التحرّر من الشهوات يسمّى في التصوف الأرثوذكسي هدوءًا، حيث الروح الإلهي فاعل وأنت متقبّل، أي أن آخر ينشئ الوداعة فيك. وإذا كتب يوحنا، صاحب سلّم الفضائل الناسك الكبير في صحراء سيناء، عن الهدوء يقول: إنه اللاهوى، ويحدّد هذا على أنه الكمال المتشبّه بالله والسماء الأرضيّة وقيامة النفس قبل القيامة العامة. لا كلام بعد هذا الكلام لأنك إن بلغت هذا العلى لا تبقى في حاجة إلى تعبير لساني.
ويوضح القديس يوحنا هذا في المقالة الثامنة أن الوداعة هي "سكون النفس وتقبّلها للإهانات والكرامات بحال واحد على السواء". ويتوسّع في الكلام على الرذيلة المناقضة، وهي عنده الغضب؛ وكما عرف الوداعة بالهدوء يعرّف الغضب بالاضطراب. عند الشتيمة تسكت. هذه درجة أولى من الخير. أما الدرجة الثانية فتحزن من أجل شاتمك، والدرجة العليا أن تتصور الضرر الذي أحدثه الشتم في الشاتم وأن تبكي على خطيئته بكاءً حارًا.
لعل أهم ما في فضائلنا الاعتراف بالآخر. الوداعة فضيلة ثالوثية بامتياز لأنك أنت لا تلقى الآخر على أنه آخر إلا لاعترافك بأن الله يوجدك لأنه يوجده. أن يوجده الله هو أن يوجد شخصيّته. وأنت بدورك تحافظ عليها لأن الرب أرادها كذلك. أنت تقيم في الرقة أي في ذلك التخلي عن الصدام الذي لا تندم عليه إلا لانتفاضك.
الغضب ومشتقاته هي ثنائيّة التقابل في الظاهر وفي الحقيقة هي وحدانية الإبادة. أما الرقّة فهي إلغاؤك أنت لأناك ليقوم الآخر ليس في أناه ولكن أمام الله الذي يوجده بنعمته من جهة وبالرقّة التي سكبتها عليه النعمة.
* * *
ليست الرقة فقط اعترافًا بالآخر، إنها قابليّة لتكوينه لأن الفظاظة قتله. عندما تصبح الرقة وداعة إنجيليّة تنفي العنف في النفس. غير أنها ليس لها وعد بخلاص الآخر حتمي إذ الودعاء يُقتلون (بضم الياء). هم مرشّحون للموت بصورة أو بأخرى لأنهم مسحاء الله، وفي كل حال هم نسيٌ منسيٌ لأن القداسة لا تكتب التاريخ. إنها تكتب الملكوت. الأشرار يكتبون الأزمنة الى أن يحل الله في الأخير مملكة الوداعة.
في حياتنا اليومية ليس مثل الرقة يوحد الأجيال. أنت تتذمّر من ولدك لكونه يضج عليك. دعه يضج لتفرح بنموه. مرة شكت لي أمٌ وليدها لأنه يكسر الصحون. قلت لها: هكذا يكبر ولدك. فقولي لزوجك أن يضع في ميزانيته مبلغًا من المال لشراء الصحون التي يحطمها ابنه. وليس مثل الوداعة يوحد الأزواج الذين كثيرًا ما يصرخون. فإذا أحسست بالاضطهاد بسبب الصراخ فمن العسير عليك أن تعود إلى الوحدة أو هي وحدة هشّة.
