رسالة من المهندس هشام نجار أنقلها لكم كما وردت
عالم السياسة الإخباري
أخي الفاضل الأستاذ نصر الزيادي حفظه الله
السلام عليكم ورحمة الله
في عام ٢٠٠٦ زرت وطني سوريا بعد إنقطاع دام ٢٦ عاماً..سجلت إنطباعاتي عن هذه الزياره بسلسلة من أربع حلقات .. أرسلها لكم تباعاً لقراءكم الأفاضل مع خالص تحياتي
في عام ٢٠٠٦ زرت وطني سوريا بعد إنقطاع دام ٢٦ عاماً..سجلت إنطباعاتي عن هذه الزياره بسلسلة من أربع حلقات .. أرسلها لكم تباعاً لقراءكم الأفاضل مع خالص تحياتي
إجازة في وطني سوريا
الحلقة الأولى بعنوان : مساومة على أدويتي في مطار حلب
أعزائي القراء
في صيف عام ٢٠٠٦ قررت وزوجتي زيارة وطننا سوريا .. قلت لها يا أم لؤي : سنذهب شهراً واحداً للراحة لن نغوص مع الأهل والأقارب في قصص الماضي وحكايات القيل والقال .. وإن كنت أجزم أنها مازلت حية ترزق رغم مرور عشرات السنين عليها .. وخذي علي عهداً أني لن أناقش في السياسه أحداً لا من قريب ولا من بعيد ولن أتابع قناة إخبارية فضائية كانت أم أرضية .. فهدف زيارتنا هي للإستجمام ولقاء الأحبة وإسترجاع أيام طفولتي وتذكر شقاوتي ومقالبي مصحوبة بفنجان قهوه على الشرفة فهذا كل مطلبي .. ووقعتٌ على هذا التعهد بقوة الواثق من نفسه .. ورجوتها أن تكون حقيبة سفرنا صغيرة .. شوية هدايا للأهل والأصدقاء اما عن أغراضنا ففي سوريا كل شيئ متوفر لتشجيع منتجات البلد وشراؤنا ما نحتاجه من الوطن .. وميزة أخرى هي أننا نقلل من إحتكاكنا بأولئك الموظفين المتربصين بنا فبعضهم يعمل لصالح مخابرات النظام والعياذ بالله يتلصص على المغادر والقادم ويتفرّس في وجوه الجالس والقاعد .. ومنهم من يعمل لصالح سيده أو أسياده يتقاسموننا كأفراخ الدجاج .. والويل كل الويل لمن لا يدفع .. فالنظام بني على هذه السلسلة من الفساد شاملة صغار القوم وعليتهم وكلٌ حسب جهده ومنصبه وخدماته وتقربه من الحيتان الكبيره من آل أسد وآل مخلوف وتوابعهما .. حتى يلتهي الناس بحالهم ويتركوا النظام يلتهي بفساده ... وهات يا فساد.
أما أنا أعزائي القراء فكل ما حملته بيدي فكان حقيبة صغيرة فيها عدة الحلاقة وفرشاة ومعجون أسنان وبيجامتي وكتاب غير سياسي أتسلى به في الطريق مع كومة أدوية عددها سته بزجاجتين لكل دواء فيصبح مجموعها إثنا عشر زجاجة .. لها علاقة بالضغط وتمييع الدم وخفض نسبة الكولوسترول السيئ وآخر لرفع نسبة الكولوسترول الجيد .. بإختصار هيك الطبيب بدّو .
غادرنا نيويورك في أواخر شهر تموز/ يوليو من عام ٢٠٠٦ على الخطوط المصرية لنصل عصراً مطار القاهرة الدولي منتظرين عملية الربط بالطائرة التي ستقلنا لمطار حلب حيث وصلناها عِشاءً .
