جامعة الإبداع الأدبي والنقد المعاصر

<!--[if !mso]> <style> v\:* {behavior:url(#default#VML);} o\:* {behavior:url(#default#VML);} w\:* {behavior:url(#default#VML);} .shape {behavior:url(#default#VML);} </style> <![endif]-->

<!--<!--<!--[if gte mso 10]> <style> /* Style Definitions */ table.MsoNormalTable {mso-style-name:"Tableau Normal"; mso-tstyle-rowband-size:0; mso-tstyle-colband-size:0; mso-style-noshow:yes; mso-style-priority:99; mso-style-parent:""; mso-padding-alt:0cm 5.4pt 0cm 5.4pt; mso-para-margin-top:0cm; mso-para-margin-right:0cm; mso-para-margin-bottom:10.0pt; mso-para-margin-left:0cm; line-height:115%; mso-pagination:widow-orphan; font-size:11.0pt; font-family:"Calibri","sans-serif"; mso-ascii-font-family:Calibri; mso-ascii-theme-font:minor-latin; mso-hansi-font-family:Calibri; mso-hansi-theme-font:minor-latin; mso-fareast-language:EN-US;} </style> <![endif]-->

 

 

طعنة اِليكثرا

 

المشهد الأول:  ( مختار في فرنسا على شاطئ البحر، حكيمو المجنون يعبث بالرمال قريبا منه)

مختار: تراقصي يا أمواج البحر، تراقصي في عنفوان، تراقصي واقهري معك كل إحساس بالألم، كل شعور بالندم، وامسحي عن الذكريات عفونتها.

-  إنك أيها البحر زرقتك توحي بعنادك، كلما أتيت لأغتسل بنسيم أمواجك من ألم النفس رحلت بي إلى الجزائر، وبالذات إلى  المدية، حيث تعشش  أصوات الذاكرة، إن  الموج العاتي مراقصا رياح الخريف الباهتة يحمل معه همس الذكريات معبقة بريحة كسرة المطلوع والكسكسي الممرق ب"جاج عرب"، ريحة زيت الزيتون، ريحة الأرض المبللة بماء المطر الذي اختلطت به قطرات العرق المتصببة من جبين الفلاحين الكادحين يوم الحرث الأكبر...

آه، الجزائر

-  أنت أيها البحر لطالما كنت تقف برزخا بيني وبينها؛ لهذا أعشق وجودي قربك، غير أنك تعجز عن طرد الظلال المتراقصة في مسرح ذكرياتي على خشبة الماضي التعيس.

- حكيمو المجنون: "وين هارب ألي وراك الموت"، إنك راجع لا محالة، أيها الأوزيريسي الذي ترفض أن تلملم أجزاء ذاكرتك المشتتة، وتحزمها في حقيبتك المهترئة استعدادا للعودة، لا أحد يهرب من قدره المسطور، أيها المختار الزهرة هناك في "أولاد بوعشرة" تنتظرك، كل يوم تداعب خصلات شعرها الأسود، وتلفها حول أصابعها شوقا إلى عودتك، شوقا إلى رؤية الجراح التي خلفتها طعناتها القاتلة على جسدك السقيم، لكنك ترفض أن تسمع نداء الضمير الذي يضج داخل نفسك المتعبة، تحاول أن ترسله خلف ضجيج الموج في رحلة المد والجزر، لكني أراك هناك، أرى أثر حذاءك عندما يتوغل ببطء في طين الحومة

 - مختار(راميا بالصدف): اذهب من هنا أيها المعتوه، إلى متى تظل تلاحقني، هلا كففت عن مضايقتي،  امض في سبيلك، لولا العهود والمواثيق التي ألزمت بها نفسي لأهلكتك الساعة، وتركت أسراب البوم تنذب جثتك المتعفنة، ورميت عني الغربان  تنعي خبر رحيلك إلى العالم الآخر.

- حكيمو: مختار، مختار، أيها الروح المتعبة، أيها الجسد الذي رفض أن يلفظ آثار الماضي التعيس، سأظل ألاحقك حتى تتعلم كيف تصغي إلى أعماقك، وتنصت باحتراف إلى الصوت اللحوح الذي يخاطبك في وقار:" عد الزهرة في انتظارك" عد أيها الأوزوريس العظيم..

