الهجرة إلى المدينة:
ظل الرسول عليه الصلاة والسلام، بعد البعثة النبوية، ثلاث سنوات يدعو إلى الإسلام سراً كلّ من يثق فيه أو يرى منه قبولاً للدين الجديد، وكان يصلي هو والمسلمون خفية في شعاب مكة([1]). إلى أن أمره الله بإظهار دينه، فجهر الرسول بالإسلام، وأعلن الدعوة إلى وحدانية الله. واشتد إيذاء قريش للمسلمين، فكانت هجرة بعض المسلمين إلى الحبشة. واستمر الرسول يدعو الناس إلى الإسلام، فلما أسلم حمزة بن عبد المطلب، وكان بتلاوة القرآن الكريم، وصلوا عند الكعبة، واعتنق الإسلام كثير من الناس اقتداء بحمزة وعمر([2]).
رأى القرشيون أن يتخذوا أمراً حاسماً، فاتفقوا على مقاطعة بني هاشم وبني عبد المطلب، فظلوا مهجورين في شعاب مكة ثلاث سنين، ولكن بعض القرشيين رثوا لحال إخوانهم، فاضطرت قريش إلى إنهاء المقاطعة، وعاد بنو هاشم والمطلب إلى ديارهم([3]).
فقد الرسول بعد حادث المقاطعة بقليل نصيرين قويين، هما عمه أبو طالب وزوجه خديجة، فتألم لفقدهما في عام واحد وسماه عام الحزن. وازدادت قريش في إيذاء الرسول وأصحابه، فخرج إلى مدينة الطائف يدعو قبيلة ثقيف لينصروه على قريش، فلم يستجيبوا له بل آذوه. وعاود الرسول نشر الإسلام بين أهل مكة، وخاصة في موسم الحج. وبعد فترة وجيزة أُسْرِي بالرسول من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، حيث عرج به إلى السماوات السبع، وفي تلك الليلة فرض الله على المسلمين الصلوات الخمس([4]).
ثم كانت هجرة الرسول والمسلمين إلى المدينة. وعمل الرسول على تنظيم الحياة العامة في المدينة، تحقيقاً للوحدة بين سكانها، فآخى بين المهاجرين والأنصار على الحق والمؤاساة([5]). واستجاب الأنصار للرسول فساعدوا المهاجرين بمنحهم بعض المال والاشتراك معهم في الزراعة والتجارة، كما عاهد الرسول اليهود واشترط عليهم، فوضح لهم حقوقهم وواجباتهم.
فرض الصيام:
في السنة الثانية من الهجرة، وفي شهر شعبان على الأرجح، فرض الله عز وجل على المسلمين صيام شهر رمضان، وكان ذلك قبل غزوة بدر([6]).
كان أول ما فعله الرسول عليه الصلاة والسلام، عند قدومه إلى المدينة، هو بناء مسجده النبوي، على الأرض التي بركت فيها ناقته. واشترك مع المسلمين في بناء المسجد. وكان الرسول، في أول الأمر، يترك للمسلمين حرية اختيار قبلتهم في الصلاة، لأنه كما قال الله تعالى: (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ)([7]).
وحينما أوشك الرسول عليه الصلاة والسلام أن ينتهي من بناء مسجده بالمدينة، رأى أن يتجه المسلمون إلى وجهة واحدة، ولذا عمد إلى قالب مصنوع من الحجر والطين ووضعه ملاصقاً للحائط الشمالي من المبنى، وبه عين القبلة الأولى، وكانت بيت المقدس. ولكن الله عز وجل أمر أن تكون الكعبة قبلة المسلمين، فقال سبحانه وتعالى: (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ)([8]).
ثم كان اختيار الأذان للدعوة الإسلامية، فقد أراد الرسول عليه الصلاة والسلام أن ينظم دعوة المسلمين للصلاة في المسجد، فقد كثر عدد المسلمين، وتناثروا في أرجاء المدينة. وصعد بلال بن رباح إلى سطح المسجد يؤذن في المسلمين يدعوهم للصلاة للخالق العظيم.