لا أدري أعزائي القراء لماذا يصاب الإنسان بإنقباض بالنفس وزيادة بنبضات القلب حال دخوله مطاراً سورياً .. هذه ليست تجربتي فقط بل الكثير من أصدقائي العرب أكدوا لي ذلك .. قلت لنفسي ولايهمك ياهشام فأنت اليوم في بلدك وتاريخ جهاد والدك ضد الفرنسيين معروف وكل افراد عائلتي لهم تاريخ مشرف بخدماتهم لهذا البلد الغالي والكل يعرفونك .. فهدئ من روعك وتحّكم بدقات قلبك فلا داعي للقلق .. الا أن نفسي حدثتني قائلة: يا أبو لؤي أنت تتحدث عن ماضي آخر لايمتٌ لحاضر سوريا بصلة .. وبضحكة تهكمية على نفسي قلت : "آل (قال) تاريخ وطني آل...يظهر ياهشام إنت عبتحلم" . ثم ضعت حقيبتي الصغيرة أمام موظف الجمارك أو المخابرات لاأدري فلقد زرعوا الوطن بهم كالحمّص يخرجون لك بصحوتك ومنامك فقال لي: الأخ منين جايه؟ فقلت له من نيويورك .. قال: الحمد الله عل السلامة .. ناولني (الباظابورت) لأشوف . فناولته إياه .. تابع قائلاً وين غراضك؟ قلت له: الحقيبة الصغيرة اللي أدّامك وحقيبة اليد اللي بإيدي .أردف قائلاً : ناولني الشنته اللّي بإيدك .. تفضل ..
مد يده فيها وبدأ يخرج زجاجات الدواء الواحدة تلو الأخرى ويَصفّها كالعسكر أمامه .. ثم بدأ ينادي أصدقاءه ضاحكاً ساخراً .. شوفوا ياشباب الأخ جايب معو كل صيدليات نيويورك .. قلت له: أخي كلمتين وغطاهم إذا كان الدواء ممنوع وريّني لائحة المنع حتى أرميهم بالزبالة وأحجز غداً بالطائرة للعودة لعملي في نيويورك .. أما إذا كان إحضار الأدوية غير ممنوع فلماذا هذه المعالجه! قال الرجل : شوف ماهون ممنوعات بس بأدر بشلفون بالزباله إذا رِدتْ ! ثم إلتفت إلى زميله قائلاً يظهر الأخ ما عبفهم؟ هنا زرفت دمعتين على هذا الواقع المر الأليم المشين المخجل الذي حوله هذا النظام الفاشي إلى مافيا وحيتان كبيرة .. قالوا عنه أنه وطن ولم يبق فيه مايمت للوطن بصلة .. لقد حَوَلوه في عهدهم إلى مزرعة .. إلى مسلخ .. إلى مجزرة .. لقد قبروا حتى الإنسانية في مقابر جماعية ولم يبق لنا سوى الهواء حتى يصادروه من حويصلاتنا .. كرامتنا سُلبت .. وحريتنا سرقت حتى أدويتنا يساوموننا عليها وفوق ذلك يخرجوننا بعربات الحكومة .. ويصفوننا أمام القائد لنصفق لخطبه العصماء حتى تلتهب أكفنا والويل إن لم نصفق .. آه ياوطن أنبكيك أم نبكي أنفسنا؟.. ماذا فعلوا بك دعاة الصمود الفاجر .. أربعين عاماً ياوطني انت ونحن في غرفة الإنعاش تارة وفي أقبية المخابرات تارةً أخرى .. غيبوك وغيبونا عن تاريخنا ومنعونا من بناء حاضرنا ويحاولوا ان يحضّروا اليوم مقابر جماعية لمستقبلنا حتى لا نعد قادرين على التعرف حتى على ذاتنا .
أعزائي القراء
وضعت أدويتي في حقبيتي وقلت له صائحاً امام جموع الناس: لن أدفع لك قرشاً واحداً وسأعلم الناس كل الناس ان لاتُبتز بعد اليوم .. وحملتُ مع أم لؤي الحقيبتين وغادرنا المطار إلى أقرب سيارة تاكسي وأنا اعتذر من زوجتي على إخلالي ببنود الإتفاق بأن أمنح السياسة إجازه .. فلم أستطع فلقد كان النظام بفجوره وفساده متربصٌ بنا من أول ثانية وطأت أقدامنا تراب الوطن فأبى الاّ أن يجرني إليها .. وفي التكسي فتحت قنينة دواء ضغط الدم وإبتلعت واحدة ثم أغمضت جفوني بإنتظار أن أصل البيت لأرمي نفسي على أقرب كنبة وأغط في نوم عميق.
إلى اللقاء .. مع الحلقة الثانية بعنوان آلو... أنا أبو محمد