<!--<!--<!--[if gte mso 10]> <style> /* Style Definitions */ table.MsoNormalTable {mso-style-name:"Table Normal"; mso-tstyle-rowband-size:0; mso-tstyle-colband-size:0; mso-style-noshow:yes; mso-style-parent:""; mso-padding-alt:0cm 5.4pt 0cm 5.4pt; mso-para-margin:0cm; mso-para-margin-bottom:.0001pt; mso-pagination:widow-orphan; font-size:10.0pt; font-family:"Times New Roman"; mso-ansi-language:#0400; mso-fareast-language:#0400; mso-bidi-language:#0400;} </style> <![endif]-->

أتريدون أن ترجعوا بنا ألف سنة إلى الوراء .. إلى عهد الخيام ؟

لقد كان الإسلام صالحاً لأولئك الحفاة الجفاة من الأعراب قبل ألف عام . وكانت سذاجته وبدائيته مناسبة للبيئة البدوية التي نشأ فيها . أما اليوم فهل يصلح في عهد المدنية والحضارة الآلية ؟ عصر الطائرات الصاروخية والقنابل الهيدروجينية وناطحات السحاب والسينما المجسمة ؟ !

إنه دين جامد لا يتفاعل مع الحضارة الحديثة ، ولا مناص من نبذه إذا أردنا أن نتحضر كبقية خلق الله !

*     *     *

شبهة غبية لا يقول بها أحد درس تاريخ هذا الدين . وإلا فأين ومتى وقف الإسلام في طريق الحضارة ؟

لقد نزل الإسلام – فيما نزل – في قوم نصفهم من الأعراب ، بلغ من جفوتهم وغلظة قلوبهم أن يقول فيهم القرآن : " الأعراب أشد كفراً ونفاقاً وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله " فكانت معجزته العظمى أن جعل من هؤلاء الغلاظ الجفاة أمة من الآدميين ، لا يكتفون بأنهم اهتدوا بهدى الله فارتفعوا من حيوانيتهم إلى آفاق الإنسانية الرفيعة ، بل أصبحوا هم أنفسهم هداة البشرية يدعونها إلى هدى الله . وذلك وحده برهان على ما في هذا الدين من قدرة عجيبة على تحضير الناس وتهذيب النفوس .

ولكن الإسلام لم يكتف بهذا العمل الجبار في داخل النفوس . وهو العملية الحقيقية التي تستأهل الجهد وتستحق التسجيل ، لأنها الهدف الأخير من كل المدنيات والحضارات .. لم يكتف الإسلام بهذا التهذيب العميق للأفكار والمشاعر ، بل ضم إليه كل مظاهر المدنية التي يهتم بها الناس اليوم ويحسبونها لباب الحياة ، فتبنّى كل الحضارات التي وجدها في البلاد المفتوحة في مصر وفارس وبلاد الروم ، ما دامت لا تخالف عقيدته في وحدانية الله ولا تصرف الناس عن الخير الواجب لعباد الله . ثم تبنّى كل الحركة العلمية التي كانت لدى اليونان من طب وفلك ورياضة وطبيعة وكيمياء وفلسفة ، ثم أضاف إليها صفحات جديدة تشهد بتعمق المسلمين في البحث ، واشتغالهم الجدي بالعلم ، حتى كانت خلاصة ذلك كله في الأندلس هي التي قامت عليها نهضة أوربا الحديثة وفتوحاتها في العلم والاختراع .

فمتى ؟ متى وقف الإسلام في وجه حضارة نافعة للناس ؟

*     *     *

أما موقف الإسلام من الحضارة الغربية السائدة اليوم فهو موقفه من كل حضارة سابقة. يتقبل كل ما تستطيع أن تمنحه من خير ، ويرفض ما فيها من شرور . فهو لا يدعو – ولم يدع قط – إلى عزلة علمية أو مادية ، ولا يعادي الحضارات الأخرى معاداة شخصية أو عنصرية ، لإيمانه بوحدة البشرية واتصال الوشائج بين البشر من جميع الأجناس وجميع الاتجاهات .

