فشلت كل محاولات الأب المسن في إقناع أولاده الثلاثة وتتراوح أعمارهم بين 22 و31 عاماً، بالعمل وتحمل أعباء الأسرة ومصاريفهم الشخصية. كان يحاول أن يجد منفذاً لهم للإنتاج بدلاً من قضاء ساعات النهار في النوم والخروج والعودة للمنزل في ساعة متأخرة. وبعد معاناة وسلسلة من الخلافات الأسرية، اضطر الأب إلى التقدّم بدعوى رسمية لدى المحكمة يطالب فيها بقرار قضائي رسمي يقضي بطرد أبنائه من مسكن الأسرة، بسبب بطالتهم وعدم مبالاتهم في تحمل مسؤولياتهم، كما جاء في الدعوى.
الحكاية الأخرى في سياق مطالبة "أب" بإعفائه من الإنفاق على ابنته وأولاده الثلاثة.
وكان الأب تقدّم بدعوى أحوال شخصية طالب فيها بإسقاط نفقته على ابنته وتخرج أبنائه الذكور في معاهد وكليات مختلفة وانخراطهم في وظائف حكومية وخاصة وإعتمادهم على أنفسهم مادياً.
وعلى صعيد آخر، عمد أب أردني مؤخراً إلى إفراغ عشر رصاصات من رشاش كلاشينكوف في جسد ابنه (26 عاماً) الأعزب والعاطل عن العمل إثر خلافات دائمة مع الابن الذي اعتاد – بحسب الأب – التسبب في كثير من المشكلات مع الجيران وأفراد العائلة.
في هذا التحقيق، نغوص في استنباط واقع العلاقة بين الآباء والأبناء في المجتمع العربي، لا سيما أن دعاوى بدأت تصل إلى المحاكم في ظل خلافات كثيرة تحاول إيجاد طريق للحل داخل الأسرة.
فهل ينتفض الآباء لوضع الأبناء أمام مسؤولياتهم أم يتماشون مع الأبناء ومطالبهم؟
"الأبوة" بين زمنين!
"في السابق، لم يكن الابن يرفع عينه في عين والديه احتراماً وإجلالاً لمعنى الأبوة ولكن الوضع الحالي جعل الابن يطالب أباه بالمال وكأنّه حق مشروع له، لدرجة أن أصبحت الجرائم تقع داخل الأسرة بسبب الحاجات المالية. وعلى الرغم من أن جرائم قتل الأبناء للآباء لا تتجاوز العشرات لكنّها أرقام مخيفة، كون الأصل في هذه الجرائم هو الأبناء".
فهناك أب يصف ما كان يفعله ابنه وعيناه تغرقهما الدموع قائلاً: "كنت دائماً أدخل في معارك طاحنة مع ولدي من أجل منحي بعض الدراهم لشراء احتياجات المنزل ليَّ ولوالدته، فأنا لا أعمل وليس ليَّ دخل بعدما أصبت بالجلطة في كتفي، وكلّما أتِّصل به لكي أمر عليه يخلف وعده ويتحجج بإنشغاله لدرجة أني أنتظره أمام باب بيته بالساعات ولم يزرني ألبتة".
"فغياب الأب الدائم من المنزل فاقم الظاهرة لأن كل فرد يتّخذ قراره لوحده من دون أن يسمعه أحد وتكون الكارثة عندما تصل الحالة إلى ساحة المحاكم وأروقة الشرطة لغياب التواصل داخل المنزل".
وفي المقابل، ليست الأسر المسؤولة كاملة عن الفشل الأخلاقي لدى الأبناء في ظلّ المتغيّرات الهائلة , كذلك "أن سيكولوجية العلاقات الأسرية، في ظلّ الوضع الحالي، أصبحت في حاجة لدراسة الظواهر التي تنشأ داخل الأسرة وهذا يتطلّب وعياً تربوياً من مدارسنا وجامعاتنا عبر برامج يجد فيها الابن متنفساً للتعبير عن المشكلات الأسرية ورغباته وحاجاته غير المشبعة".
فهذا الجميل الذي نحمله لوالدينا طيلة العمر بات عبئاً على بعض الفئات حيث تلفت أمينة عبدالله (إختصاصية إجتماعية في دار مسنين) إلى أنّ الصورة في هذا الزمن باتت معاكسة و"بات الأبناء يطردون آباءهم من المنزل"، متوقفة عند "دور الضغوط وظروف الحياة في اختلال العلاقة بين الطرفين".
فالبطالة تحتل دوراً رئيساً في المعادلة في وقت يبرز تطلب الأبناء لأمور تفوق قدرة تحمل الأب، بيد أنّ هذه الحالات "نادرة ولا يمكن تعميمها، ولو أنّ الأب عود ابنه على القيام بكل شيء".
تلقي أمينة اللوم على "ظروف الحياة المتغيّرة": "فأغلب حالات العجزة التي نستقبلها في الدار ليس لهم أبناء وفي حال حضر الأبناء تتبدى ظروف صحية أو مادية أو عائلية تحول دون إستقرار المسن في منزل الأسرة".
بيد أنّ التقصير لا يسهم تصرُّفات الأب الذي تجده أمينة يتحمل مسؤوليات إضافية لعدم التقصير أمام عياله ويتبدى التقصير في حال زواجه من أخرى أو في حالة الطلاق أو الإدمان.
- سوء إدارة أسرية! في المدونات أخبار تقشعر لها الأبدان: أحدهم ضرب والدته "المسنة" بحجر على رأسها، وقطع رقبتها بآلة حادة، ثمّ حملها بسيارته ورماها في أحد الحصون، بعد أن أشعل النيران في جثتها.
