|
|
«إيلى كوهين» .. لحظة إعدامه |
لم تحل معاهدات السلام بين مصر وإسرائيل بعد حرب أكتوبر دون العمليات التجسسية لإسرائيل على مصر، مما يعد فضحا للنوايا العدوانية الإسرائيلية. وقد باءت هذه المحاولات بالفشل، ففى عام ١٩٨٥ تم القبض على شبكة تجسس صهيونية مكونة من ٩ أفراد، جاءوا ضمن أحد الأفواج السياحية، وفى أغسطس ١٩٨٦ تمَّ القبض على شبكة تجسس أخرى، ضمَّت عددًا من العاملين بالمركز الأكاديمى الصهيونى فى القاهرة، إلى جانب سيدة أمريكية تعمل فى هيئة المعونة الأمريكية، وفى أواخر العام نفسه تم ضبط أربعة جواسيس فى شرم الشيخ، وفى عام ١٩٨٧ تم ضبط شبكة تجسس من السائحين الصهاينة أثناء زيارتهم لشرم الشيخ، وفى عام ١٩٩٠ ألقت أجهزة الأمن القبض على إبراهيم مصباح عوارة، وصدر ضده حكمٌ بالسجن ١٥ سنةً.
وفى ١٩٩٢، سقطت شبكة «آل مصراتى»، التى ضمَّت ٤ جواسيس، وهم: صبحى مصراتى وأولاده ماجد وفائقة وجاسوس آخر هو «ديفيد أوفيتس». وأكدت تقارير أخرى أنه منذ اتفاقية السلام تمَّ ضبط العديد من شبكات التجسس الصهيونية، حيث استغلت تل أبيب السياحة إلى مصر لزرع هذه الشبكات، وقد أظهرت أجهزة الأمن المصرى براعة فى رصد هذه المحاولات وإجهاضها. إجمالا، وصل عدد جواسيس الموساد، الذين تمَّ تجنيدهم والدفع بهم نحو مصر، إلى حوالى ٦٧ جاسوسًا، وهذا ما يجعل أجهزة الدولة فى يقظة مستمرة. وفى هذه الحلقة، نواصل القراءة التاريخية لمسلسل التجسس الإسرائيلى على مصر، والذى بدأ بقوة فى أعقاب ثورة يوليو.
«إيلى كوهين».. جاسوس ضد القاهرة ودمشق.. واكتشفه «رأفت الهجان»
اسمه الحقيقى كاملا «إلياهو بن شاؤول كوهين»، وهو مولود فى ٢٦ ديسمبر ١٩٢٤، يهودى، ولد بالإسكندرية التى هاجر إليها أحد أجداده سنة ١٩٢٤، وفى ١٩٤٤ انضم إلى منظمة الشباب اليهودى الصهيونى فى الإسكندرية. وبعد حرب ١٩٤٨ أخذ يدعو مع أعضاء المنظمة لهجرة اليهود المصريين إلى فلسطين، وفى ١٩٤٩ هاجر أبواه وثلاثة من أشقائه إلى إسرائيل بينما تخلّف هو فى الإسكندرية، وقبل أن يهاجر إلى إسرائيل عمل تحت قيادة إبراهام دار، أحد كبار الجواسيس الإسرائيليين، الذى وصل إلى مصر ليباشر دوره فى التجسس ومساعدة اليهود على الهجرة وتجنيد العملاء، واتخذ لنفسه اسم «جون دارلينج» وشكّل شبكةً للمخابرات الإسرائيلية بمصر، نفذت سلسلة من التفجيرات ببعض المنشآت الأمريكية فى القاهرة والإسكندرية بهدف إفساد العلاقة بين مصر والولايات المتحدة الأمريكية.
فى عام ١٩٥٤، تم إلقاء القبض على أفراد الشبكة فى فضيحة لافون، وبعد انتهاء التحقيق، كان إيلى كوهين قد تمكن من إقناع المحققين ببراءته ثم خرج من مصر إلى إسرائيل عام ١٩٥٥، والتحق هناك بالوحدة رقم ١٣١ بجهاز الموساد، فاعتقلته أجهزة الأمن مع بدء العدوان الثلاثى على مصر فى ١٩٥٦ ثم أفرج عنه، وهاجر إلى إسرائيل مجددا عام ١٩٥٧ وعمل كمترجم فى وزارة الدفاع الإسرائيلية ثم استقال وتزوج يهودية من أصل عراقى عام ١٩٥٩.