 وإذن فلا خوف من أن تقف الدعوة الإسلامية دون استخدام ثمار الحضارة الحديثة كما يفهم بعض البلهاء من المثقفين . ولن يشترط المسلمون أن تكون الأدوات والآلات مكتوباً عليها " بسم الله الرحمن الرحيم " حتى يقبلوا استخدامها في منازلهم ومصانعهم ومزارعهم ومختلف مرافق حياتهم ! وإنما يكفي أن يستخدموها هم باسم الله وفي سبيل الله . والآلة في ذاتها لا يمكن أن يكون لها دين ولا جنس ولا وطن . ولكن الهدف من استخدامها هو الذي يتأثر بأولئك جميعاً . فالمدفع في ذاته إنتاج بشري لا عنوان له ، ولكنك حين تستخدمه لا تكون مسلماً إذا استخدمته في الاعتداء على الآخرين ، فشرط استخدامه في الإسلام أن يكون دفعاً لعدوان أو إحقاقاً لكلمة الله في الأرض . والسينما في ذاتها إنتاج بشري كذلك . وتستطيع أن تكون مسلماً حين تستخدمها في عرض العواطف النظيفة والإنسانية الرفيعة وصراع الأحياء في سبيل الخير ، ولكنك لا تكون مسلماً وأنت تستخدمها لعرض الأجساد العارية والشهوات العارية والإنسانية الهابطة في حمأة الرذيلة . الرذيلة من كل نوع . خلقية كانت أم فكرية أم روحية . فليس عيب الأفلام التافهة التي تغرق الأسواق هو مجرد استثارة الغرائز الدنيا ، ولكنه تهوين الحياة وحصرها في أهداف تافهة رخيصة لا يمكن أن تكون غذاءً لبشرية صالحة .

وكذلك لم تقف الدعوة الإسلامية دون التفاعل مع التجارب العلمية التي تنتجها البشرية في أي مكان على الأرض . فكل تجربة بشرية صالحة هي غذاء يجب أن يجربه المسلمون ، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم : " طلب العلم فريضة " واعلم حين يطلق هكذا يشمل كل علم ، وقد كانت دعوة الرسول إلى العلم كافة ، ومن كل سبيل .

كلا ! لا خوف من وقوف الإسلام في وجه الحضارة ما دامت نفعاً للبشرية . أما إذا كانت الحضارة هي الخمر والميسر ، والدعارة الخلقية ، والاستعمار الدنيء ، واستعباد البشر تحت مختلف العنوانات ، فحينذاك يقف الإسلام حقاً في وجه هذه " الحضارة " المزعومة ، ويقيم نفسه حاجزاً بين الناس وبين التردي في مهاوي الهلاك .

 

الإسلام … وَالرجعَّية

وتريدون أن نحجز أفكارنا ومشاعرنا فنقف عند أوضاع لم تعد اليوم مقبولة ولا منطقية مع الحياة الجديدة ، وتقاليد وضعت لأجيال غير هذه الأجيال ، واستنفدت أغراضها ، وأصبحت اليوم رجعية تعوق التقدم وقيداً يعوق الانطلاق ؟

أما تزالون تصرُّون على تحريم الربا ، وهو ضرورة اقتصادية لا غنى عنها في العالم الحديث ؟

وتصرون على جمع الزكاة وتوزيعها في محل جبايتها ؛ وهي بدائية لا تتفق مع مع نظام الدولة الحديثة ، فضلاً عن أنها تشعر الفقراء من أهل القرية أو المدينة أن فلاناً من الأثرياء هو الذي يحسن إليهم ، فيظلون أذلاء له خاضعين لسلطانه ؟

وتصرون على تحريم الخمر والميسر والاختلاط بين الجنسين والرقص المشترك واتخاذ الخليلات والخلان ، وذلك كله ضرورة اجتماعية في العصر الحديث لا يمكن الاستغناء عنها ولا وقفها لأنها " تطور " لا بدّ أن يأخذ طريقه ؟

أف لكم ! أية رجعية تنادون بها أيها المسلمون !

*     *     *

وهذا الذي يقولونه صحيح من جانب ، وخطأ ومغالطة من جانب آخر .

صحيح أن الإسلام يحرم الربا . ولكن ليس صحيحاً أن الربا ضرورة اقتصادية . وفي العالم اليوم نظريتان اقتصاديتان لا تقومان على الربا : هما النظرية الإسلامية والنظرية الشيوعية على اختلاف ما بينهما في الأصل والاتجاه . كل المسألة أن الشيوعية قد وجدت القوة التي تنفذ بها نظامها واقتصادياتها ، والإسلام لم يجمع قوته بعد؛ ولكنه في طريقه إلى القوة . وهو صائر إليها بحكم طبائع الأشياء ، وبحكم جميع الدلالات الكامنة في الصراع القائم اليوم في مختلف بلاد العالم ، وهي دلالات توحي كلها ببعث إسلامي جديد .

