يقول عالم النفس السلوكي (ف. ب. سكينر) إن العنف يبدأ في الرؤوس قبل استخدام الفؤوس. وما وراء الإرهاب هو فكر الإرهاب. وما يحصل لنا هو صناعة أيدينا، فهذه حقيقة سيكولوجية. والعنف شجرة خبيثة جذورها الكراهية وأغصانها الخوف وثمرتها الجريمة. والتعصب أوله إغلاق لمنافذ الفهم وآخره حرب أهلية. وإذا جاء بعض الأذكياء الخبثاء فاستخدموا بعض المتحمسين المغفلين فهي لعبة مثيرة، ولكن من يؤديها وينفذها هم المتحمسون المغفلون. وليس هناك أكثر اندفاعاً من الثور ولكن المصارع الإسباني يلعب به بخرقة. وخلف التفجيرات شباب لا ينقصهم الحماس ولكن الفهم. والفهم قد سحب من أدمغتنا بأشد من شفط الدماغ عند المومياء المصرية. والخوارج استيقظوا من قبورهم بعد أن أعيد إحياء مذهبهم الذي ودع الحياة عند حافة تندوف في صحراء الجزائر. وهو أمر نبهنا عليه أكثر من ثلاثين سنة. ودعونا إلى تعميم لقاحات اللاعنف ولكن لم ينتبه أحد.. وتعميم لقاحات اللاعنف في زمن الأوبئة أهم من لقاح البوليو والحمى الدماغية.
والتشدد أوله تدين خاطئ، ووسطه حماس بدون وعي، وخاتمته قتل وسفك دماء. والتعصب ليس سمة الإسلاميين بل كل الإيديولوجيين. سواء كان الظواهري أو بول بوت أو شارون. وهناك من العلمانيين والحداثيين من هم أشد تعصبا من جماعة بن لادن والصوفيين. فالتعصب مرض يضرب العقل مثل الكوليرا والملاريا. والجراثيم لا تفرق بين العقائد والمعتقدين. ومن زعق فارتفع صوته فهو لا يعني عمقا في الحجة بل حدة في طبقة الصوت.
وعندما قتل ابن آدم الأول أخاه كان بسبب العجز. والإحباط يقود إلى العدوانية. والعواطف دارات متداخلة. ومن أقدم على الجريمة ليس الناجح بل الفاشل، فلم يتقبل منه قربانه فقال لأخيه لأقتلنك. وهذه القصة في القرآن حافلة بالرموز لمن (يتأملها). وهي تعرض أسلوبا جديدا في فك الصراعات بالتخلي عن القوة من طرف واحد.. ولكن هذا يحتاج إلى وعي مختلف نحن بعيدون عنه مسافة أربعين خريفا. والتعصب لفكرة معناه عدم مراجعتها. وعدم مراجعة الفكرة يعني عدم تصحيحها فتوقف النمو فالموت. والجماد لا يتكاثر ولا يتحرك. ولو تركت صخرة أبد الدهر ما تحركت. وعندما يجمد الإنسان على فكرة تعطيه لوناً خادعاً من الراحة والطمأنينة، ولكنها تموت بفعل الطقوس والتكرار الممل. ولا يشعر بهذا من يمارسها. فالحي يشعر والميت لا يشعر. وحسب (نيتشه) فإن من أراد الراحة فليعتقد ومن أراد أن يكون من حواريي الحقيقة فليسأل؟
والحماس لفكرة لا يعني صحتها. بل يروي مدى تعلق صاحبها بها. وصحة الفكرة تأتي من تناسقها مع السياق الكوني ولو لم تعجبنا. ورائحة القدمين مزعجة عند البعض ولكنها عند البعوض أفضل من المسك والعنبر، فيلدغ صاحبها عشقاً بالرائحة. والفكر التعصبي هو عند صاحبه مثل رائحة القدمين الكريهة يشتهيها البعوض ويهرب منها البشر.
ولم يكن أشد من الخوارج تحمسا لفكرتهم ولا أشد وطأة على المسلمين وسفكاً للدماء منهم. ومن رأى الحياة على نحو حدي انكفأ لأحد الأطراف بسرعة. وأعظم آفة في الفلسفة فكرة الثنائية. والمدمنون يزداد تناولهم للحشيش مع الوقت وينقلب مزاجهم في لحظة. و(أنتوني أيدن) شن حرب السويس تحت تأثير البنزدرين كما روت قناة ديسكفري التلفزيونية.
وفي يوم طحن هتلر المعارضة الشيوعية في ألمانيا تحت تهمة حرق الرايخستاغ (البرلمان). وإدوارد سعيد في مذكراته ألقى اللائمة بحريق القاهرة على الأخوان المسلمين.
وفي كثير من البلدان العربية تقع أحداث تفجير وقتل فيخرج علينا من يقول إن خلفها أميركا وإسرائيل. والقرآن نزل في عشر آيات من سورة النساء ليبرئ ساحة يهودي من تهمة سرقة درع فعاتب القرآن نبيه فقال: ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم إن الله لا يحب من كان خواناً أثيماً. وليس هناك أفضل من العدل ولو على النفس والوالدين والأقربين لأن العدل أقرب للتقوى.