- مختار: ارحل من هنا(يسعل بشدة) كلامك المقرف يشبه النفخ في أبواق النعي، يشبه بكاء البوم على الأطلال الغابرة........

- حكيمو(ساخرا): اسم الزهرة يجعل أوصالك ترتعد، وأطرافك تضطرب، الإحساس بالرعب يقبض أنفاسك، يخنقك بدون رحمة، أسمع دقات قلبك تكاد تخترق صدرك؛ تخشى أن تواجه الكره الذي داخلك، تخشى أن تبحر في عينيها الحالمتين، لكنك ستعود

- مختار: ارحل يا بوم النحس، ارحل (يسعل بقوة)

- حكيمو(مبتعدا):  أيها المسكين، روحك السقيمة تفني جسدك الوهن، المرض سيهلكك، سيهلكك أيها العليل المكابر.

- مختار(يسعل بقوة): تبا لك أيها السعال اللعين،  اللعنة عليك. اذهب وتوارى في الجحيم أيها الأبله (يرمي بالأصداف والرمال إلى البحر)

المشهد الثاني: (مختار وأحمد في العراء في فرنسا)

- مختار: كيف حال الزهرة !

- أحمد: عجبا، ظننتك لا تريد أن تسمع اسمها فإذا بك تسأل عنها !

- مختار: ولماذا لا أسأل، أليست هي سبب معاناتي كلها، بل إنها عالمي الذي أعيش فيك وفلكي الذي أدور حوله،طيلة سنين الغربة والجاثوم يتخذ هيئتها ليتفنن في تعذيبي كل ليلة، لذلك فإن الرغبة في السؤال تحرقني، كلما أتى أحد من الجزائر، هرعت إليه أسأله عنها.

- أحمد:إذا كنت إذا تخفي وراء سؤالك رغبة في أن يكون الشر قد طوقها، فقد خاب ظنك، هي في أحسن أحوالها، الطاهر خالها يهتم بها، ولا ينقص شيئا عليها، آه لو ترى جمالها الباهر يا مختار، بالرغم من أنها لا تزال طفلة صغيرة إلا أنها تسيل لعاب تلك الذئاب التي تعوي في العراء، الكل يسعى أيهم يكفل مريم يا صديقي

- مختار: كان أحسن لو قلت: أيهم يسرق مريم !

- أحمد: لا علينا، الألفاظ لا قيمة لها عندما يكون المخاطب مدركا لمغزى الحديث، وأنت خير من تفهمني يا مختار.

 

- مختارّ: وكيف لا أفهمك يا رفيق دربي، كنا معا دائما وفي أحلك معاناتنا، عشنا المأساة ذاتها، وفي النهاية اخترنا الهجرة، لكنك استطعت أن تمسح عنك عفونة الماضي أما أنا فلم أستطع، الأمر أكبر من أن ينسى، والطعنة أعمق من أن تندمل......

- أحمد: ربما لأنك أرجعت كل معاناتك إلى الزهرة، أما أنا فرردتها إلى القدر، كان لك والد أجحف في حقك وحق أمك المسكينة، أما أنا فلم أعرف سوى أم بائسة جنت عليها الحياة، فلما ماتت دفنت معها كل أحقادي وآلامي...

- مختار: نعم، لا زلت أذكر جيدا خالتي ربيحة، أذكر تقاسيم وجهها المتجهم، ملامحها البائسة، وعينيها الغائرتين اللتان تلمعان حنقا ومقتا على كل الناس، وكأن الجميع قد شاركوا في صنع مأساتها وغبنها، خالتي ربيحة لم تأخذ من اسمها نصيبا، لقد عاشت فقرا وتجرعت شقاء ومهانة، زوجها دقمان الشهيد رحل عنها وهي في أوج شبابها، لتجد نفسها مسؤولة على طفل يتيم تعيله وهي التي لا يمكنها أن تعيل نفسها...