وحين يحكم الإسلام فسوف يقيم اقتصادياته على غير الربا ، فلا تعجزه ضرورة اقتصادية . كما أقامت الشيوعية نظامها على غير الربا فلم تعجزها هذه الضرورة الوهمية .

ليس الربا إذن ضرورة لا مناص منها للعالم الحديث . وإنما هو ضرورة فقط في العالم الرأسمالي ، لأن الرأسمالية لا يمكن أن تقوم بدونه . ومع ذلك فكبار الاقتصاديين في الغرب الرأسمالي من أمثال الدكتور شاخت ينددون بنظام الربا ويقولون إن نتيجته الحتمية على مر الأجيال هي تركيز الثروة في أيدي فئة قليلة من الناس ، وحرمان المجموع منها رويداً رويداً ، ووقوع الملايين – تبعاً لذلك – في العبودية لهذه الفئة الصغيرة المالكة للثروة . ونحن نرى مصداق ذلك في الرأسمالية الحالية بغير حاجة إلى تعمق في دراسة الاقتصاد . وقد كان من معجزات النظام الإسلامي أنه حرم الربا والاحتكار – وهما دعامتا الرأسمالية – قبل ظهور الرأسمالية بما يقرب من ألف عام ، لأن الله الذي نزّل هذا الدين يرى الأجيال كلها في وقت واحد ، ويعلم - وهو العليم الخبير – ما يؤدي إليه الربا من كوارث في عالم الاقتصاد ، فضلاً عما يثيره بين طوائف الأمة من الإحن والأحقاد .

وإن من أعجب العجب أن كاتباً " مكافحاً ! " في إحدى الصحف الأسبوعية يندد بالإسلام لإصراره على تحريم الربا ، في الوقت الذي يعتنق هذا الكاتب مبادئ الاشتراكية التي تقوم على غير أساس الربا ، وفي الوقت الذي بدأت الرأسمالية ذاتها تتنصل من عواقب الربا وتتحول رويداً رويداً إلى الاشتراكية ! فليست المسألة إذن مبادئ يعتنقها صاحبها عن فهم وإيمان . وإنما هي مجرد شهوة في التهجم على الإسلام !

ومن العجب كذلك أن وزيراً " مسلماً " قضى شبابه منتمياً إلى هيئة دينية ، يحاول – إرضاء لرؤوس الأموال الأجنبية - أن يتطوع فينفي عن الإسلام تهمة الجمود ( ! ) فيقول إنه آن الأوان لمراجعة تشريع الربا في الإسلام ، " لنتطور " به تبعاً للظروف القائمة اليوم ! فيشتري رضاء السادة أصحاب رؤوس الأموال بغضب الله ، ويتمسح بالتطور الاقتصادي وهو أجهل الناس به إن كان يقصد حقاً ما يقول ! وكذلك فعل شيخ للأزهر يحرف الكلم عن مواضعه ، بعدما كان له رأي سابق – قبل المشيخة – يحرم فيه الربا بتاتاً ، ويقول الحق فيه!

إن الربا ضرورة مذلة بالنسبة إلينا اليوم ، لأن اقتصادياتنا ما زالت معتمدة على العون الخارجي . ولكن الخضوع لهذه الضرورة حتى تنتهي شيء، والتطور المزعوم شيء آخر . وفي اليوم الذي تستقل فيه اقتصادياتنا في العالم الإسلامي بأجمعه وتستطيع الوقوف على قدميها ، وتكون علاقتنا مع العالم على أساس التبادل الحر لا على أساس الخضوع .. في ذلك اليوم نقيم اقتصادياتنا على قواعد الإسلام ، ونحرم الربا ، فنكون بالنسبة للعالم كله تقدميين متطورين !

*     *     *

أما الزكاة فقد تحدثنا عنها قي فصل سابق بما لا يدع مجالاً للشك في صفتها ، وهل هي إحسان ممنوح للفقراء ، أم حق تؤديه الدولة بتكليف من الله منزّل التشريع .

ولكن الشبهة هنا هي محلية الزكاة . أي توزيعها في مكان جبايتها .