ومجموع هذه القصص تصب في اتجاه واحد أن التهمة تلصق أكثر حسب المكان المستقبل. فإن كان الجو غير معقم انتشرت الشائعات وصدقها الناس بأشد من انتشار البكتيريا في وسط ملائم، ومنه تستخدم الشرطة دليل الاختفاء (Alibi) أي الدليل على وجود المتهم وقت وقوع الجريمة خارج مكان وقوعها بأدلة مادية دامغة.
وعود الثقاب إذا ألقي في برميل ماء انطفأ، وإذا أشعل في يوم صيف قائظ تضرب فيه الريح التهم غابة. فهذه قوانين وجودية ولكن بيننا وبين العلم سنة ضوئية.
وعندنا استعداد أن نتهم كل الناس ولا نراجع مفاهيمنا وموروثنا الثقافي لحظة. وفي كل يوم تنفجر الأحداث في بلد عربي يقوم فيه شباب متدينون متحمسون بأن هذا سنام الجهاد وقمة التقوى وأفضل ما يتقرب به العبد إلى الله تعالى. ومن مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من النفاق، ولكن أي غزو هذا؟ وضد من؟ وبيد من؟
وما لم تتم إعادة تصنيع العقل المسلم فنحن في طريقنا للكوارث.
وأطباء المخابر إن أرادوا تحديد هوية أي جرثوم، يضعونه في الوسط الملائم من مرق وسواه ثم يراقبون نموه. فليس أي وسط ينفع لنمو أي جرثوم. ووضع جرثوم في مرق اللحم يجعله يتكاثر بقوة، ووضعه في وسط حامضي كثيف لا يساعده على النمو.
وعندما يتهم ابن لادن أو الحركات الأصولية بالعنف وأنهم خلف أحداث العنف، فيمكن أن تلتصق بهم أية تهمة قتل ولو لم يكونوا خلفها لسهولة الاتهام، لأنهم يؤمنون بالعنف ويدعون للقتل على رؤوس المنابر وهلاك معظم الجنس البشري. ولكن بريطانيا لو اتهمت غاندي أنه خلف أحداث العنف ما صدقها أحد، لأن الرجل عقم ساحة الصراع كفاية من أي جرثوم.
وفي يوم قامت المظاهرات في وجه بريطانيا من كل جانب واشترك فيها المسلمون والسيخ والهندوس ثم حدثت مظاهر عنف وقتل للشرطة فأعلن غاندي الصيام، فجاءه نهرو وهو لا يصدق، وسأله هل تريد منا إيقاف المظاهرات وقد عمت كل البلد وليس بيننا وبين طرد بريطانيا إلا شعرة؟ قال غاندي ليس المهم طرد بريطانيا بل طرد الشيطان من قلوبكم، وليس المهم أن يتظاهر الناس ولكن كيف يتظاهرون سلميا بدون قتل؟ واعتبر (نهرو) يومها أن هذا سذاجة في علم السياسة. ولكن غاندي اعتبر أن اجتماع الناس لا يعني شيئا بل كيف يجتمعون؟ وطلب من (نهرو) فك المظاهرات واستمر في الصيام حتى توقفت المظاهرات. ثم طلب (غاندي) أن يعتذر المتظاهرون علناً لمركز الشرطة وطلب الصفح وتقديم التعويض عما حدث!
والأحداث حينما تقع هي حصيلة عناصر داخلية وخارجية، ولكن العوامل الداخلية هي الأساس في ولادة الأحداث. وعندما تندلع أحداث العنف عندنا يجب عدم اتهام أميركا وإسرائيل حتى لو كانت لهما أصابع في ذلك.
وآدم مع كل معرفته بإغواء الشيطان له أن له شجرة الخلد وملك لا يبلى لم يتهم الشيطان أنه كان خلف سقوطه وانكشاف عورته، بل اتهم نفسه فقال رب إني ظلمت نفسي; ونحن نعمل عكس عمل آدم فنشابه الشيطان الرجيم في ادعائه أن رب العزة خلف خطئه «رب بما أغويتني». وهذا هو الفرق بين آدم والشيطان. وكانت النتيجة أن آدم نجح في الامتحان وتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه. وأثبت أنه كان أهلا للخلافة الإلهية. بقدرة الاعتراف بالخطأ; لأن قدرة الاعتراف بالخطأ تمكنه من التصحيح والنمو إلى معارج جديدة من السمو لا يملكها أحد سواه من المخلوقات، فالعقارب والتماسيح تعيش منذ مئات الملايين من السنين بدون تطور; أما آدم وذريته فقد وصلوا إلى المريخ ورست أبحاثهم عند الجينوم البشري والبروتيوم الجوال، وفتتوا الذرة وسحقوا الزمن إلى الفيمتو ثانية، وعرفوا البعد الحادي عشر والأكوان الموازية وصنَّع مضاد المادة.
ساحة النقاش