التحدى الخطير الذى يهدد ثورة 25 يناير هو غياب التوافق الوطنى العام والرضا عن أمرين، الأول: هدم النظام القديم وتطهير الدولة، والثانى: شكل ومضمون نظام المجتمع والدولة بعد 25 يناير.
ومثل هذه الاختلافات واردة فى تاريخ الثورات وفى مراحل التحول الكبرى فى تاريخ الشعوب، لكن الإشكالية أنها أنتجت حالة من الانقسام والصراع المدمر لبنية الثورة ذاتها- القوى التى شاركت فى صنع الثورة- بين أنصار الدولة المدنية مقابل أنصار الدولة ذات المرجعية الإسلامية.
هناك من يرى أن الثورة تسير ببطء وبدون فاعلية فى محاكمة رموز النظام السابق وملاحقة الفساد، وهناك من يرى أن الثورة تتقدم بثقة فى طريق صعب وغير ممهد.
وهناك من يرى أن المستقبل الوحيد للثورة وفاعلية النظام الجديد يتلخص فى قيام دولة مدنية ديمقراطية، فى المقابل هناك من يتمسك بمدنية الدولة ولكن بمرجعية إسلامية. ومن الغريب أن هذا الانقسام أصبح يسيطر على مواقف الأطراف السياسية - وبشكل غير عقلانى – من الحوار الوطنى أو الوفاق الوطنى أو الدعوة لتأجيل الانتخابات البرلمانية، أو حتى تنظيم مليونية فى التحرير، ويمكن أن تحدد الانتماء السياسى لكثير من المصريين بمجرد التعرف على موقفه من القضايا السابقة.
حالة غريبة من الاستقطاب والتطاحن اللفظى الذى يوظف فيه الدين ودم الشهداء والديمقراطية وحقوق الأقباط على نحو غير أخلاقى، وباستخدام مفردات التخوين والعمالة والتكفير.
والمشكلة أن هذا الانقسام موروث وممتد منذ بداية النهضة المصرية فى عهد محمد على، وأصبح من ضمن المكونات الأساسية لبنية النخبة المصرية، التى انقسمت بين التعليم الدينى فى الأزهر، والتعليم الغربى الحديث من خلال البعثات والجامعة المصرية.
واستمر هذا الانقسام وتعمق خلال تجربة مصر شبه الليبرالية 1923-1952، ممثلا فى تحالف عريض ومتحرك بين الأزهر والملك وجماعة الإخوان المسلمين، مقابل حزب الوفد ممثل التيار الوطنى الغالب فى مصر. واتخذ الانقسام أشكالاً أكثر عنفاً بين عبد الناصر والإخوان المسلمين، واستمر الصدام بصيغ مختلفة خلال عصرى السادات ومبارك، مع ملاحظة أن جمهوريات ثورة يوليو الثلاث لم تقدم مفهوماً واضحاً أو متكاملاً للدولة المدنية واحترام القانون والمساواة بين المواطنين والديمقراطية.
فى المقابل وطوال تاريخ مصر الحديث لم يقدم أنصار الدولة الإسلامية تصوراً واضحاً أو محدداً لمفهوم وأركان الدولة التى يدعون إليها، وإنما صاغوا عبارات عامة وشعارات دعائية تخلط المشاعر الدينية العميقة لدى أغلبية المصريين بالسياسة، كان أشهرها الإسلام هو الحل، ولعل من بين أهم التحديات التى تواجه تيار الإسلام السياسى والإخوان بعد الثورة هو سؤال: شكل ومضمون الدولة والبرنامج السياسى، حيث لم يقدموا برنامجاً متميزاً عما هو مطروح فى الساحة السياسية، ويكاد يكون الربط بين مدنية الدولة ومرجعيتها الإسلامية هو النقطة الإيجابية الأبرز التى تعكس درجة من الاجتهاد لكنه اجتهاد يحتاج إلى تأصيل وتوضيح، فما المقصود بالمرجعية الإسلامية للدولة؟، وما هى مصادر الشرعية والتشريع فى هذه الدولة؟ وهل هى الشريعة الإسلامية أم إرادة الشعب؟، وماذا عن حقوق الأقباط وحقهم فى الترشح لرئاسة الدولة؟، وكذلك حق المرأة فى الرئاسة وتولى القضاء؟.