ويضحك الإنسان من بلاهة " المثقفين " حين يرون النظام الواحد يأتي من الغرب " المتحضر " فيفتحون أفواههم عجباً وإعجاباً بآخر " تطورات " الحضارة ، والنظام ذاته يأتي من طريق الإسلام فيكون رمز التأخر والانحطاط والجمود !

آخر تطورات النظام الإداري في أمريكا هو اللامركزية الكاملة . فالقرية وحدة اقتصادية وسياسية واجتماعية مستقلة ، في حدود ترابطها بالمدينة وبالولاية ، ثم بالحكومة المركزية للولايات المتحدة . وفي هذه الوحدة المستقلة تجبى الضرائب التي يفرضها المجلس القروي بنسب معينة . ثم تنفق في ذات القرية ، في شئون تعليمها وصحتها ووسائل مواصلاتها وخدماتها الاجتماعية .. الخ . فإذا فضلت منها فضلة أرسلتها " الحكومة " المدينة أو الولاية . أما إذا احتاجت فهي تستمد من هناك . وهو نظام جميل في ذاته لأنه يوزع العمل ولا يثقل به كاهل الحكومة المركزية التي لا يمكن أن تعرف حاجات الوحدات الصغيرة أو تقوم بها ، كما يعرفها ويقوم بها أهلها المحليون .

والمثقفون هنا يهللون لهذا النظام ويكبرون ..

والإسلام المتأخر قد اهتدى إلى هذا النظام قبل ألف وثلثمائة عام .

فجعل جباية الضرائب محلية ، وجعل صرفها محلياً كذلك ، فإذا فضلت منها فضلة أرسلت إلى بيت المال العام ، وإذا قصرت أخذ لها من بيت المال .

هذا هو المبدأ الذي قرره الإسلام لحسن توزيع العمل وإقامة اللامركزية في نظام الحكم. وهو الذي يندد المثقفون لأنه تأخر وانحطاط !

أما طريقة توزيع الزكاة فقد أسلفنا الحديث عنها . وقلنا إنه ليس في الإسلام ما يحتم صرفها نقداً وعيناً فحسب ، وليس ما يمنع من توزيعها في صورة مدارس ومستشفيات وخدمات اجتماعية ، بالإضافة إلى الإنفاق المباشر على العاجزين عن العمل بسبب الضعف والشيخوخة والطفولة .. إلخ .

فإذا طبقنا الإسلام في المجتمع الحاضر ، فلن نصنع أكثر من إقامة وحدات صغيرة تقوم بشئون نفسها في حدود ارتباطها بمراكزها الإقليمية ، وبالدولة ، وبالعالم الإسلامي ، وبالعالم الواسع كله في نهاية المطاف . ونكون بذلك تقدميين سابقين في التطور لكل أمم الأرض التي تعجب المثقفين .

*     *     *

أما الخمر والميسر والاختلاط بين الجنسين فحقيقة يحرمها الإسلام ، ويصر على تحريمها مهما ندد به التقدميون والتقدميات !

والجدل في أمرها قد يطول . ولكنا نأخذ المسألة من أقرب طريق . ويكفي من أمر الخمر أن تقوم في فرنسا الداعراة التي لا تفيق .. امرأة – نائبة في البرلمان – تطالب بتحريم الخمر ! ! يكفي ذلك للرد على المخمورين والمخمورات في عصر المدنية الحديثة !

ولست أجد في نفسي في الواقع احتراماً للخمر . ولكني أعلم أنها انعكاس مجتمع مريض في نفس فرد مريض . فالمجتمع الذي تشتد فيه فوارق الطبقات فتعيش طبقة في الترف الفاجر الذي يبلد الحس فيحتاج إلى منشطات صناعية .. وطبقة في الحرمان الكافر الذي يحتاج إلى " مغيبات " يهرب بها الإنسان من الواقع السيئ الذي يعيش فيه . والمجتمع الذي يسوده الإرهاب والحجز على الآراء والأفكار . والمجتمع الذي يحجر مشاعره الصراع على لقمة العيش ، أو يضفي عليه الكآبة طنين الآلات المزعج المكرر الوتيرة ، والجلسة الطويلة المملة على المكاتب وراء الجدران ..

هذا المجتمع يلجأ للخمر وغيرها من المخدرات ، ليخلق لنفسه في الأحلام عالماً آخر خالياً من الشقاء .

ولكن هذا كله لا يبرر وجودها .