الغضوب مجنون بحيث أنه يختلق عالمًا غير العالم الحلو الذي هو مناخ معايشتنا الطبيعيّة. وهذا الجنون تحديدًا أن تعيش في دنيا تصطنعها. ومتى تحصل على الهدوء لا بدّ لك أن تبتهل من أجل ذاك الذي يثير فيك الاضطراب "ابتهالاً خالصًا" كما يقول السلّمي وأنت في حال الهدوء. وهكذا تتروّض على الصبر وعلى تنقية النفس والغفران. فلينصب دعاؤك على الذين يغيظونك علّهم يعقلون وفي هذا قال أشعياء: "إلى من أنظر إلا إلى الوديع الهادئ؟"
إذا ذهبت إلى إنسان وديع تعرف، قبل المقابلة، أنه لن يفترسك، وأنك مقبول بدءًا، وأن حظك في الاقناع ممكن أو قوي لأن الآخر سيصغي إليك. وإذا كان كل الناس ودعاء فالبشريّة إنسان واحد إذ لا يكسر وحدة الناس إلا الغضب. الدعوة إلى الوحدة هي وحدة في الطهارة والثقة لأن المحبة تثق. ولكون الدول لا تثق بعضها ببعض تكتب معاهدات. وبسبب الخطيئة يكتب المدين للدائن سندًا "يستوفيه بالمحكمة"؛ أي بخوف القوة لضياع الرقة يحتاج المجتمع إلى التدابير القسريّة. هذا التأمّل يقودنا إلى تأمّل آخر يمليه علينا قول المسيح: "تعلّموا مني أني وديع ومتواضع القلب" (متى29:12) لماذا هذا التلازم؟ يزيّن لي أن ما يجمع بين الكلمتين هو أن الرقة والتواضع كلاهما موت عن الأنا ويدعم قول بولس: "من ظنّ أنه شيء فهو ليس بشيء" (غلاطية 3:6). التواضع أن تنزل إلى قاع الوجود، بل تعتبر نفسك أنك غير موجود، وأن كل ما تعمله من صلاح إنما الله عامله فيك وبك. الله يمر بك لوصولك إلى الآخر ولا تصل إليه إلا إذا محوت الأنا فيك. وفي هذا قال بولس: "اختار الله جهّال العالم ليخزي الحكماء. واختار ضعفاء العالم ليخزي الأقوياء. واختار الله أدنياء العالم والمزدرى وغير الموجود ليبطل الموجود" (1 كورنثوس 27:1 و2. ومعنى العبارة الأخيرة، كما أفهمها، أن الله اختار من ظنّ نفسه غير موجود ليبطل من ظنّ نفسه موجودًا.
أنت لا وجود لك إلا بمحو نفسك أمام الله وأمام الآخرين، وبهذا جاء في انجيل لوقا: "أنزل (الله) الأعزّاء عن الكراسي ورفع المتواضعين ( لوقا 52:1)"، والمعنى أن الأعزاء هم من اعتبروا أنفسهم كذلك. هؤلاء يلغيهم ربهم من أمام عينيه ويرى فقط الذين لا يحسبون أنفسهم كبارًا فينوجدوا في عينيه. في هذا المنحى كتب أحد أمراء مولدافيا، في القرن الرابع عشر، لولي عهده: "لا تشته أن تكون رئيس دير ولا أسقفًا ولا أميرًا (وهو المزمع بحكم الإرث أن يصيره) لأن كل هذا من مجد العالم". ذلك أن مجد الله فيك - أي الفضائل - مجد الله وحده المجد. وأنت لا تعيه ولكن ربك يظهره. ما كان مجدًا باطلاً يلغيه الله في مسيرتنا إلى الملكوت. هذا ناتج من أن الظلمة (أي المجد الباطل) والنور (أي مجد الله) لا يلتقيان في الإنسان المعاصر.
أجل يجب أن تعي النعمة التي نزلت عليك كما يأمرنا بذلك القديس سمعان اللاهوتي الحديث ولكن تنسب في وعيك هذه النعمة إلى الله وتدرك أنها تمر بك ولكن لست أنت منشئها. أنت مجرد ممر لك لتوزّعها على الآخرين. القديس لا يعرف نفسه كذلك وجهله لهذا يرفعه إلى مرتبة القداسة. وهذا حاصل لمن عرف نفسه خادمًا مؤتمنًا على النعمة وليس بمالكها لأن الله وحده مالك الوجود والنعمة هي إشعاعه وحده.
رقة أولاً وتواضع ثانيًا يتم بينهما التلاقي ليصير بهما ملتقيين الإنسان سويًا. وهذا ممكن للفقراء والأغنياء والشابعين والجياع، للمواطن العادي ومن يمثّله في الحكم. ليس من وضع بشري تستحيل فيه الرقة ويستحيل معه التواضع والعلى مكتوب فقط لمن نزلت عليهم الوداعة والتواضع لأنّ هؤلاء وحدهم أهل الله.
المصدر: منتدى نحن نحب السويداء
لا أحد له الحق في الخلود إلا خالق الخلــود..أما البقية فهـــــي دائما مجــــرد عـــد، لشـــيء أسمـــه الرحيل
نشرت فى 5 سبتمبر 2011
بواسطة alnawrs
salmanzenaldin
التواصل الفكري مع الأسرة البشرية »
أقسام الموقع
ابحث
تسجيل الدخول
عدد زيارات الموقع
25,456
ساحة النقاش