رأت المخابرات الإسرائيلية فى «كوهين» مشروع جاسوس جيد، فتم إعداده فى البداية لكى يعمل فى مصر، ولكن الخطة ما لبثت أن عدلت، ورأى الموساد أن أنسب مجال لنشاطه التجسسى هو دمشق، وبدأ الإعداد الدقيق لكى يقوم بدوره الجديد، ولم تكن هناك صعوبة فى تدريبه على التكلم باللهجة السورية، لأنه كان يجيد العربية بحكم نشأته فى الإسكندرية، علاوة على أنه كان طالباً فى جامعة الملك فاروق وترك الدراسة فيها لاحقاً، وأعدت له المخابرات الإسرائيلية قصة ملفقة تفيد بأنه سورى مسلم اسمه كامل أمين ثابت، وقد هاجر وعائلته إلى الإسكندرية ثم سافر عمه إلى الأرجنتين عام ١٩٤٦ حيث لحق به كامل وعائلته عام ١٩٤٧، وفى عام ١٩٥٢ توفى والده فى الأرجنتين ثم توفيت والدته وبقى وحده هناك يعمل فى تجارة الأقمشة.
قامت المخابرات الإسرائيلية بتدريب كوهين على كيفية استخدام أجهزة الإرسال والاستقبال اللاسلكى والكتابة بالحبر السرى، كما راح يدرس فى الوقت نفسه كل أخبار سوريا، ويحفظ أسماء رجالها السياسيين والبارزين فى عالم الاقتصاد والتجارة، مع تعليمه القرآن وتعاليم الدين الإسلامى، وفى ٣ فبراير ١٩٦١، غادر باسم كامل أمين ثابت، الأرجنتين، وهناك استقبله عميل إسرائيلى يحمل اسم «إبراهام» حيث نصحه بتعلم اللغة الإسبانية حتى لا يفتضح أمره، وبمساعدة بعض العملاء تم تعيين كوهين فى شركة للنقل وظل يكرس وجوده فى العاصمة الأرجنتينية كرجل أعمال سورى ناجح لمدة تقترب من العام، اكتسب خلالها وضعاً متميزاً لدى الجالية العربية فى الأرجنتين، اعتاد «كوهين» إقامة مآدب فى كل مناسبة ليكون الدبلوماسيون السوريون على رأس الضيوف، ولم يكن يخفى حنينه إلى وطنه سوريا، ورغبته فى زيارة دمشق، لذلك لم يكن غريباً أن يرحل إليها بعد أن وصلته الإشارة من المخابرات الإسرائيلية، ووصل إليها بالفعل فى يناير ١٩٦٢ حاملا معه آلات دقيقة للتجسس، ومزودا بعدد من التوصيات الرسمية وغير الرسمية لأكبر عدد من الشخصيات المهمة فى سوريا، مع الإشادة بنوع خاص من الروح الوطنية العالية التى يتميز بها، والتى تستحق أن يكون محل ترحيب واهتمام من المسؤولين فى سوريا.
ليستقر فى دمشق، وبعد أقل من شهرين من استقراره فى دمشق، تلقت أجهزة الاستقبال فى الموساد أولى رسائله التجسسية التى لم تنقطع على مدى ما يقرب من ثلاث سنوات، بمعدل رسالتين على الأقل أسبوعيا.
وفى الشهور الأولى، تمكن من إقامة شبكة واسعة من العلاقات المهمة مع ضباط الجيش والمسؤولين العسكريين، وكان معتاداً أن يزور أصدقاءه فى مقار عملهم، وكانوا يتحدثون معه بحرية عن تكتيكاتهم فى حالة نشوب الحرب مع إسرائيل، وكانت هذه المعلومات تصل أولا بأول إلى إسرائيل، ومعها قوائم بأسماء وتحركات الضباط السوريين بين مختلف المواقع والوحدات. وفى سبتمبر١٩٦٢ صحبه أحد أصدقائه فى جولة داخل التحصينات الدفاعية بمرتفعات الجولان، تمكن خلالها من تصوير جميع التحصينات بواسطة آلة تصوير دقيقة مثبتة فى ساعة يده أنتجتها المخابرات الإسرائيلية والأمريكية. وفى عام ١٩٦٤، زود كوهين قادته فى تل أبيب بتفصيلات وافية للخطط الدفاعية السورية فى منطقة القنيطرة، وازداد نجاح كوهين خاصة مع إغداقه الهدايا على مسؤولى حزب البعث وقتها.
