النفاس هو الفترة التى يستمر فيها نزول الدم بعد الولادة ومتوسطها علمياً عند أغلب النساء حوالى 24 يوماً (الحفنى 1994) ، ومن الناحية الشرعية لا حد لأقل النفاس ، فيتحقق بلحظة فإذا ولدت وانقطع دمها عقب الولادة ، أو لدت بلا دم وانقضى نفاسها ، لزم المرأة ما يلزم الطاهرات من الصلاة والصوم وغيرهما وأما أكثره فأربعون يوماً (سيد سابق 1987) .

وتوجد طقوس ومحاذير خاصة بفترة النفاس تختلف من ثقافة لأخرى فمثلاً فى الثقافة العربية يتجمع الأهل والجيران حول النفساء ويقومون بالأعمال المنزلية بدلاً عنها ويحرصون على أن تأكل دجاجة كاملة بعد الولادة مباشرة على اعتقاد أن " قلبها سقطان " وأن " بطنها فاضية " ولابد من وجود وجبة دسمة " تسند قلبها " وتملأ بطنها ، ومحظور على النفساء أن تتحرك بعد الولادة كثيراً اعتقاداً منهم أن " جسمها طرى " ويحرصون على إعطائها كميات كبيرة من مشروب " الحلبة " الساخن لاحتوائها على الحديد وأيضاً اعطائها واعطاء زوارها مشروب " المغات " ويكره أن يدخل رجل على النفساء وهو حديث عهد بحلاقة شعره أو ذقنه ويكره الدخول عليها بلحم طازج ويكره دخول من عرف عنهم صفة الحسد …… إلى آخر هذه المعتقدات الشعبية والتى تدل فى مجملها على وعى شعبى قديم بأن النفساء تكون فى حالة هشة جسمانياً ونفسياً لذلك تحتاج للدعم والمساندة حتى تجتاز هذه الفترة الصعبة بسلام .

وللتسرية على النفساء يقوم الناس بعمل احتفالات بها وبالمولود مثل " السبوع " وهو عادة تضرب بجذورها إلى الأسر الفرعونية القديمة . وفى الفقه الإسلامى يوجد ما يسمى بالعقيقة وهى وليمة يصنعها أهل المولود للأهل والأصدقاء والجيران فى اليوم السابع للولادة ، وفى هذا اليوم يحلقون شعر المولود ويتصدقون بوزنه ذهباً . وهذه الطقوس سواء كانت شعبية أم شرعية لها دور هام فى دعم ومساندة المرأة النفساء لكى تتجنب المشكلات الصحية والنفسية فى هذه الفترة .

الاستقبال النفسى للطفل :

تنشأ علاقة عجيبة للأم بجنينها منذ اللحظة التى تكتشف فيها أنها حامل ، وخلال شهور الحمل تتوثق هذه العلاقة خاصة بداية من الشهر الرابع حيث تبدأ حركة الجنين معلنة عن وجود مخلوق جديد له صفات مميزة محسوسة ، فهو حين يجوع تزداد حركته وحين يشبع تهدأ هذه الحركة ، وحين تنفعل الأم ينفعل معها (حيث أن كيمياء الجسم مشتركة بينهما) وحين تهدأ يهدأ . وليست مبالغة حين نقول أن عقل الأم ووجدانها فى فترة الحمل يكونان فى رحمها يستكشفان هذا المجهول ، وتبدأ الأم منذ الشهور الأولى فى تكوين صورة للجنين فى خيالها وهذه الصورة تتبلور مع مرور شهور الحمل ويساعدها على ذلك الآن وجود الأشعة التليفزيونية التى تتمكن من خلالها من رؤية الجنين وهو فى بطنها ، ولكن هذه الرؤية تعطى صورة كلية ولا تعطى تفاصيل الملامح لذلك تستكمل الأم الصورة من
خيالها .

