر الجوع في الحكمة، وإنّما جعلوا منه دليلاً عقلياً على فرضية الصوم، وكان مما قالوا: أنّ الصوم هو قهر الطبع، وكسر الشهوة، لأنّ النفس إذا شبعت بحثت عن الشهوات، وإذا جاعت امتنعت عما تهوى. فكان مقدار هذا التدريب عند الفقهاء أصحاب الظواهر، هو الجوع وما ينشأ عنه.
وأمّا الصوفية - أو متأخروهم على الأقل - فقد ردوا الصوم أيضاً، إلى هذا الجوع، وأفاضوا في بيانه، عندما تحدثوا عن أسرار الصوم، ولفتوا النظر إلى ما يعرضون له، من البحث الخاص في فضل الجوع، عندما يتحدثون، عن أثر الجوع، وضرر الشبع، إذ عدّوا الجوع من أوائل العمل، في رياضة النفس ومجاهدتها، توصلاً إلى كسر شهوتها إلى الطعام وغيره... إنّهم قد توسعوا في بحث الجوع توسعاً كبيراً، وفلسفوا القول في نتائجه وطرق الارتياض عليه، وما إلى ذلك، فلسفة هي التي قصدتها فيما عنونت "عن فلسفة الجوع".
وإنّي لأؤثر أن أسمعكم، في شيء من الإفاضة - بعض ما للمتصوفة، في فلسفة الجوع، بعدما رأينا الفقهاء يتفقون معهم، على أنّه قوام الصوم وحقيقته، لنعرض قول الفريقين، على ما نحسه من نظرة القرآن إلى الجوع والطعام.
يفيض الصوم، في بيان شرور شهوة البطن، إلى أن يبنوا عليها، كل شر في الحياة الإنسانية، منذ بدء الخليقة إلى الآن؛ فشهوة البطن، هي التي أخرجت آدم وحواء من دار القرار، إلى دار الذلّ والافتقار، إذ نهيا عن الشجرة، فغلبتهما الشهوة، حتى أكلا منها، فبدت لهما سوءاتهما... والبطن على التحقيق عندهم ينبوع الشهوات، منبت الآفات، إذ تتبعها شهوة الجنس؛ ثمّ تتبعها شدة الرغبة، في الجاه والمال للتوسع بهما، في إرضاء هاتين الشهوتين... وتتبع شدة الرغبة، في الجاه والمال، أنواع المنافسات والمحاسدات... ثمّ تتولد من بينهما آفة الرياء، وغائلة التفاخر، والتكاثر، والكبرياء... ثمّ يتداعى ذلك إلى الحقد والحسد، والعداوة، والبغضاء؛ ثمّ يقضي ذلك بصاحبه، إلى اقتحام البغي والمنكر والفحشاء... من أجل ذلك، كانت كل شرور الدنيا - في بيانهم - ثمرة إهمال المعدة، وما يتولد عنها، من خطر الشبع والامتلاء... لا عجب إذا ما اهتموا بفضل الجوع، ووقفوا عند دراسته، مقدمين بين يدي ذلك منقولات فياضة، من قول الرسول - عليه السلام - فهو في نقلهم، قد قال:
سيّد الأعمال الجوع... قلة الطعام العبادة... ليس من عمل أحب إلى الله، من جوع وعطش... أفضلكم عند الله منزلة يوم القيامة أطولكم جوعاً وتفكراً.. اجتهدوا أنفسكم بالجوع والعطش، فإنّ الأجر في ذلك، كأجر المجاهد في سبيل الله... لا يدخل ملكوت السماء، من ملأ بطنه... كلوا في أنصاف البطون تدخلوا ملكوت السماء... جيعوا أكبادكم، وأعروا أجسادكم، لعلّ قلوبكم ترى الله عز وجل... إنّ الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، فضيّقوا مجاريه بالجوع والعطش... أديموا قرع باب الجنة يفتح لكم؛ قيل: كيف نديم قرع باب الجنة؟ قال: بالجوع والظمأ... وإلى غير ذلك من مثل هذا الذي ينقله ناقلوهم في فضل الجوع، وعظيم أجره.
وعلى هذا الأساس يتقدمون، فيعدّون جوع المجتهدين كرامة، وجوع الزاهدين حكمة؛ وجوع الراغبين كذا، وجوع التائبين كذا، وجوع الصابرين كيت وكيت... عندهم أنّ إجاعة الله الناس وتعريتهم فضيلة، يخص الله بها أولياءه، فيقول قائلهم: إلهي أجعتني، وأجعت عيالي، وتركتني بلا مصباح، في ظلم الليالي، وإنّما تفعل ذلك بأوليائك فبأي منزلة نلت هذا منك؟
كما يرون، أنّ الإنسان، إذا ما وسع الله عليه، ما يلتذ به ويشتهيه، فإنّما هو بذلك يمتحنه ويبتليه، فينظر كيف يؤثره، على ما يهواه، وكيف يحفظ أوامره ونواهيه... ثمّ يتحدثون عن المجاهدين بالجوع، وطول المدة التي استطاعوا أن يعيشوها جائعين، ويذكرون في ذلك أرقاماً قياسية، على نحو ما يفعل أصحاب الرياضات المختلفة اليوم ويسمون في ذلك باطلاً، من القدامى والمحدثين فموسى عليه السلام، لما قربه الله نجياً، قد ترك الأكل أربعين يوماً: ثلاثين ثم عشراً، على ما ورد في القرآن. والمسيح عليه السلام، كان يطوي أربعين يوماً... هؤلاء وغيرهم من أصحاب الديانات الأخرى، وأمّا أهل الإسلام فيذكرون لهم مدداً مختلفة، تبدأ من ثلاثة أيام، وتتزايد متصاعدة، فيسمون فلاناً، كان يطوي ثلاثة أيام؛ وفلاناً كان يطوي ستة أيام، وآخر سبعة أيام، كما أنّ فلاناً طوى عشرين يوماً، حتى انتهى بعضهم إلى ثلاثين يوماً، وأربعين يوماً لا يأكل ولا يشرب ويذكرون في هذا جماعة كثيرة العدد، بل يرتقي بعض أهل هذه الطائفة، إلى ستين يوماً طاوياً... عندهم أنّ من المعتاد القريب، أن يطوي المريد يومين إلى ثلاثة؛ وتلك في المجاهدين درجة ثانية.
