"يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم، ولا تعتدوا إنّ الله لا يحب المعتدين. وكلوا ممّا رزقكم الله حلالاً طيباً، واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون".
حدثتكم من قبل عن الفقهاء، وتعريفهم الصوم بالجوع، وترك الأكل والشرب... إلخ... وإرادتهم الشاهد العقلي لفرضية الصوم على فعل الجوع بالنفس، وردهم حكمة الصوم إلى أثر الجوع أيضاً، كما رأينا الصوفية يفلسفون هذا الجوع فيسببون به كل خير، كما ينسبون إلى شهوة الطعام كل شر؛ ويروون في فضل الجوع ما يروون مما يعدونه حديثاً، ويذكرون مآثر العابدين في الصوم ومدته، ثمّ ما يلبثون - على ما سمعنا - أن يربطوا فلسفتهم في الجوع، بفلسفة عامة في الحياة وغايتها. فيؤثرون ضعف الجوع على قوة الشبع، وإنّ أثر ضعف الجوع في أداء العبادات ذاتها...!
ونريد هنا أن نعرض هذه الآراء على هدى القرآن، لنرى إلى أي مدى يؤيدها، أو يرفضها!
والاحتكام إلى الهدى القرآني في هذا وغيره، ورد كل شيء إليه، هو ما نقبله جميعاً في غير تردد..فالقرآن هو الحكم الذي ترضى حكومته... ولا شك.
وسنرى أنّ القرآن قد تحدث عن الجوع في غير موضع، فذكره في آيات مكية، وذكره في آيات أخرى مدنية... فاستمع إليه حين يقول لقريش: "فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف". فيعد نعمتي الإطعام والإيمان، اللتين خلص بهما قريشاً من نقمتي الجوع والخوف.
وهو بمثل هذا يعدّ نعم الجنة، دار النعيم المقيم، والسعادة الكبرى، فيقول لآدم: "إنّ لك ألا تجوع ولا تعرى، وأنّك لا تظمأ فيها ولا تضحى" فالجوع والعرى والظمأ، والضحو، بالتعرض للشمس وحرها، كلها آلام يأمن منها مَن يكون في الجنة، وهذا هو ألم الجوع الذي يقدم في عداد الآلام. التي يأمن منها الإنسان، ويذكر قبل سائر الآلام من عرى وظمأ وغيرها.
وإذا نعم أهل الجنة بألا يجوعوا فقد شقي أهل الجحيم، في وصف القرآن بألا يجدوا إلا ما لا يشبع، فقال عنهم: "ليس لهم طعام إلا من ضريع لا يسمن ولا يغني من جوع"... والآية فيما فهم أصحاب العربية تنفي أنّ لأهل العذاب طعاماً ما، لأنّ الضريع الذي قيل إنّه لا طعام لهم سواه، إنّما هو شوك يابس سام، تتناوله الإبل، آكلة الشوك بطبعها، وهذا الضريع لن يكون طعاماً للإنسان، فالمعنى إذاً أنّه لا طعام لهم...وفي التعبير على هذا الوجه مبالغة في نفي الطعام، كما قد يقال: لا ظل لفلان إلا الشمس، أي أنّه يعدم الظل، ويجد ما ليس إلا ضحواً وشمساً.
وعلى هذا ندرك أنّ الجوع والحرمان من الطعام لون من العذاب القاسي، في تعبير القرآن الأدبي، وحسه الفني، الذي نفزع إليه، كما اتفقنا، لمعرفة نظرة القرآن، إلى الجوع.
ونمضي في فهم نظرة القرآن للجوع فإذا هو يعده نقمة غاضبة، وعقوبة اجتماعية للذين يكفرون بالنعم، في قوله: "وضرب الله مثلاً قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغداً من كل مكان؛ فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون"...