روى الأقدمون أن الرسول صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة كان يصوم من كل شهر ثلاثة أيام، وأن هذه الأيام الثلاثة كتبها الله على المسلمين، ثم نسخت بصيام شهر رمضان، ويرى بعض المفسرين أن هذه الأيام الثلاثة هي التي قصدها الله عز وجل بقوله: (أياماً معدودات) الآية. كما يرون أيضاً أن صيام هذه الأيام كان تطوعاً ولم يكن فريضة، فقد روى عن عمر وبن مرة أنه قال: ((حدثنا أصحابنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم عليهم أمرهم بصيام ثلاثة أيام من كل شهر تطوعاً لا فريضة. قال: ثم نزل صيام رمضان))([9]).
وروى بعض الأقدمين أن الرسول صلى الله عليه وسلم حينما هاجر إلى المدينة، رأى اليهود تصوم عاشوراء فسألهم عن صيامهم في هذا اليوم فقالوا إنه اليوم الذي غرق الله تعالى فيه آل فرعون ونجا موسى ومن معه منهم. فقال الرسول إنه أحق بموسى منهم، فصام الرسول ذلك اليوم وأمر المسلمين بصومه([10]).وذهب الإمام أبو حنيفة إلى أن صوم عاشوراء كان واجباً قبل صيام رمضان، في حين ذهب الإمام الشافعي إلى أنه لم يزل سنة ولم يكن واجباً قط في هذه الأمة ولكنه متأكد الاستحباب.
ويقول الطبري: لم يأت خبر تقوم به حجة بأن صوماً فرض على أهل الإسلام غير صوم رمضان، ثم نسخ بصومه شهر رمضان، وبإن الله تعالى قد بين في سياق الآية أن الصيام الذي أوجبه جل ثناؤه علينا هو صيام شهر رمضان دون غيره من الأوقات بإبانته عن الأيام التي أخبر أنه كتب علينا صومها بقوله: شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن. فمن ادعى أنه صوماً كان قد لزم المسلمين فرضه غير صوم شهر رمضان الذي هم مجمعون على وجوب فرض صومه، ثم نسخ ذلك، سئل البرهان على ذلك من خبر تقوم به حجة إذا كان لا يعلم ذلك بخير يقطع العذر([11]). وينفى وينفي الإمام محمد عبده أن يكون قد فرض على المسلمين صيام قبل فرض صيام رمضان([12]).
نزلت آيات كريمة تفرض الصيام على المسلمين هى: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)([13]).
ورغم صيف المدينة المنورة القائظ، فقد أقبل المسلمون جميعاً، على أداء فريضة الصيام، في خشوع وحماس. فتتقوى بهذه الرياضة الروحية أواصر الإخوة بينهم، وينتصر المؤمنين متعاونين على هذا العدو الشرس، أعني الجوع والظمأ، فيصبحون أكثر استعداداً وأوثق تعاوناً لمجابهة أشد أعدائهم مراساً من بني البشر.
ويستمر المهاجرون والأنصار على صيامهم ثلاثين يوماً، في تحمس زائد فإن هذا الصوم هو شكر يتوجهون به لمانح النعم. وهذا الاختبار الديني التعبدي يحيي الأرواح ويقوي الأجسام. ولأجل أن يعبر المؤمنون الصحراوات الرهيبة التي تحيط بهم لنشر الإسلام في أرجاء العالم، كي تكون كلمة الله هي العليا، كان لابد لهم من هذا التدريب الذي يعتبر هيّناً بالنسبة لما سيلاقونه من الشدائد في فتوحاتهم([14]).
[1]. سيرة ابن هشام ج1 ص75.
[2]. المقريزي: إمتاع الأسماع ج1 ص25.
[3]. ابن سعد: الطبقات ج1 ص194.
[4]. سيرة ابن هشام ج2 ص5- 10.
[5]. ابن سع: الطبقات ج2 ص3.
[6]. ابن كثير: البداية والنهاية ج3 ص254.
[7]. سورة البقرة آية 115.
[8].سورة البقرة آية 144.
[9]. تفسير الطبرية ج2 ص77.
[10]. تاريخ الطبري ج2 ص129.
[11]. تفسير الطبري ج2 ص 77.
[12]. تفسير المنار ج2 ص 164.
[13]. سور البقرة آية 185.
[14]. دينيه: محمد رسول الله ص170.
ساحة النقاش