- أحمد: فصبت على هذا الطفل جام غضبها، كلما دخلت البيت أمطرتني بوابل الشتائم، أين كنت أيها العاق ، ثم تهرع تنفض جيوب سروالي المرتق وهي تقول في غضب: كان عليك أن تعمل أكثر هذا الدوارة لا تكفي لإطعام قطة، فما بلك ببطنك الشرهة" لم تمر ليلة إلا وبللت فراشي، كأني أنتقم منها في نومي بينما أعجز عن ذلك في صحوي، وعندما أستيقظ أجدها على رأسي تقول" فعلتها يا عر تربانك"

- مختار: مسكينة، ما الذي تتوقعه منها، وهي التي انهالت عليها المصائب دفعة واحدة

- أحمد: لا أنكر حينها أني كنت أكرهها كثيرا، لكني كنت أصب جام لعنتي على أبي الذي لا أعرف له قبرا إلى اليوم، كنت أقول دائما: أما كان له أن يبقى ليعتني بزوجه وولده بدل أن يحترق بنابالم فرنسا ويكون رمادا تدروه الرياح !، نحن أولى به من الوطن،  لكنه كان أنانيا ولم يفكر إلا في نفسه، لقد اختار أن يكون شهيدا في معركة زمرة التي حطمت جميع أحلامي،  26 مارس 1959 كان يوما مشئوما لم أر بعده يوما أبيض لا أنا ولا تلك البائسة ربيحة،...، لقد كانت جراح فرنسا عميقة جدا يا مختار

- مختار: نعم الجراح كانت كبيرة وكثيرة، أمي لم يكن حالها أحسن من حال خالتي ربيحة، بل ربما كانت مأساتها أكثر حدة، على الأقل والدتك لم تحترق غيرة من ابنة ضرتها التي اضطرت إلى تربيتها والعناية بها، أبي لم يرتكب  جريمة واحدة كما فعل والدك، لم يكن رحيله عنا إلى الجبال ذنبه الوحيد، لقد ترك زوجته مع ابنها الصغير بدون معيل ولا سند، المسكينة لم تشبع يوما طعاما، ولم تلف جسدها في جبة لائقة، عندما كنت أراها تشد حزامها على خصرها النحيل بقوة كنت أتساءل ببراءة الطفولة عن سبب ذلك الشد العنيف، لكني عندما كبرت عرفت أنها كانت تحاول أن تخنق جوعها، لم تكن تريد لزقزقة أمعاءها أن تعلو فيعرف من حولها بمأساتها، أرادت أن تموت واقفة(يسعل بشدة)

- أحمد: ،خالتي ربيحة لم تكن امرأة ككل النساء كانت فحلة من فحلات الجزائر، أذكر عندما دخلت ذات يوم إلى كوخكم، كانت تطبخ الكسرة، كانت كمية هائلة، لكنها كانت تقضم بين الفينة والفينة قضمات صغيرة وخاطفة، كأنها لا تملك إلا قطعة واحدة ! وعندما رأتني تغير لونها وشحبت وكأنما تقول لي بلغة عينيها"واش جابك أنت ضرك، ما سكتش جوع ولدي حتى نسكت جوعك أنت" لكني عندما اقتربت منها انتصر طبع الكرم فيها فلم أرها إلا و قد خطفت قطعة صغيرة وألقت بها إلي وهي تقول:"هذه الكسرة أنتاع عمك سي رابح، يخذها للمجاهدين، ولا كنت أعطيتك أكثر، كول يا ولدي، كول واحمد الله"

- مختار: ويا ليته ذلك الرابح عرف كيف يقدر تضحيتها، وحجم معاناتها فأحسن جزاءها، لقد ذهب إلى الجبال وتزوج فتاة في عمر ابنته، ثم عاد يحمل إلينا انتهما زهرة، تلك السمراء الشمطاء بعد أن لفظت والدتها أنفاسها الأخيرة ولقت حتفها في إحدى المعارك، أتى بها وألقاها في حجر أمي دونما استئذان وقال لها بصوت الأمر: هذه أمانة اعتني بها واحرصي على تربيتها ورعايتها.