وأصحاب الشعور الفني يدق إدراكهم للتعبير عن ألم الجوع بقوله: "فأذاقها الله لباس الجوع"، فإنّ الإذاقة وهي وجدان الطعم، قد استعملت هنا مع اللباس لما جرت الإذاقة مجرى الحقيقة، وشاعت في البلايا، والشدائد، وما يمس الناس منها، فقيل ذاق البؤس، والضر، وأذاقه العذاب؛ وكان اللباس؛ بمعنى الاشتمال والإحاطة. فالمعنى إنّهم ذاقوا الألم الشامل المحيط، وكان التعبير على هذا الأسلوب قوياً عنيفاً في تصوير ألم الجوع...وكان تعبيراً لم يتكرر في القرآن؛ وخصّ به ذلك المقام من الحديث عن الجوع وقسوة وقعه.
ولو قدر المتذوق لأسلوب الكتاب المعجز، عطف الجوع على الخوف، في غير موطن، لشعر أنّ ألم هذا الجوع يهز النفس هزّ الخوف، ويضيع الأمنة والراحة النفسية، التي هي قوام الشعور بالحياة والاستقرار فيها.
وقسوة هذا الجوع وعنفه تتمثل جلية، في عدّ القرآن إياه وسيلة للابتلاء الكاشف عن مدى طاقة الصبر، وقوة المقاومة في الذي يبتلى به، وكذلك يقول الكتاب الحكيم "ولنبلونّكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين" فالجوع مما يبتلى بشيء منه الناس، ليستبين ما فيهم من قوة احتمال.
ولقد نذكر ما قاله بعض المفسرين من أن الابتلاء بالجوع هو الصوم المفروض؛ والابتلاء بنقص الأموال والثمرات هو الزكاة المفروضة، ولكن.. "أحقاً يرجح النظم القرآني، والنسق القرآني هذا الفهم"؟
وهل يقدم الخوف المروّع على الجوع الذي هو جوع الصوم، ويتجه النسق القرآني إلى وضع فريضة الصوم في هذا الإطار غير المحبب!!
وحقاً يوضع فرض الزكاة مع نقص الأنفس الفاجع، وتصفي على الفريضة تلك الطلال القائمة من نقص الأنفس وما يعادلها من المال!! ليس ذلك مما يتلقاه للذوق الفني القرآني بقبول.
ولعلّنا نستطيع أن نقول بعد الذي أنسنا إليه من هدي القرآن: إنّ ما اتجه إليه القوم من تلمس الآثار في فضل الجوع، وفلسفتهم لذلك الجوع على ما سمعناه منهم ليس مما يرحب به هدي القرآن كثيراً... وإنّ الروح الحيوية التي امتاز بها الإسلام، وقررها كتابه الكريم لا تهش كثيراً مما أطال به الصوفية من اعتبار الجوع سيّد الأعمال، وأنّه أفضل العبادة أو مخ العبادة، وأنّ ترحيبهم بما ينتهي إليه الجوع من الضعف حتى عن أداء العبادة المفروضة كالصلاة ليس مما يأتلف كثيراً مع هذه الروح الجادة النشطة، التي يحرص عليها الإسلام، ويعتمد عليها في لقاء أهل الدنيا وحياتهم فيها، وإنّما هي روح دخيلة على الإسلام، مما خالطه من أفكار غريبة عنه، هندية أو غيرها، نعرف إسرافها في تعذيب الجسم وإجهاده؛ وقد عرف أنّ هذا التصوف قد تأثر بكثير من مثل هذه الآراء، وغيرها من الأفكار النظرية والعملية، التي امتدت في الميدان الصوفي، إلى حد المساس بأمهات العقائد والأصول، وجرى حولها الخلاف الطويل العريض؛ وثارت بها مشكلات في حياة الصوفية؛ واتهم من أجلها كبار منهم بما انتهى إلى قتلهم... على ما عرف التاريخ من ذلك.