آخر أفرغ في صدر والده رصاص رشاش وأرجع جريمته إلى أن والده كان يعامله بقسوة.
فماذا يقول الشارع عن منحى تلك الخلافات وتفاديها؟
يعزو تمار إبراهيم (أب لعشرة أبناء) الخلافات وحالها لعدم إدارة تربية الأبناء: "فالأساس هو ما يزرع الأهل في نفوس أبنائهم من بذرة وفي حال منح الوالدان هذه البذرة كل مقومات الصمود، فستستكمل طريقها بجد واجتهاد".
الاتكالية سمة يعزوها الدسوقي أيضاً إلى سوء الإدارة الأسرية: "فهذا الابن لا يتعلّم مهنة وينتمي إلى "جماعة أشرار" تتعاطى الحبوب والمخدرات وبالتالي تهيمن البيئة على التربية ويصبح الابن غير مطيع لأهله".
هذا السيناريو يغيب عن أسرة الدسوقي حيث يقول "حاولت تنشئة أبنائي على عدم الاتكالية وعلى المحبة لبعضهم البعض"، رافضاً أن تصل الخلافات إلى المحاكم بل يجب حلها بطريقة ودية، مع تعزيز الدين كعامل حاسم في ضبط إيقاع العلاقة.
ينيط هشام إبراهيم (والد لأربعة أبناء) تربية الأبناء بالأهل: "لو أنّ الوالدين علما الابن على الإعتماد على نفسه وراقباً تحركاته ونمط أصدقائه، لما وقع تصادم خلال فترة نشأته".
إذن. يتلمس إبراهيم أهمية تعويد الابن على احترام "حدود معينة داخل المنزل". تلك الحدود كفيلة بإيجاد علاقة سوية إلى جانب الالتزام الديني "ووجود مثل أعلى للإبن يحتذي به"، معتبراً أنّه لا يمن لرفاق السوء أن يجرفوا الابن مادامت تربيته سليمة، وكذلك تؤثر العلاقة بين الأب والأُم في حال كانت غير مستقرة حيث "ما تبنيه الأُم يمكن أن يهدمه الأب، والعكس صحيح".
لا يتحفظ عصام سعيد البريكي (أبو سعيد) على إبداء رأيه لكنّه يقر بصعوبة الحديث عن "موضوع لم أعايشه في وسطنا الإجتماعي": "من المفروض أن يكون الابن باراً بوالديه ومن خلال تجربتي، كبرنا وتزوجنا ونعيش في منزل أهلنا ولكنّنا غير اتكاليين ونتشارك الأعباء".
دعم عائلي تلقاه أبو سعيد قبل الزواج مادياً ومعنوياً وهو ما يقر به، مؤكداً "أن أهلنا لم يقصروا معنا ودعمونا حتى بعد الزواج" ومعترفا "بحق الأب أن يلجأ لرفع دعوى في حق ابنه في حال لم يقم الأخير بواجبه تجاهه أو تجاه نفسه".
- جيل بين الإستغلالية والكسل؟ بدورها، لم تخض حياة موسى (أُم لستة أبناء) تجارب مماثلة في الخلافات وإن وجدت فهي تبررها "بأنّ الابن يهدف إلى تحقيق راحته لا إلى إستغلال والده والدليل ابني الذي أوقف دراسته لفترة وتوجه إلى العمل ثمّ عاد للدراسة وبات في حاجة لتوفير المال له".
تعترف أنّ العلاقة بين الأهل والأبناء اتّخذت منحى مادياً واختلف رونقها عن الماضي: "آمل أن يدرك الأبناء واقع آبائهم الذين يجهدون لأجل إسعادهم ويتحملون مسؤولياتهم، وأوجه تقصير الآباء تكون عادة لأسباب خارجة عن سيطرتهم".
تجد نائلة محمّد، (أُم لأربع بنات) أنّه "من غير الطبيعي أن يعمد والد إلى الإنفاق على أبنائه بعد الزواج، والعكس هو المطلوب، وهذا رهن بظروف الأب المادية ومدى حاجة الأبناء للمساعدة".
على الرغم من ذلك، تصف هذا الجيل بالإستغلالي والخطأ يعود إلى الأهل وإلى طبيعة البلد، مؤكدة بإعتبارها "أم البنات" أنّ العنصر الأنثوي أكثر تواكلاً ومصرة على "ضرورة الإعتماد على النفس في ظل تفاوت قدرة الآباء على تلبية مطالب أبنائهم".
من جهتها، تصف منى محمّد إستغلال الأبناء لآبائهم بالظاهرة السلبية التي تنذر بكارثة حيث وصل الأبناء إلى عمر الـ30 عاماً ويعيشون البطالة جراء كسل أو لعدم بحثهم من الأصل عن عمل، مشيرة إلى أنّ التربية السليمة عامل حاسم في تحميل الابن المسؤولية منذ الصغر.
فالإستغلال، في عرف منى، رهن "بالراس الكبير وقبضته على سلوك الإبن": "فإذا لم تقم التربية على أساس متين، فليتحمل الأب أعباء تربيته لاحقاً"، موصية باتباع الأهل لخطى الرسول (ص) والإقتداء بما يحث عليه الدِّين الحنيف من أنّ العمل عبادة.

المصدر: تحقيق: سلام ناصرالدين

ساحة النقاش

هدى علي الانشاصي

alenshasy
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

10,387,361