- أحمد: وخالتي باية المسكينة لم تعترض أبدا، لقد تقبلت طوعا أن تكون زهرة ابنتها التي لم تحملها في أحشائها، حتى أنها كانت تفضلها عليك...

- مختار: لا أعرف إن كانت تفعل ذلك إرضاء لأبي أم إرضاء لضميرها، لكني أعرف جيدا ومتأكد بأن الزهرة لم تكن تستحق تلك العناية وتلك التضحية، ناكرة الجميل؛ "قالك رب جرو كلاه"(يسعل بشدة) ما إن بدأت تقف على قدميها حتى سارعت إلى خطف أبي منا، وكأنها كانت حاملة حقد أمها وغيرتها، كان حبها لأبي يفوق الوصف وبقدر حبها له كانت تكره أمي وتغار منها، كلما رأتهما معا أسرعت وأفسدت عليهما خلوتهما، أما أنا فقد صرت خارج الدائرة تماما...

- أحمد: إنها مأساة بعينها، لكن لا يمكن أن تنكر فضلها عليك، فبفضلها أصبحت مؤلفا عظيماوكاتبا مشهورا نال شرف الترشح لجائزة نوبل وأنت في هذا السن، وربما ستنالها إن كتب الله لك ذلك .لقد كانت الزهرة ملهمتك

- مختار: الكتابة كانت متنفسي، كنت أكتب على أوتار معاناتي وألمي وكنت أهرب إليها مما تفعله الزهرة بأمي وبي، أتذكر أن أول ما كتبت وأنا ابن سبعة سنوات" الزهرة، أنت سارقة أخذت أبي منا، وتركتني وأمي مكسوري  الجناح"

- أحمد: الزهرة كانت تكتب أيضا وهي في سن أصغر من سنك، لكن كتابتها كانت أكثر جرأة وأكثر نضجا أليس كذلك؟

- مختار: بلى، كانت تنافسني الإلهام أيضا، لقد كان أول ماكتبت على لوحها الخشبي:" باية أيتها المرأة المترهلة، أنت لست إلا لبنة أصعد عليها إلى المجد والازدهار، أنت الماضي وأنا الحاضر والمستقبل، تذبلين لأتفتح،أنت تحترقين لتكوني لي رمادا أنبعث منه" عندما قرأت هذا الكلام عرفت حينها أنها ليست إلا أنانية شمطاء.

- أحمد: غريبة هي هذه الزهراء الصغيرة !

- مختار: أنا أكرهها يا أحمد، (يسعل بشدة)

- أحمد: لم تكف عن السعال مذ التقينا، يبدو أنها  الانفلونزا.....

- مختار: انفلونزا  الزهراء....

- أحمد: عليك أن تذهب إلى الطبيب من فورك يا صديقي، إذا أردت يسعدني أن أصحبك؟

- مختار: أنت تعرف أن الطبيب لن يستطيع أن يقدم لي شيئا، إن نفسي السقيمة هي التي توهن جسدي وتثقله بالأمراض

- أحمد: ومع ذلك عليك أن ترى طبيبا. حسنا ما رأيك أن تعود معي إلى الجزائر، الجو هناك جميل ويمكن أن تتحسن

- مختار: هل عدت إلى السيرة ذاتها، لقد قلت لك من قبل، لا أستطيع أن أعيش في بلد توجد فيه الزهراء، قربها مني يجعلني أحترق غيضا وأذوب..،

- أحمد: إلى متى تستمر هذه الغربة، إلى متى يستمر هذا الحقد، آمل يا صديقي أن تغير قرارك يوما ما، المهم الآن أن تهتم بصحتك. أما أنا فسأعود إلى الجزائر غدا وسأنتظر منك اتصالا تطمئنني فيه عن نفسك وعن صحتك. عدني بذلك.

- مختار: أعدك

المشهد الثالث: (مختار عند الطبيب)

مختار: تخبرني ملامح وجهك المتشنجة أيها الطبيب أني في أسوء حالاتي..

-  الطبيب: يؤسفني أن أعجز عن تفنيد الشكوك التي تختلج صدرك هذه المرة، فالوضع لا يطمئن البتة !