وأحسب أنهم في مثل هذا الجو قد أكثروا من القول في الجوع، وأنّ أفضل الناس أطولهم أيام جوع. وأنّ الشبع يمنع من دخول الملكوت وأنّ الإجاعة والعرى تجعل القلب يرى الله... وأنّ إدامة قرع باب الجنّة إنّما هي بالجوع والعطش. وأنّ تضييق مجاري الشيطان من ابن آدم إنّما يكون بالجوع والعطش... إلخ مما أوردنا أمثاله في الفصل الأول من هذا الحديث عن فلسفة الجوع، و هو ما لا تطمئن النفس إليه بعد الذي رأينا من عرض القرآن للجوع هذا العرض الذي تصوره آياته المختلفة، في المناسبات المختلفة...وما كان القرآن ليخرجه هذا الإخراج، وقد يقدره بعض هذا التقدير، الذي يسرف فيه الصوفية، ولا يهمله الفقهاء... وفي أداء القرآن المعجز توجيه نفسي كبير لا يفهم الإسلام إلا باستجلائه.
وليس بكثير أن نقول: إنّ نظرية القوم في الجوع ليست ذات أساس سليم، وهي غريبة عن الروح الإسلامية. بل إنّها ليست في شيء من روح القرآن في مثل قوله: "ويا قوم استغفروا ربكم، ثمّ توبوا إليه يرسل السماء عليكم مدراراً ويزدكم قوة إلى قوتكم، ولا تتولوا مجرمين". وما عرف في توجيه القرآن من الأمر بإعداد القوة بقوله: "وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم".
وإلى جانب ذلك القرآن ما لا بد أن يكون معه، بياناً له وتأييداً، من الحديث والأثر، الذي لا يلتقي مع شيء مما رددوه من إيثار الضعف، والعزلة، ونسيان نصيبهم من الدنيا، وتفضيل الجوع بضعفه المقعد... على ما يروونه مما لا ينجو من نقد الناقدين القدامى أنفسهم.
وإذا اطمأننا إلى هدي القرآن، عن هذا الجوع، وحكمه على فلسفتهم، فإننا نقول في تقدير عمل الفقهاء وعمل المتحدثين أمس واليوم، عن الصوم، وحكمته: إنّ الوقوف في ذلك كله عند ترك الأكل والشرب؛ وإن عدّ الجوع، أساساً للصوم وجوهراً فيه؛ وإن رد الفضل فيه والتعبد به إلى الجوع... كل ذلك وما يدور حوله ليس من الفقه الصحيح لجوهر تلك العبادة وفرض تلك الفريضة... وإنّ ذلك إنّما هو تتبع لليسير أو التافه، من عناصر تلك العبادة، لأنّ فيها ما هو أدق وأحكم من هذا الظاهر اليسير، الذي يتعلل الناس فيه بالضعف أو العجز، أو الجهد، ولو قدمت إليهم الفريضة، تعريفاً وتعليماً، أو حكمة وإقناعاً، في أفق أسمى من ذلك وأكرم لكان التعلل بمثل هذه الظواهر أخفت صوتاً، وأيسر خطراً... وهؤلاء الصوفية - على ما تخالفهم فيه من فلسفة الجوع - قد تحدثوا عن صوم القلب، عن الهمم الدنية، وعن صوم السمع والبصر، واللسان عن تعدي الحدود، وعن صوم اليد والرجل، عن البطش والسعي إلى المنهي عنه....إلخ من تلك المرامي الكريمة، التي نرى الإسلام قد سما إليها، ولفت لها هديه القيم، حين يقرن غير المجسم من أفعال الجوارح الخارجية بالمادي المجسم، من تلك الأفعال، فيقول: "لولا ينهاهم الربّانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت لبئس ماكانوا يصنعون"... ويدل بذلك على أنّ في المقولات والمسموعات ما يحرم على المستمع والقائل، مثل تحريم أكل السحت، ويضع سماع الكذب إلى جانب أكل السحت. ويقول: "سمّاعون للكذب أكّالون للسحت".