إن وجودها دليل على المرض ، وداع إلى إزالة أسبابه . وحين حرَّم الإسلام الخمر لم يسقط من حسابه " المبررات " التي تدفع إليها ، بل عمل على إزالة هذه المبررات أولاً ، ثم جاء التحريم بعد ذلك . فلتتعلم المدنية الحديثة من الإسلام كيف يعالج أمراض النفوس بالتنظيم الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والفكري والروحي والجسدي .. قبل أن تفتح فمها بانتقاد الإسلام .

والميسر لا يرضى عنه أحد إلا الفارغون والفارغات من التافهين . فلا يحتاج منها إلى إطالة الحديث .

أما الذي يثور بشأنه الجدل فهو مسألة الاختلاط .

إلى متى سنظل متأخرين ؟ إلى متى سنقف في سبيل المدنية والتقدم ؟ ! " يا سلام " على مدنية فرنسا ؟ هناك يقف العاشقان في الطريق العام متعانقين متشابكين ، مستغرقين في قبلة عميقة لذيذة ، فلا يكدر صفوهما الأنطاع من دعاة الفضيلة ، ويقف رجل البوليس يحميهما من حركة المرور أن تزعجهما قبل الانتهاء من هذا " البوز " الفني الجميل . والويل كل الويل لمن ينظر إليهما نظرة استنكار ، فإنه يبوء وحده بالازدراء والاحتقار !

" ويا سلام " على مدنية أمريكا ! القوم هناك صرحاء مع أنفسهم ، لا يدورون ولا ينافقون . عرفوا أن الجنس ضرورة بيولوجية فاعترفوا بالضرورة ، ويسروا سبلها ، ومنحوها رعاية المجتمع واهتمامه . فلكل فتى صديقة ولكل فتاة صديق ، يخرجان معاً ويدخلان معاً ، ويتنزهان معاً نزهات خلوية يقضيان فيها الضرورة ، ويتخلصان من ثقلها على الجسم والنفس والأعصاب . فينطلقان في الغداة نشيطين مقبلين على عملهما بالبشر والانشراح ، فينتجان ، وينجحان ، وتتقدم الأمة كلها إلى الأمام .

نعم !

وفرنسا هي التي خرَّت راكعة ذليلة عند أول ضربة وجهها إليها الألمان . لا لنقص معداتها واستعدادها الحربي فقط ، ولكن لأنها أمة لا كرامة لها تذود عنها . أمة غرقت في الشهوات الهابطة ، واستغرقها المتاع الحسي ، فخافت على عمائر باريس الفاخرة ومراقصها الفاجرة أن تحطمها القنابل ويدمرها القتال . فهل هذا هو الذي يدعونا إليه المثقفون ؟ أم أنهم قوم مخدوعون ، لا يفقهون ما يقولون ؟

وأمريكا التي تخايل للمستغفلين في الشرق ..

أُجري إحصاء في إحدى المدن هناك فظهر أن 38% من فتيات المدارس الثانوية حبالى! وتقل النسبة بين طالبات الجامعة لأنهن أكثر تجربة وأخبر باستخدام موانع الحمل !

فهل هذا ما يدعو إليه المثقفون ؟ أم إنهم مخدوعون ، يقولون ما لا يفقهون ؟

إن التخلص من ثقلة الجنس على الأعصاب هدف صحيح ، والإسلام يوليه أكبر عنايته ، لأنه يعلم – قبل أن يكتشف الأمريكان ذلك – أن اشتغال المحرومين بمسائل الجنس يعطلهم عن قدر من الإنتاج ، ويحبسهم في ميدان الضرورة فلا يرتفعون إلا ريثما يعودون فيهبطون . ولكن الهدف الصحيح ينبغي أن تتخذ له الوسائل الصحيحة . وتلويث المجتمع كله ، وإطلاق فتيانه وفتياته كالبهائم ينزو بعضهم على بعض ليس هو الطريق الصحيح . فإذا كان الإنتاج الأمريكي الضخم ناتجاً – كما يفهم المغفلون – من هذه الفوضى الجنسية ، فليعلموا أولاً أنه إنتاج مادي بحت ، يمكن أن يغني فيه الإنسان الآلي عما قريب عن الإنسان الحي . أما في عالم الأفكار والمبادئ فأمريكا هي التي تسترق الزنوج أبشع استرقاق عرفته البشرية في تاريخها الحديث ، وهي التي تؤيد كل قضية استعمار على ظهر الأرض . ولا يمكن الفصل بين الهبوط النفسي المتمثل في حيوانية الغريزة ، والهبوط النفسي المتمثل في الاسترقاق والاستعمار ، فكلاهما انحدار لا يمكن أن يلجأ إليه " المتحضرون " .