- مختار: أفصح عما يكتنزه باطنك ويحبسه لسانك، وقل لي بصراحة، هل أزفت الآزفة؟

- الطبيب: أنت تعلم أن الأعمار بيد الله يا صديقي، لكن..

- مختار: لكن ماذا؟

- الطبيب: رئتاك؟

- مختار: مابهما؟

- الطبيب: إنهما تحتضران، لا أدري مالذي آل بهما إلى هذا الوضع المزري، كأنهما أنبوبا حديد مهترأ ، تآكله الصديد...، إن الأمر غريب ومريب

- مختار: وأين الغريب في ذلك، لقد كانتا تضخان ألما طيلة عشرون سنة أو يزيدون، فرنسا كانت أخبث فيروساتي يا سيدي، وطفولتي التعيسة التي قضيتها وأنا ألمع الأحذية لأصحاب البطون المنتفخة والروائح النتنة أفضل تفسير لوضعها

رئتاي كانتا تضخان دلا وتتنفسان مهانة، الرطوبة التي كانت تتسلل إليهما في كوخنا الصغير المعطر برائحة روث البقر والماعز، وقطرات المطر التي لم تكن تجد عناء في إيجاد منفذ عبر سقفه المهترئ لتستقر في فراشي الذي يفوح عفونة، البرودة التي كانت تستمتع بقضم أطرافي كل ليلة بينما تلك  المدللة المسماة زهرة تنعم بالدفء في حجر أمي غير آبهة بما أعانيه...

الطبيب: ياه، لقد عاشت رئتاك ثورة إذا، لا عجب أن أراهما في هذه الحال المزرية..

- مختار:  رئتاي يا صاحب الرداء الأبيض تسجيل حالة أغفلها التاريخ !

- الطبيب: على كل حال لا يجب أن تفقد الأمل، ما جعل الله من داء إلا وجعل  له دواء،حسنا سأجرب أن أكتب لك دواء قد يخفف من عوارض المرض

(يطيل التفكير وهو يهيم بكتابة الوصفة)

-  مختار:  لا تطل التفكير فيما لا وجود له، يداك ترتعشان لا تجدان ما تنفقان فلا تحملهما ما لا طاقة لهما به، لقد فهمت لا يوجد عندك علاج لحالتي، أو أن الأوان قد فات، أما إذا كان عن المسكنات ومضادات الالتهاب فعندي منها في البيت مايكفي لفتح صيدلية صغيرة..

- الطبيب: لا تستعجل الحكم يا مختار، لقد كنت أفكر في شيء ما قد يبدو لك في الوهلة الأولى في معرض التهكم، غير أني جاد فيما أقول بل لم أكن أكثر جدية من الآن يا مختار..

- مختار: ماذا عندك، هات لأرى

- الطبيب: قبل عدة سنوات صادفت حالة شبيهة بحالتك، كان ذلك المريض يائس الرجاء  بعد أن أكد له الأطباء أن حالته مستعصية وأن المرض متقدم، لذلك  فإن قدومه عندي لم يكن إلا للتخفيف من ألم الموت، هكذا وصفه حالته يومها عندما قال لي: "أيخها الطبيب أعلم أني أتلاشى شيئا فشيئا، وأن الأمر قد انتهى لكني أريد دواء يخفف عني ألم الموت وأرجو أن أجده فإني أجد من الألم ما يجعلني أموت كل يوم ألف مرة"

كأن كلامه الآن يتردد على مسامعي لم أنسه يوما لفرط تأثري بما بلغه من اليأس والوهن، ولم يكن لي حيلة أساعده بها، رفعت قلمي وأخذت يداي تجردان قرطاسا من الأدوية، كأنني أردت بتلك الكمية أن أداوي بها جراحه و آلامه كلها وألمي وألم المرضى جميعا، كنت أفعل ذلك وأنا ناقم على المرض الذي كان السبب في حالته،

مختار: وماذا حدث بعدها؟

- الطبيب: هه نسيت أن أخبرك أن الرجل جزائري، وقد كان له أهل مقيمون هناك، فلما سمعوا بحالته أتوا واصطحبوه معهم، أرادوه أن يموت بين أهله، خير  من أن يموت وحيدا في الغربة، فعاد معهم، وانقطعت عني أخباره، ولكن صورته وهو يصارع الموت لم تفارق ذاكرتي يوما، وكنت قد حسبته أنه قد سلم الأمانة إلى بارئها وارتاح، ولكن..