وإنّهم لينقلون من هؤلاء الجياع، في أثر هذا الجوع، وما فيه من خير وإصلاح أقوالاً، بالغت في ذلك كثيراً؛ فيقسم قائلهم بالله تعالى: أنّ الله ما صافى أحداً، إلا بالجوع؛ وآخر يقول: لم ير الأكياس شيئاً، أنفع من الجوع، للدين والدنيا... قد وضعت الحكمة والعلم في الجوع، ووضعت المعصية والجهل في الشبع... ثمّ إذا ما عرضوا لدرس فوائد الجوع ومنافعه، وآفة الشبع ومضاره، أشبعوا القول في هذا كله إشباعاً كبيراً، وأشرفوا على آفاق من البحث فسيحة، فتسمع لهم فيه فوائد صحية جسيمة؛ وأخرى عقلية علمية، وغيرها خلقية أدبية، ورابعة فنية ذوقية، وخامسة دينية عبادية، مما تستقيم به الحياة في الدنيا والآخرة، في رأيهم.
وقد أيدوا أقوالهم فيها بالمعارف المتصلة بتلك النواحي المختلفة، ثمّ بتجارب خاصة لهم، تشهد أنّهم قد خدموا فلسفة الجوع خدمة نظرية وعملية، لا يتسع هذا المقام للإشارة إلى كثير منها... أنّهم انتهوا بها إلى إعانة المرتاضين من مجاهديهم، على تحقيق رغباتهم في الجوع، واتقاء آفات الشبع الخطرة، فضبطوا لهم ذلك ضبطاً كافياً، إذ وصفوا الجوع الصادق، والجوع الكاذب، وأعراض كل واحد منهما.... كما وصفوهم وصفاً نظرياً، أرشدوا إلى أشياء عملية تجريبية، تعرف ذلك كله... ثمّ شرحوا تدبيرات خاصة للاعتدال في التغذية، وللتجويع لعلّها لا تزال إلى اليوم، طريفة، عند مّن يعانون هذه الأشياء الآن؛ ويتصدون لها... قد رموا دائماً، من كل هذا، إلى الغاية الدينية، في كسر الشهوة، وإذلال النفس، وضغط الجسد، على ما بينا مقصدهم منه آنفاً، وتحدثوا عن صنيع رجالهم، في قتل هذه الشهوة وهزيمتهم، فحكوا في ذلك أشياء، قد تلتحق بالبعيد المستغرب، عند من لا عهد له بها، ولا رياضة عليها.
وإنّ فلسفة القوم في الجوع، لم تلبث أن اتصلت بفلسفتهم العامة عن الحياة وغايتها، فانتهت بهم إلى فكرة خاصة في ذلك، تلائم مراميهم السابقة... لم يترددوا في تقرير أنّ الإنسان لا ينبغي له أن يطلب القوة في هذه الحياة، ولا أن يعدها غاية له؛ وبينوا رأيهم في ذلك بأسلوب نظري، لعلّهم نسوا فيه الفكرة الإسلامية، وجانبوا من واقع الحياة الإسلامية في عصورها التاريخية المختلفة.
فاستمع لهم، إذ يمضون في إثبات أنّ القوة ليست غاية للحياة فيقولون: إنّ الله استبعد الخلق بثلاث: بالحياة والعقل والقوة؛ فإن خاف العبد على اثنين منها، هي الحياة والعقل، أكل وأفطر، إن كان صائماً... كلف طلب القوت إن كان فقيراً.. أمّا إذا لم يخف على الحياة والعقل، وإنّما خاف على القوة، فينبغي ألا يبالي بذلك. ولو ضعف حتى صلى قاعداً فصلاته وهو قاعد، مع ضعف الجوع، أفضل من صلاته قائماً، مع كثرة الأكل؛ وتلك عندهم أرفع الدرجات، وعادة الصديقين، يرد فيها المجاهد نفسه، إلى القوام، لا يبغي دونه، وهي اختيار من أعطوهم مرتبة الإمام فيهم.
كذلك سمعتم قول الفقهاء، في اعتبار حقيقة الصوم - جوعاً - ثمّ رأيتم الصوفية، قد توسعوا في فلسفة الجوع، ووصلوا ذلك بالغاية الكبرى من الحياة، فآثروا الضعف مع الجوع، على القوة مع كثرة الأكل، ولو أثر ذلك في العبادة وإقامة الصلاة... قد ألمنا بأطرف من هذه الفلسفة عن الجوع، لمناسبتها هذا الموسم الرياضي التدريبي في رمضان... انظروا فيما جاءكم من هذه الفلسفة وقول أصحابها، حتى نلتقي فيما يلي، فنعرض هذا كله على ما يمكن إدراكه، من نظرة القرآن إلى الجوع، والأكل، حينما عرض لهما، وتكلم عنهما، فنقبل من تلك الفلسفة ما يقبله هدى القرآن وندرك وجه الصواب، في مرمى هاتيكم الرياضة الصائمة.
ساحة النقاش