أما البهجة التي تشمل المجتمع حين تخرج إليه المرأة متبرجة خفيفة رشيقة ترف من حولها الأشواق وتهفو إليها الأنظار والقلوب … هذه البهجة حقيقة واقعة دون شك . فالصحاف المختلفة من الطعام أشهى بلا ريب من اللون الواحد المكرور .

ولكنا في حاجة أولاً إلى تحديد الأهداف . هل مهمتنا في الحياة أن نأخذ أكبر نصيب من البهجة والسرور بصرف النظر عن بقية الأهداف ؟ وهل أنكر أحد في القديم أو الحديث أن الشهوات لذيذة محببة إلى الناس ؟ ولماذا إذن سميت " ملذات " ؟ إن هذه البهجة ليست اكتشافاً حديثاً يعثر عليه الغرب في القرن العشرين ، فقد عرفتها اليونان من قبل وفارس وروما وغرقت فيها إلى الأذقان . ثم ماذا ؟ ثم دالت كل دولة من هؤلاء حين استغرقت في شهواتها المحرمة ، فشغلتها في نهاية الأمر عن العمل والإنتاج ، وعن النظرة الجدية إلى الحياة ، كما حدث في فرنسا ، وكما حدث في كل مكان على مدار التاريخ : سنة الله في الأرض " ولن تجد لسنة الله تبديلا " .

والغرب كان يملك القوة المادية منذ العصر الحديث – قوة العلم والتكالب على العَمل والجد في الإنتاج – فظلت هذه الشهوات تنخر فيه حتى تهاوى بعضه والباقي في الطريق . أما نحن فلا نملك القوة ، لأن الظروف الاجتماعية والسياسية التي أحاطت بنا في القرنين الأخيرين على الأقل لم تكن في صالحنا ، فماذا نفيد من الانكباب على الشهوات باسم التحضر والمدنية ، أو نفوراً من تهمة الرجعية والجمود ؟ لن يفيدنا شيئاً إلا أن يصيبنا الخمار والدوار ، فكلما انطلقنا في سبيلنا كبونا من جديد . وكل كاتب أو " مفكر حر ! " يدعو إلى التحلل من التقاليد ، مهما يكن العنوان الذي يدعو تحته ، وهو رسول من رسل الاستعمار قصد أم لم يقصد . والاستعمار يعرف هؤلاء الكتاب والمفكرين ، ويعرف مدى الخدمة التي يؤدونها له بحلِّ أخلاق الأمة ، وشغل شبابها بالبحث عن " البهجة " والسرور ، ولذلك يحسن مكافأتهم حسب نوع الخدمة التي يملكون أداءها في الصحف والكتب والإذاعة ودواوين الحكم ، وهم ماكرون أو مستغفلون !

ويقولون أنظر إلى المرأة هناك .. لقد ارتفعت من أنثى إلى امرأة ! انصقلت وصارت مخلوقاً بشرياً له دور يؤديه في المجتمع .

وقد تحدثنا عن هذا " الانصقال " في فصل الإسلام والمرأة . ونزيد هنا أن خروج المرأة للعمل وانبثاثها في المجتمع . قد درب فيها دون شك جوانب لم تكن تنال هذه الدربة وهي عاكفة على مهمة الإنتاج البشري ورعايته . ولكنا نسأل أولاً : هل أضافت هذه الدربة إلى كيان المرأة ذاته ؟ أم إنها زادت عليه في جانب لتنقص منه في جانب آخر ؟ ونسأل ثانياً : هل أضافت هذه الدربة إلى الكيان البشري كله ؟ أم إنها كذلك زادت عليه في جانب لتنقص منه في جانب آخر ؟ !