- مختار: ولكن ماذا؟

- الطبيب: لن تصدق ما ستسمع، لكنها الحقيقة، بعد خمس سنوات من تلك الحادثة، دخل علي رجل يوما بكامل صحته وعافيته، كانت ابتسامته لا تفارق وجهه، كأنه أراد أن يقول لي بابتسامته كلاما مالم يكن قادرا على التفوه به مباشرة، استغربت وسارعت إلى سؤاله، عن سبب مجيئه وإن كان يعرفني، فأنا طبيب وقد علمت من الوهلة الأولى أنه ليس مريضا،

وقد كانت الصدمة كبيرة عندما أخبرني عن نفسه وعن حكايته وكيف شفي من مرضه ، ولو لم أعاين الحالة بنفسي لما صدقت أنه كان مريضا يوما ما. ومن ذلك اليوم وأنا أطلق  على هذا البلد" بلد المعجزاتّ"

- مختار: وكيف شفي من مرضه؟ هل يمكنني أن أعرف..

- الطبيب: طبعا، مما أخبرني أن في أعالي جبال الونشريس، عشبة فيها شفاء لهذا النوع من الأمراض..

- مختار: إذا،

- الطبيب: القرار لك في النهاية

- مختار: تريدني أن أعود إلى الجزائر، هل تمزح

- الطبيب: مهنتي لا تحتمل المزاح في مواقف كهذه، لكن إذا كان في عودتك أمل للشفاء فيجب أن تعود.

- مختار: المشكلة ليست في العودة إلى الجزائر، المشكلة أني لن أشفى،جراح نفسي التي لم تندمل يوما سترهقني، ستزيد من معاناتي، وتسرع من نهايتي.

- الطبيب: أنا لا أعرف شيئا عن معاناة نفسك يا مختار، ولا عن جراحها، لكني أنصحك أن تحاول، إذا بقيت هنا ستتألم، ستتألم كثيرا يا صديقي !

مختار: على كل حال سوف أفكر في الأمر، أعدك بذلك. أعدك.....، لكن رجوعي قد لا يكون من أجل العلاج فقط لأن هناك أمور كثيرة تدور في رأسي، ومسائل عالقة تنتظر أن أحلها قبل رحيلي.....

المشهد الرابع: (الزهرة والطاهر في العراء أمام شاطئ البحر ليلا)

الطاهر:يال هذا الصفاء، السماء صافية هذه الليلة، لكن هذا السكون الذي يمنح الليل وقارا ينبئ باقتراب أمر ما.

النجوم المتلألئة كأنها عيون وحوش مفترسة تلمع في ظلام وهي تراقب فريستها قبل أن تنقض عليها، أحيانا أتخيل أنها ترقب القدر يتم نسج الأحداث المسطرة بدقة دون أن يغفل منها شيئا.

- الزهرة: عمي الطاهر، هذا البحر الذي يقف في عنفوان ينشر هيبته، يخفي خلفه أخي مختار، صحيح

- الطاهر: نعم، خلف هذه الزرقة الممتدة يوجد أخوك يا صغيرتي..

- الزهرة: خالي لماذا أخي مختار اختار الغربة، لماذا يقاطعني كل هذا الوقت، يكرهني أليس كذلك؟

- الطاهر: مختار لم يتعلم كيف يحبك يا زهرة، الظروف التي عاش فيها الأحداث التي شهدها،...جعلته يغلق قلبه أمام كل إحساس نبيل !

- الزهرة: أويتعلم الإنسان كيف يحب وكيف يكره يا خالي !

- الطاهر: طبعا يا صغيرتي، كما يعلم العصفور فرخه الطيران، وكما يعلم الأسد شبله الوثوب والزمجرة، يعلم الوالدان الطفل كيف يحب وكيف يكره الناس الذين من حوله

- الزهرة(منتفضة) يا رب السماء، رحماك ربي رحماك !

