هل يعيش العالم في الألفية الجديدة عصرا من الصحة النفسية وراحة البال ؟ ام يستمر تزايد انتشار الأمراض النفسية لتصيب الجميع ؟ سؤال نطرحه ونحاول الإجابة عليه من خلال قراءتي في ملفات الطب النفسي والأرقام والإحصائيات التي وردت في تقارير دوائر الصحة العالمية حول الاضطرابات النفسية في العالم .. وهنا في هذا الموضوع نلقى نظرة على المشكلات النفسية في القرن الماضي لنتعرف على اتجاهات الصحة النفسية مع دخول العالم الى الألفية الثالثة .
الانسان والمرض النفسي :
وقد بدأت في وقت مبكر مع بداية التاريخ محاولات الانسان لفهم وتفسير الأمراض التي يعاني منها وتؤثر على حالته الصحية والنفسية . وفي أوراق البردي التي تركها قدماء المصريين وصف لبعض الحالات النفسية وأساليب علاجها وكذلك فقد وضع " ابقراط" الذي لقب بأبي الطب ثواعد تصنيف الأمراض النفسية وأكد ان النفس والجسد بتأثر كل منهما بالآخر ، كما غير المفاهيم السائدة حول اعتبار بعض الأمراض النفسية والعصبية مثل الصرع لها قدسية خاصة على اعتبار ان لها علاقة بالأرواح والقوى الخفية ، وكانت هذه هي المحاولات الأولى لفهم الأمراض النفسية وتحديدها حتى يتم علاجها بالوسائل المتاحة في هذه العصور مثل استخدام بعض الأعشاب وحمامات المياه والموسيقي والترويح والارشاد بواسطة رجال الدين والحكماء .
تطورات جديدة في الطب النفسي :
ولعل أهم ما حدث من تطور في الطب النفسي على مدى القرن العشرين هو إزالة الغموض الذي ظل يحيط بالأمراض النفسية لوقت طويل ،وكشف أسبابها بما يساعد على وضع أساليب العلاج ، وكان الفضل في ذلك الى الاختراعات التي ساعدت الأطباء على اكتشاف تركيب المخ والجهاز العصبي وفهم كيمياء النفسية فالجهاز العصبي يتكون من بلايين الخلايا العصبية تتواجد في مجموعات داخل الرأس وتقوم كل منها بوظيفة محددة ، ويتم الاتصال والتفاهم والتنسيق فيما بينها عن طريق إشارات كهربائية وكيميائية ومواد يطلق عليها الموصلات العصبية وأدى فهم كيمياء المخ الى التوصل الى أسباب الأمراض النفسية التي غالبا ما يصاحبها تغيير في مستوى هذه المواد الطبيعية في مراكز المخ ، وعند استخدام أدوية تعيد الاتزان الطبيعي لهذه المواد فان الأعراض المرضية للاكتئاب والفصام والوسواس القهري تتحسن بصورة ملحوظة .
ومن التطورات الجديدة التي أسفرت عنها الأبحاث في الطب النفسي هو إمكانية إخضاع مرضى الاكتئاب والفصام والوسواس القهري الى بعض الفحوص والتحاليل المعملية للتأكد من تشخيص الحالة وتحديد شدتها أسباب وجذور الأمراض النفسية تمثل أملا في السيطرة على انتشارها والحد منها عن طريق الوعي الصحي لدى قطاعات كبيرة من الناس باستخدام وسائل الأعلام والتوعية التي تصل الى كل مكان .
نظرة الناس الى المرضى النفسيين والوصمة التي تحيط بهم يمكن أزالتها حتى ينظر الجميع الى الأمراض النفسية مثل رؤيتهم لأي مرض آخر ، ويمكن ان يسهم التعاطف مع المرضى النفسيين في تخفيف معاناتهم واندماجهم في المجتمع مما يخفف كثيرا من عبء المراض النفسية على الفرد والأسرة والمجتمع .
- تقدم وسائل التشخيص واستخدام الرنين المغناطيسي ووسائل الفحص الدقيقة لوظائف المخ مثل رسم المخ والفحوص الإشعاعية وتطوير الأجهزة التي تقيس الوظائف العقلية يمكن ان يسهم في تحديد وتصنيف الأمراض العصبية والنفسية بصورة دقيقة ومن ثم يتم اختيار الأسلوب الأمثل لعلاجها .
- الأجيال الجديدة من الأدوية النفسية تمثل بلا شك تقدما ملحوظا وأملا كبيرا في تحقيق نسب أعلى من الشفاء ، فقد زادت فرص الشفاء لمرضى الفصام من 25% في احسن الأحوال الى أكثر من 70% حاليا باستخدام الأدوية الجديدة المضادة للذهان ، كما زادت فرص شفاء مرضى الاكتئاب باستخدام الجيل الجديد من العقاقير ، وتتميز الأدوية الجديدة بأنها أكثر فاعلية وأقل في آثارها الجانبية .
أمراضنا النفسية في الألفية الجديدة :
ومن المهم فتح ملفات الأمراض النفسية والقاء نظرة على الوضع على مدي السنوات الماضية ، وان نأخذ في الاعتبار اتجاه انتشار الأمراض النفسية في كل مجتمعات العالم بالصورة التي وردت في الإحصائيات والتقارير العالمية .. فهل يستمر هذا الانتشار بحيث يقول الواحد منا للآخر :- أنا تعبان نفسيا فيرد عليه قائلا – وأنا أيضا :
وهل يستمر تزايد الانفعالات والضغوط التي تهدد الصحة النفسية لإنسان العصر الحالي ؟ونذكر هنا على وجه الخصوص الحالات البينية ونعني بها التي تتخذ منطقة وسطى بين المرض النفسي والحالة السوية ، ومن أمثلتها التوتر والغضب وزيادة معدلات التدخين والإدمان ،والسلوكيات غير السوية مثل الإسراف والتمرد والتعالي على الآخرين ..كما نذكر بصفة خاصة أمراض العصر التي تهدد حياة الانسان ومنها على سبيل المثال أمراض القلب سبب الوفاة الأول وضغط الدم والسكر والقرحة وغيرها من الحالات التي نطلق عليها الأمراض النفسية الجسدية أو السيكوسوماتية.
ان المتوقع بالنسبة للألفية الجديدة ان يكون هناك أمل جديد في المواجهة مع كثير من الحالات المرضية النفسية .. لكن الصحة النفسية للجميع ستظل هدفا صعب المنال في ظل انتشار الصراعات والحروب في العالم والظلم وغياب العدالة وتزايد تحكم المادة في سلوك الناس والتفكك الأسرى.
ومثل الأيمان بالله والعودة الى الدين الأمل الأهم بالنسبة للإنسان في الوقاية من اضطرابات العصر النفسية بعد ان ثبت ان التقدم العلمي والحضاري لا يرتبط بالضرورة بالسلام النفسي وراحة البال للإنسان مع تمنياتي بالصحة النفسية الدائمة للجميع .
ساحة النقاش