فى عام ١٩٦٥، وبعد ٤ سنوات من العمل فى دمشق، تم الكشف عن كوهين عندما كانت تمر أمام بيته سيارة رصد الاتصالات الخارجية التابعة للأمن السورى، وعندما ضبطت أن رسالة مورس وُجهت من المبنى الذى يسكن فيه حوصر المبنى على الفور، وقام رجال الأمن بالتحقيق مع السكان ولم يجدوا أحداً مشبوهاً فيه، ولم يجدوا من يشكّون فيه فى المبنى، إلا أنهم عادوا واعتقلوه بعد مراقبة البث الصادر من الشقة، وقُبض عليه.
أكدت تقارير أجهزة الأمن أن اكتشاف الجاسوس الإسرائيلى «إيلى كوهين» فى سوريا عام ١٩٦٥ كان بواسطة العميل المصرى فى إسرائيل رفعت الجمال أو رأفت الهجان الذى قال: «لقد شاهدته مرة فى سهرة عائلية حضرها مسؤولون فى الموساد، وعرّفونى به على أنه رجل أعمال إسرائيلى فى أمريكا ويغدق على إسرائيل بالتبرعات المالية، ولم يكن هناك أى مجال للشك فى الصديق اليهودى الغنى، وكنت على علاقة صداقة مع طبيبة شابة من أصل مغربى اسمها (ليلى) وفى زيارة لها بمنزلها شاهدت صورة صديقنا اليهودى الغنى مع امرأة جميلة وطفلين، فسألتها: من هذا؟ قالت إنه إيلى كوهين زوج شقيقتى ناديا وهو باحث فى وزارة الدفاع وموفد للعمل فى بعض السفارات الإسرائيلية فى الخارج، ولم تغب المعلومة عن ذهنى كما أنها لم تكن على قدر كبير من الأهمية العاجلة، وفى أكتوبر عام ١٩٦٤ كنت فى رحلة عمل للاتفاق على أفواج سياحية فى روما وفق تعليمات أجهزة الأمن، وفى الشركة السياحية وجدت بعض المجلات والصحف، ووقعت عيناى على صورة إيلى كوهين، فقرأت المكتوب أسفل الصورة، وكان الفريق أول على عامر والوفد المرافق له بصحبة القادة العسكريين فى سوريا والعضو القيادى لحزب البعث العربى الاشتراكى كامل أمين ثابت، وكان (كامل) هذا هو إيلى كوهين الذى سهرت معه فى إسرائيل وتجمعت الخيوط فى عقلى فحصلت على نسخة من هذه الجريدة اللبنانية من محل بيع الصحف بالفندق، وفى المساء التقيت مع قلب الأسد محمد نسيم رجل المهام الصعبة وسألته: هل يسمح لى: أن أعمل خارج نطاق إسرائيل فنظر لى بعيون ثاقبة وحاورنى:
وقلت: كامل أمين ثابت أحد قيادات حزب البعث السورى هو إيلى كوهين الإسرائيلى مزروع فى سوريا وأخشى أن يتولى هناك منصبا كبيرا.
- قال: ما هى أدلتك؟
- قلت: هذه الصورة، ولقائى معه فى تل أبيب، ثم إن صديقة لى اعترفت بأنه يعمل فى جيش الدفاع. ابتسم قلب الأسد وأوهمنى أنه يعرف هذه المعلومة فأصبت بإحباط شديد ثم اقترب من النافذة وعاد فجأة واقترب منى، وقال: لو صدقت توقعاتك يا رفعت لسجلنا هذا باسمك ضمن الأعمال النادرة فى ملفات المخابرات المصرية».
وتم القبض على إيلى كوهين وسط دهشة الجميع، وأعدم هناك فى ١٨ مايو ١٩٦٥.
|