وليت الفقهاء قد اتجهوا نوعاً ما إلى مثل هذا الاتجاه في الصوم، ولم يقفوه عند الأكل والشرب، والشهوات المجسمة، بل وضعوا إلى جانبها في الحرمة الآثام المختلفة، كما رأينا في صنيع القرآن، حين جعل آفة اللسان في قول الإثم، وآفة الأذن في سمع الكذب كالأكل الطاحن المزدرد للسحت.
وما كانوا بذلك يجاوزون الضبط الظاهر لأفعالهم كدأبهم، ولا يلتحقون بالصوفية، في حقائقهم المعنوية، بل كان الفقهاء بذلك مهتدين بصريح هدي القرآن في هذا السبيل، ومنهجه في التسوية بين أخطاء الجوارح المختلفة.
ولقد كانوا واجدين ذلك في استعمال القرآن نفسه للصوم في الإمساك عن الكلام، يقول على لسان مريم: (إني نذرت للرحمن صوماً فلن أكلم اليوم إنسياً)، فجعل الصوم إمساكاً عن الكلام، فليس من البعيد مع هذا أن يتسع أفق الفقهاء فلا يجعل الصوم إمساكاً عن الطعام والشراب وما إليهما من الجسميات؛ دون التفات إلى غير ذلك من آثام الجوارح الأخرى.
ولو قد أقصرنا في هذا، ولم نلتمس عند الفقهاء ما رجونا من تنظيم عمل كافة الجوارح بالصوم لبقي ما لم نطمئن إليه، من قصر عنايتهم بالأكل واهتمامهم بالجوع ذلك الاهتمام الذي يتكامل مع أسرار الصوفية بذلك الجوع أيضاً.
على أنّنا لو لم نعتصم بالحسّ القرآني، وهديه الفني المرهف في الجوع، وتركنا الفقهاء يجعلون الصوم أول ما يجعلونه إمساكاً عن الأكل والشرب وتركنا الصوفية يكبرون أمر الجوع هذا الإكبار المسرف، فإنّنا سنرى أنّ جوع الصوم ليس بشيء ولا هو في درجة من الأهمية، التي أشاد الفقهاء بها في حكمة الصوم، أو أكبر الصوفية شأنها في الرياضة... لأنّ جوع رمضان هذا قد يكون جوع اثنتي عشرة ساعة، في يوم شات قصير، وهو أمر هيّن، لا أحسب أن سيتحقق به الكثير، من ترك الشهوات، أو عظم النفس؛ أو التشبه بالملائكة، أو التخلق بأخلاق الله، وأمثال ذلك مما يعدون.
بل حين يكون اليوم صائفاً فهو جوع بضع عشرة ساعة، ليست في شيء من الأيام التي يتفاضل الصوفية بعدها، وإحصائها ويصلون بها إلى بضع عشرات من الأيام ومهما تكن مشقة هذا الجوع، في اليوم القائظ الطويل فقد يكون خيراً وأهم من احتمالها، احتمال إمساك الجوارح الأخرى عن آثامها وضلالاتها التي ترتكبها في الدنيا.
أيها المهتدون بهدي القرآن
أحسبتم تقدرون ما قصد إليه هذان الحديثان عن فلسفة الجوع، في عمل الفقهاء ورياضة الصوفية، وأنّ هذا الجوع ليس أفضل العبادة، ولا مخ الطاعة، بل نقول في طمأنينة: إنّ هذا الجوع ليس مخ الصوم نفسه، وليس من الصواب أن يكون الجوع طابع الصوم الظاهر عند المتكلمين في الحكمة وفضل الصوم... وحبذا الصوم إمساكاً عن جميع الأهواء والأخطاء، والعوائد الواهمة، والفاسدة، ليكون الصوم رياضة مصلحة للنفوس، مجدية على الفرد والجماعة، مروضة على ما لا يسهل الارتياض عليه في سائر الأوقات لضعف، أو إهمال، أو عدم مراقبة... فيكون رمضان وسيلة إلى التقوى التي رجاها القرآن وختم بها آية هذا الفرض: "كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلّكم تتقون"...
والسلام على من اتبع الهدى.
ساحة النقاش