- الطاهر: ماذا بك يا زهرة؟

- الزهرة: أشم رائحة غريبة تكاد تقطع أنفاسي ...

- الطاهر: لكني لا أشم شيئا، ربما جعلك ذكر مختار تتخيلين أمورا..

- الزهرة: لا يا خالي أنا أشمها فعلا ويمكنني وصفها لك حتى، إنها تشتد كلما كان المد قويا، تشبه ريحة الحقد حين يحتقن بالقلب حتى يتعفن، وريحة الانتقام التي تشبه ريحة الجيف. إن هذا السكون يا خالي يكاد يشهد على أسراب الشياطين وهي تحمل القارورات المعبئة بالأحقاد فتكسر عنفوان هذه الزرقة الممتدة لتسقي به الأفواه الفاغرة التي  تقبع خلفها، كأني أسمع حسيسها وقطرات لعابها المتساقطة  تلك الشياطين وهي تتلذذ باشعال نار الفتنة ، حتى سكون الليل يا خالي لم يستطع إخفاء أصواتها وهي تسابق الريح.

- الطاهر: رحماك ربي رحماك !، هذا الكلام يجعل صدري يقشعر، بل إن حواسي كلها وقفت خاشعة لسماعه، يبدو أن فجر الغد سيحمل لنا الكثير من المفاجآت....

المشهد الخامس(مختار في المطار، الطاهر  والزهرة في استقباله)

الطاهر: أهلا بعودتك يا مختار، لا أعلم أي طارئ أعادك إلينا، لكني سعيد بعودتك، لقد مرت عشرون عاما على آخر لقاء...

-  مختار: صحيح، عشرون سنة كأنها الدهر بأكمله، في الغربة عقارب الساعة تتعثر في دورتها...

- الطاهر: لا أحد جبرك على تحمل الغربة، أنت اخترت ذلك، عندما اتصل بي صديقك أحمد فجرا وأخبرني أنّ طائرتك ستحط بعد ساعتين في مطار هواري بومدين لم أصدق ما سمعت، آخر مرة رأيتك فيها كانت بعد عشرين سنة من الاستقلال، أزمعت يومها ألا تعود أبدا إلى الجزائر، وحزمت حقائب الخيبة واخترت الهجرة من جديد..

- مختار: حسنا لنقل أنها الأقدار، لقد أخبرني ذلك المعتوه حكيمو أني سأعود لكني لم أصدق، لكن يبدو أنه قد سطر لي أن أموت هنا، المرض أجبرني على العودة

- الطاهر: يقال خذ الحكمة من أفواه المجانين، وعلى ذكر حكيمو لقد عاد إلى هنا قبل خمسة أشهر، لقد عاد عندما سمع بوفاة زوجته رقية.

- مختار: آمل أن يكون الموت قد أراحها مما كانت فيه، أن تعيش خمسة عشرة سنة على سرير، لا تحرك فيه إلا عينيك وأطراف أصابعك ليس بالأمر الهين أبدا

- الطاهر: الصدمة كانت قوية جدا أن تفقد ولدين في اليوم نفسه وبتلك الطريقة البشعة ......، لقد شغلني الحديث عن حكيمو عن سؤالك، طهور إن شاء  الله عسى أن يكون مرضا غير مزمن

- مختار: اطمئن: هو ليس مزمنا لأنه مميت !

-  الطاهر: استغفر الله، الأعمار بيد الله ولكل داء دواء

- مختار: دعنا من هذا الحديث الآن، لم تقل كيف فوت أحمد فرصة استقبالي

- الطاهر: لقد اعتذر بشدة، وقال بأن طارئا منعه من الحضور، وطلب مني أن أبلغك سلامه الحار، وأنه سيأتي إليك في أقرب فرصة...،

margin-top: 0cm; margin-right: 72.0pt; margin-bottom: 10.0pt; margin-left: 0cm; mso-add-space: auto; text-align: right; line-height: 150%;

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 71 مشاهدة
نشرت فى 4 سبتمبر 2017 بواسطة akilameradji

أَبو فروة الظريف

akilameradji
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

20,468