وبعد الولادة ربما لا تكون الصورة التى رسمتها الأم فى الخيال مطابقة لصورة المولود الحقيقية وهنا تشعر الأم بالاستغراب نحو الطفل وأحياناً تشعر بالضيق أو النفور من شكله أو من جنسه (ذكر أو انثى) ، وأحياناً تشعر بالخوف وتنتابها صراعات بين القبول والرفض لهذا المخلوق الجديد (وتزداد هذه الصراعات فى الشخصيات العصابية غير الناضجة ) ثم شيئاً فشيئاً يزاد القبول والحب حتى يكون طفلها هو أغلى شئ فى حياتها .

الاعتمادية فى فترة النفاس :

نظراً للضعف البدنى للأنثى فى فترة النفاس تقوم أمها أو اختها أو حماتها على خدمتها وتكون محاطة برعاية فوق العادة ، وهى تسعد بذلك ، وربما تبدأ فى التصرف كطفلة صغيرة تحتاج لمن يدللها ويرعاها ، وتصبح كثيرة المطالب والشكوى . ويزيد من ذلك احساسها بالمسئولية الكبيرة التى ألقيت على عاتقها فجأة ناحية ذلك المخلوق الجديد النائم بجوارها ، ذلك الإحساس الذى ربما يدفعها إلى انكار فكرة الأمومة والرغبة فى العودة إلى الطفولة القديمة حيث لا مسئولية ولا عناء . والشخصيات الناضجة تتجاوز هذه الفترة بسرعة وتتقبل الوضع الجديد مستشعرة فرحتها بوظيفة الأمومة التى جبلت عليها .

الصراع فى فترة النفاس :

وفى هذه الفترة يكون الصراع بين الذات التى تريد أن تتحقق فى الاستقلال والحرية ، والذات التى يشدها الطفل إليه وتضع معه مقومات جديدة لنفسها . وتتراوح المرأة بين الاتجاهين ، وقد يبدو عليها أنها تهمل طفلها ، وقد تبكى ، وقد تصاب بالاكتئاب ، وقد يتداعى بدنها لحالتها فيجف لبنها كما لو كانت تريد للطفل أن يموت ، وكلما كانت الأم صغيرة كلما استهدفها الصراع ، وهى تحزن اذ ترى جسمها قد تغير ، وثدياها قد تغير شكلهما ، وتحتار بين الأمومة وأنوثتها ، وبين واجباتها ومتطلباتها الفكرية والعاطفية ، وبين أن تكون هى نفسها بنتاً مدللة من أبويها ، وأن تكون أما تدلل هى وليدها . وقد تشعر النفساء إزاء الأعباء التى يفرضها الوليد عليها أنها أضعف من المسئولية ، وتنتابها المخاوف ، وقد تلجأ إلى وسيلة للهرب تدفع بها عن ذاتها ، غير أن غريزة الأمومة التى توحد بينها وبين الطفل تواجه نواحى الضعف فى الذات ، وتجعل المرأة تخشى مغبة هذه الرغبات أو الصراعات فتفقد طفلها (الحفنى 1992) .

ويضاف إلى ذلك الصراع صراع آخر بين اهتمام المرأة بزوجها واهتمامها بطفلها ، وهذا الصراع يخلق مشاكل زوجية كثيرة ، فالزوج يريد منها أن تعود لحالتها البيولوجية والنفسية ، والطفل الوليد يستغرقها بالكامل ببكائه الذى لا ينقطع حتى فى الليل ومطالبه التى لا تنتهى ، لذلك تكون ممزقة بين الأثنين . ويخرجها من هذا الصراع تفهم الزوج ونضجه وقدرته على تأجيل بعض احتياجاته ، ومحاولتها هى لإعادة التوازن – فى أقرب وقت ممكن – بين تلبية حاجات الزوج وحاجات الطفل .

