رسم للغساني لعصام طه

عمرو أبوالفضل ـ كانت رحلة الوزير الغساني من أشهر الرحلات “السفارية” الدبلوماسية التي عرفها العالم، وتتمتع بقيمة استثنائية بين مثيلاتها، لما جاء فيها من معلومات وصور انطباعية عن الحياة الإسبانية في القرن السابع عشر، بعد سقوط الأندلس في سنة 1492 هـ، وزوال الوجود الإسلامي، إذ اعتبرت وثيقة نادرة عن تاريخ الصراع بين العرب والغرب.

ويقول الدكتور منتصر مجاهد -الأستاذ بجامعة قناة السويس- هو الوزير محمد بن عبدالوهاب الأندلسي الفاسي، ولم تذكر المصادر تاريخ مولده، وكلمة الوزير هي لقبه العائلي، وينتهى نسبه إلى سلالة الأندلسيين الذين هاجروا من الأندلس بعد أن تساقطت ثغورها واستقروا في فاس، وتلقى تعليما عالياً، وكان على قدر كبير من العلم بالتراث العربي، وماهراً في نسخ المخطوطات في سرعة لا يضاهيها فيه أحد، ورحل من فاس إلى مكناس ليكون بالقرب من المولى إسماعيل العلوي الذي كان نجمه صاعداً، وقد لفتت مهارته ونجابته وعلمه نظر السلطان على الفور، وذكر أنه كان كل ما يلقى من أوامر يكتبها ويستوفيها ولا يعزب عنه شيء منها مع كثرتها. وهو ما أهله إلى أن ينضم إلى كتاب البلاط السلطاني وبعد فترة وجيزة صار وزيراً، ثم اختاره السلطان المولى إسماعيل العلوي من أجل بعثة دبلوماسية لدى البلاط الإسباني، وكان لسفارته هدفان أولهما إنساني ويتعلق بمبادلة الأسرى.

موقعة العرائش

 

كان السلطان يريد أن يبادل 500 أسير من الحامية الإسبانية الذين أسرهم بعد موقعة العرائش التي استرد فيها مدينة العرائش من يد الإسبان في عام 1689م، مع العديد من الأسرى المسلمين الذين بقوا في الأندلس بعد سقوطها وتعرضوا للاضطهاد وأرغموا على اعتناق المسيحية. وكان ثاني أهداف البعثة هو استعادة مخطوطات الخزانة الزيدانية السعدية للسلطان المولى زيدان سلطان مراكش، الذي كان عاشقا للكتب والمخطوطات، ومن شدة خوف هذا السلطان على مكتبته الثمينة من أن تقع في أيدي القبائل التي كانت تهاجم مدينته، وضعها على إحدى السفن حتى ينقلها إلى مدينة أغادير، وبينما كانت السفينة في وسط المسافة بين آسفي وأغادير أغارت عليها سفن القراصنة الإسبانية، واستولت على حمولتها بما فيها من كتب ونفائس، لقد تبددت النفائس بطبيعة الحال، ولكن المخطوطات التي بلغ عددها خمسة آلاف ذهبت جميعا إلى مكتبة الاسكوريال الشهيرة.

 

وبالرجوع الى مسار الرحلة نجد أن الغساني انطلق من المغرب في 19 أكتوبر 1690، وقصد في طريق الذهاب مرسى جبل طارق، وسار بطول الساحل الإسباني بسفينته ماراً بسبتة، ولم يهبط إلى البر إلا في ميناء قادش، وتقدم برا متوجها إلى الشمال، إلى مدريد، مما أتاح له دخول مدن سانتا مرية، فشريش، والبريجة، واطريرة، ومرشينة، وإيشكا وقرطبة، ومدينة الكاربي، ووصل إلى طري كوان ابان مانشا، وهي دار للنزول قرب مدينة شكلانة، المنبريلية، ودخل مانسنارس، ومدينة مورا، ووادي طاخوا وهو مار بمدينة طليطلة، ثم قرية بنك، ومدينة خطافي، وحل في مدينة مدريد يوم السبت السابع من شهر ربيع الثاني عام 1102هـ ـ ديسمبر 1690، ثم توجه إلى بيردي، البنطة، المورو، أرانخوس، ورجع إلى مدريد. وفي 20 مايو 1691 سلك طريق العودة إلى المغرب، فكان خروجه من مدريد ووصوله إلى قرية وشقة، وفي طليطلة –توليدو الآن- تنقطع الرحلة.

رحلة الوزير

وأقام الغساني في رحلته ثمانية أشهر وضع على أثرها كتابه “رحلة الوزير في افتكاك الأسير”، وقد سجل تفاصيل هذه الرحلة في صورة تقرير مطول كتبه ليرفعه إلى أعتاب السلطان المولي إسماعيل عن نتائج رحلته.

ويتميز الغساني، في وصفه، بدقة جعلته يرسم صورة للمجتمع الإسباني. كما اهتم في كتابه بتناول قضايا اكتشاف أميركا من الإيبيريين والملوك الإسبان واثرها على الإسبان، والتعصب الديني ومحاكم التفتيش، وانفصال البرتغال، ومظاهر الدولة الحديثة مثل المستشفيات ونظام البريد، والصحافة، والمؤسسة البابوية، والعلاقات البينية الأوروبية، والعلاقة مع العثمانيين، والأعياد المحلية، وغيرها.

وتحدث عن جبل الفتح المسمى جبل طارق الذي أصبح حصنا منيعا تسكن فيها حامية عسكرية إسبانية، واستفاض في تناول تاريخ فتح الأندلس، وعاد بالذاكرة إلى ماضي الأندلس وفتوحات موسى وطارق، ووصف اهتمام السلطات الإسبانية بالرحلة، وبين صورة تقارب الشعوب فيما بينها من خلال استقبال الشعب الإسباني له في كل المدن والأقاليم الأندلسية التي وصل إليها، وما اظهروه له من المحبة والسرور والزينة رغبة منهم في التواصل، وكان غالبيتهم من أصول إسلامية. بينما هو يقف على الأحوال العمرانية والمعيشية والمشاهد من مدينة إلى أخرى من مدن الأندلس، وصولا إلى مدريد في قلب الجزيرة الإيبيرية. وذكر البرنامج السياحي الذي أعدته الحكومة الإسبانية لبعثه لمشاهدة معالم مدريد ومسارحها وعروضها الغنائية، ولقائه بملك إسبانية كارلوس الثاني والحوار الذي دار بينهما، والأعياد التي حضرها.

وعبر الرحلة تميز أسلوب الغساني بالفصاحة والجزالة والأمانة في العرض، وتظهر روح الأديب المتسامح الناثر وذواقة الشعر والجمال. كما تتضح قدرته على الرصد والتحليل من زوايا اجتماعية وسياسية واقتصادية، ومعرفته بالصراعات الأوروبية - الأوروبية، وبالتاريخ الإسلامي وفتوحاته. وتوفي -رحمه الله- في عام 1757م، بفاس.

المصدر: الاتحاد
  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 266 مشاهدة
نشرت فى 6 أغسطس 2012 بواسطة alsanmeen

ساحة النقاش

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

1,278,789