لقد صارت المرأة في الغرب " صديقة " صالحة ، تصادق الرجل ، وتتلقى مغازلاته وضروراته الجنسية ، وتشترك معه في بعض مشكلاته ، ولكنها لم تعد تستطيع أن تكون زوجة صالحة وأُمّاً صالحة . وليس يجدي في إنكار ذلك صياح المحمومين هنا والمحمومات . فهذه حقائق الأرقام تؤيد ما نقول ، فقد ارتفعت نسبة الطلاق في أمريكا إلى 4.% وهي نسبة بشعة خطيرة الدلالة . أما أوربا فقد تكون نسبة الطلاق فيها أقل . ولكن اتخاذ العشيقات والأخدان أمر شائع هناك ومعروف بين المتزوجين . ولو كانت المرأة زوجة صالحة بمعنى أنها قادرة على الاستقرار في أسرة وإعطائها كل رعايتها ، لما حدث هذا الطلاق في أمريكا أو ما يشبهه من الهروب من البيت والزوجية في أوربا . أما الأمومة فقد سبق الحديث عنها ، حين قلنا إن اشتغال المرأة بالعمل – وهو الذي يدرب المرأة الحديثة – لا يتيح لها الفرصة الزمنية ولا النفسية للاشتغال بالأمومة . فالمرأة المكدودة المنهوكة من العمل لا تجد في أعصابها طاقة للأمومة الحقة ، ولا في نفسها فسحة لاستقبال مزيد من التبعات .

أما المجموع البشري فماذا استفاد ، بصرف النظر عن البهجة والانشراح ؟ ! وهل حل مشاكل العالم هذا البضع من النساء في برلمانات العالم ووزاراته ودواوينه ، أم هذه الألوف والملايين في مصانعه ومتاجره وحاناته ومواخيره  ؟ وهل لا يكون للمرأة دور تؤديه في المجتمع إلا أن تقف بنفسها تخطب في البرلمان ، أو تمضي بنفسها قراراً من قرارات الموظفين ؟ .. وحين تربي أبناءها رجالاً ونساء تربية ذات هدف معين ، فتخرج منهم مواطنين صالحين ، وبشراً أسوياء لا تفسدهم الاضطرابات والانحرافات .. لا يكون لها دور في المجتمع ؟ لقد تأخذها النشوة وهي تتلقى التصفيق في البرلمان ، أو الإعجاب في " الصالون " أو الطريق العام . ولكن هذه النشوة الموقوتة ما قيمتها في حياة البشرية إذا كان يصحبها إخراج أجيال من البشرية بلا أمهات ؟ ! أجيال ينقصها عنصر الحب الذي يوازن شهوة الصراع في نفوس البشر ، والذي لا يمكن أن تبذره في النفوس إلا أم تمنح كيانها وعبقريتها لإنتاج البشر .

وليس بنا أن نقسو على المرأة ونحرمها متع الحياة وتحقيق كيانها الشخصي ، ولكن متى كانت الحياة تتركنا – رجالاً أو نساء – نستمتع كما نريد ، ونحقق كياننا كما نريد ؟ وحين تتملكنا الأنانية فنفضل أن نستمتع بذواتنا بغير حد ، فما الذي يحدث ؟ أليس يحدث أن تخلفنا على الأرض أجيال شقية  ، تشقى بسبب أنانيتنا نحن وانحرافنا نحن ؟ أو ليست هذه الأجيال الشقية تشمل الرجال والنساء ؟ فهل ينفع قضية المرأة كجنس دائم على الأرض أن يستمتع بعض أفراده متعة زائدة في جيل من الأجيال ، ليشقى بقية أفراده في مقتبل الأجيال ؟

وهل يعاب على الإسلام أنه ينظر إلى البشرية كلها باعتبارها سلسلة متصلة الحلقات لا تنتهي عند جيل معين ، ولا ينفصل منها جيل عن جيل ، فيعمل لما فيه نفع الأجيال كلها ، ولا تستهويه شهوة جيل بعينه ، فينساق معه على حساب بقية الأجيال ؟

إنما كان يعاب عليه لو أنه يحرم المتاع في جميع صوره وأشكاله ، ويقف في طريق النزعات الفطرية فيكبتها ويمنع إشباعها .

فهل ذلك ما يصنعه الإسلام حقاً ؟

ردنا على ذلك في الفصل القادم : " الدين .. والكبت " . (محمد قطب)

akramalsayed

مرحبا بك اخي الزائرنرجو ان ينال الموقع اعجابك الكلمة الطيبة جواز مرور إلى كل القلوب

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 108 مشاهدة
نشرت فى 14 ديسمبر 2011 بواسطة akramalsayed

ساحة النقاش

اكرم السيد بخيت (الطهطاوي)

akramalsayed
ثقافي اجتماعي ديني »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

912,352