النمط الأنثوى فى النفاس :

والمرأة ذات التركيب النفسى الأنثوى الطبيعى تمر بكل الخبرات السابقة فى هدوء وتقبل فكرة الأمومة التى جبلت عليها منذ كانت طفلة صغيرة تلعب بعرائسها وتهدهدها ، وتتقبل الانتقال من مرحلة الاعتمادية على أبويها إلى مرحلة الاستقلال والعطاء وتسعد بذلك كثيراً وتقبل على طفلها راعية محبة ، وفى نفس الوقت تحاول استعادة معالم أنوثتها – التى تحبها – لكى تسعد بها زوجها مرة أخرى ولا تجد فى ذلك أى امتهان لشخصيتها وكرامتها ، بل تجد فى ذلك كل الشرف والتكريم ، وبهذا تصبح مرحلة النفاس عند هذا النمط من النساء مجرد مرحلة من مراحل العمر وعملية فسيولوجية طبيعية تتم فى يسر .

النمط الذكورى فى النفاس :

وعلى العكس من النمط الأنثوى السابق فإن هناك نمطاً ذكورياً (مسترجلاً) فى بعض النساء ، وهذا النمط يحمل فى داخله (بوعى أو بدون وعى) رفضاً للوظائف الأنثوية المعتادة ، وهذا النوع من النساء يمر بمشاكل صحية ونفسية كثيرة اثناء فترة الحمل ، ويمر أيضاً بولادة عسره ، وتصبح فترة ما بعد الولادة كرب شديد لذلك نجد المرأة من هذا النوع تحاول العودة لنشاطها العادى (الوظيفى أحياناً) فى أقرب وقت ممكن (ربما فى اليوم الثانى أو الثالث للولادة) ، ولا ترغب فى التفاف الناس حولها ، وترفض الرعاية والحماية من الأم ، وليست لديها مشاعر حميمة نحو طفلها لذلك تتعامل معه بشكل عقلانى تماماً وتهتم بقراءة الكتب عن تربية الأطفال وتطبق ما فيها حرفياً دون اعطاء فرصة للتعامل مع حاجات الطفل بشكل أمومى فطرى تلقائى ، وهى تحرص من أول يوم على أن تطوع الطفل لارادتها هى بدلاً من تلبية حاجاته كما يريد . وهى لا تفضل حمل الطفل على صدرها بل تدعه فى سريره أطول فترة ممكنة بادعاء أنها لا تحب أن تعوده على أن يكون فى حضنها ، وهى تفضل إعطاءه رضعات صناعية أكثر ، وتجدها كثيرة الشكوى من رغبات الطفل ومن أحواله فهى لا تفهم لماذا يبكى ولا تفهم لماذا يرفض الرضاعة فهى معزولة تماماً عن لغة الطفل الجسدية . وإذا سنحت لها الفرصة فإنها تترك طفلها لأمها أو اختها أو حماتها وتخرج لعملها أو لنشاطاتها السابقة .

وهى فى صراع دائم أيضاً مع مطالب الزوج وتعتبر ذلك انتهاكاً لكرامتها الإنسانية خاصة فى تلك الفترة التى تحتاج فيها أن تعطى بعض الاهتمام لطفلها ، فكيف بزوجها أن يطالبها بالاهتمام به وباحتياجاته فى هذه الظروف الصعبة .

والمرأة من هذا النوع تكره المولود الأنثى وتشعر بالرفض والنفور تجاهها ، أما إذا كان المولود ذكراً فإنها تحاول منذ البداية تطويعه لإرادتها والسيطرة عليه تماماً حتى لا يتمرد عليها .

وأخيراً فهذه هى فترة النفاس بصراعاتها ومصاعبها والتى تحتاج فى كل الأحوال مساندة من كل المحيطين بالمرأة حتى تتجاوزها بشكل طبيعى آمن .

المصدر: دكتور / محمد المهدى

ساحة النقاش

هدى علي الانشاصي

alenshasy
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

10,388,699