قضايا كثيرة تحتاج من تيار الإسلام السياسى إلى توضيح، خاصة أنه لا توجد تجربة معاصرة لدولة إسلامية أو ذات مرجعية إسلامية تلتزم بالديمقراطية وتداول السلطة وتحقق العدالة الاجتماعية. بل على العكس فشلت تجارب الدولة الإسلامية فى أفغانستان والسودان، بينما نجحت الممارسة الديمقراطية فى تركيا وإندونيسيا، لكن التحليل الأمين لكل منهما يؤكد غلبة الطابع المدنى، فالسيادة للشعب إذا تعارض مع نص شرعى، والفصل واضح ومحسوم بين الدين وممارسة السياسة، فالإسلام فى تركيا وإندونيسيا عبارة عن هوية ومرجعية أخلاقية لبعض ممارسات الدولة ولكثير من ممارسات المسلمين.
فى المقابل، يبدو أنصار الدولة المدنية أكثر وضوحاً فى دعوتهم ومرجعياتهم، فالدولة المدنية هى دولة القانون والمساواة بين المواطنين، مع الأخذ بصيغ مختلفة لتنظيم العلاقة بين الدين والسياسة دون أن يعنى ذلك محاربة الدين أو عدم استرشاد السياسة بالقيم الدينية لأغلبية المواطنين. فالمسيحية مكون أساسى فى بناء الديمقراطيات الغربية، لكن ذلك لا يعنى إعلاء مبادئ المسيحية على إرادة أغلبية الشعب، أو الانتقاص من الحقوق والواجبات للمواطنين غير المسيحيين، فالكل سواء أمام القانون، لكن تظل مقولة مدنية الدولة هى بمثابة اجتهاد أو تأويل عربى ومصرى لعلمانية الدولة، وهنا لابد أن يجتهد أنصار الدولة المدنية فى توضيح الحدود الفاصلة بينها وبين العلمانية، وما هو دور الدين فى بناء الدولة المدنية وكيف يمكن مراعاة خصوصية الدين الإسلامى فى صياغة مؤسسات الدولة وفى الممارسة الديمقراطية.
هذه جوانب بالغة الأهمية يجب توضيحها، لأن النماذج متعددة فى العلاقة بين الدين والدولة فى الديمقراطيات الغربية، فالخبرة الفرنسية تختلف فى هذا الجانب عن الخبرة الإيطالية، والخبرة الأمريكية، بينما تقدم خبرة الهند دروسا من نوعية جديدة حيث تتعدد الديانات والأقليات على نحو بالغ التعقيد والثراء.
الخلاصة أن أنصار المدنية للدولة، وكذلك أنصار المرجعية الإسلامية، فى حاجة ماسة إلى توضيح ما يطرحونه وتفصيله، والذى أعتقد أنه فى جوهره تأويل ناقص سواء للعلمانية أو للدولة الإسلامية. ولعل الحوار بينهما فى ظل مناخ الثورة يساعد كلا منهما على تطوير وتوضيح اجتهاده، ويكشف عن نقاط التقاء بينهما، ويكفى أن كلا منهما يرفض الاستبداد والدولة الدينية، كما أنهما شاركا فى صنع ثورة 25 يناير، وراكم الطرفان خبرات مشتركة أثناء الثورة سمحت لكل منهما بالتعرف على الآخر عن قرب، وبناء علاقات تقوم على الثقة وإمكانية العمل المشترك. إذن هناك عناصر تشجع على الحوار شرط أن يتم فى إطار من التسليم بصعوبة الاتفاق حول كل شىء، وفى الوقت نفسه ضرورة التوافق على القضايا الكبرى الخاصة بأولويات المرحلة الانتقالية، وفى مقدمتها الدستور وطبيعة الدولة والديمقراطية والعدالة الاجتماعية. فلا بديل عن تعايش الطرفين وإنهاء هذا الانقسام الذى يهدد وحدة مصر ويسىء لثورتنا المجيدة.
المصدر: محمد شومان- اليوم السابع
نشرت فى 30 يونيو 2011
بواسطة aliabdallah77
إذا نزل مؤمن وكافر إلى البحر فلا ينجو إلا من تعلم السباحة فالله لا يحابي الجهلاء فالمسلم الجاهل سيغرق والكافر المتعلم سينجو »
تسجيل الدخول
ابحث
عدد زيارات الموقع
626,435
لا تنسى ذكر الله
اللّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