<!--
<!--<!--<!--
المَحْرُومُــــون
كُنْتُ فِي صِغرِي أَسْمَعُ عَنِ المَحْرُومِين أحْياناً، وأَرَاهُم أَحْيَاناً أُخْرَى، أنَاسٌ فَعلَ بِهِمِ الفقْرُ ما فعل؛ يَشْتَهُونَ الطَّيِّب مِن الأَكْلِ فَلَا يَجِدُونَهُ، إِلّا شَيئاً يَسِيراً مِمَّا يسُدُّ الرَّمقَ، ويُحِبُّونَ المَلْبَسَ الأَنِيقَ فَلَا يَلْبَسُونَهُ إِلَّا أَسْمَالاً بَالِيَة لَا تَكَادُ تَقِي أجسادَهُمُ النَّحِيفَةَ مِنَ الحَرِّ، أو تَدْفَعُ عَنْهَا البَرْدَ، يَتَمَنَّوْنَ البيْتَ الوَاسِعَ الدَّافِئَ فَلا يحْصُلُون إِلَّا عَلَى جُدْرانٍ هارِيَةٍ تَسْتُرُ عَوْرَةَ اللَّيْلِ وعَوَارِضَ النَّهَارِ.... !
ورَأَيْتُ بِالمُقَابِلِ وسَمِعْتُ عَنْ أَغْنِيَاءَ بلَغُوا مِنَ المُتَعِ حَدَّ التَّرَفِ، ومِنَ الطَّيّبَاتِ حَدَّ الاِسْرَافِ؛ يَسْكُنُونَ صُرُوحاً و قُصُوراً، ويَرْكبُونَ مَراكِبَ فاخِرَة، وَيَأْكُلُونَ ويَلِبَسُون مَا تلذُ الأعْيُنُ وتَشْتَهِي الأنْفُسُ؛ ولِأَنِّي كُنْتُ أُحْسَبُ هَذَا أَمْراً طَبِيعِيّاً أُعَزِّي أُولَئِكَ بِالفَرَجْ، وأُحَذِّرُ هَؤُلَاءِ مِنْ زَوالِ النِّعْمَة؛ سُنَّةُ اللَّهِ فِي الكَوْنِ أَنْ يَرْفَع بَعْضَنَا عَلَى بَعْضٍ درَجَات. لَكِنْ مَاذَا لو انْقَلب الأَمْرُ إِلَى ضِدِّهِ وأَصْبَحَ الأَغْنِيَاءُ هُمُ المحْرُومُون؟
لَقَدْ كَانَ هَذَا الافْتِرَاضِ أمْراً مُسْتَبْعَداً بِالنِّسْبَةِ إِلَيّ، ولَمْ أَشُكَّ يَوماً بِأَنَّهُ افْتِرَاضٌ بَاطِل، لَا يَمُتُّ إِلَى الوَاقِعِ بِصِلَة، وبَقَيْتُ علَى قَنَاعَتِي حتَّى جَاءَ ذلِكَ اليَوْمِ الذِّي اِلْتَقَيْتُ فِيهِ بِإِحْدى قَرِيبَاتِي التِّي كَانَتْ فِي سِنِّ العِشْرِينَ تَقْرِيباً فَأَخَذْنَا نَتَبَادَلُ الحَدِيثَ نَتَنَقَّلُ مِنْ مَوْضُوعٍ إِلَى آخرَ ومِنْ حًادِثةٍ إِلَى أُخْرَى حَتّى ساقَنَا الكَلَام إِلَى سْياقٍ طَرَحْنَا فِيهِ بَعْض الأَفْكَار التِّي تَخُصُّ شَخْصِيَة المَرْأَة وعَالَمَهَا ، فَأَخَذَتْ تُحدِّثُنِي أَنَّ قِيمةَ المَرْءِ تكْمُنُ فِي مَا حَصَّلَهُ مِن رَحَلاتٍ مُمْتِعَةِ وأَشْياءَ بَاهِضَةٍ وأَنَّ العيْشَ والحَيَاةَ مُخْتَلِفانْ؛ حَيْثُ يُقَاسُ العَيْشُ بِكُلِّ مَا هُو مِنْ الضَّرُورِيَاتْ التِّي تَحْفَظُ النَّفْسَ، فِي حِين تُقَاسُ الحَيَاةُ بِمَا أَدْرَكْنَا مِنْ الكَمَالِيَات، مِن مُتَعٍ ومُوضَاتٍ، فَقُلْتُ لَهَا مِنْ بَابِ السُّؤَال وأَيْنَ التَّحَدِّي والإِرَادَة، وأَيْنَ صُنْعُ الذّاتِ مِنْ قَامُوسِ حَيَاتِكَ؟
فَتَفَاجَأتُ بِتَغَيُّرِ لَونِهَا ثُمَّ رَدَّتْ وَقَدْ عَبَسَتِ المَلَامِحُ وتَشَنَّجَتِ العَضَلَاتُ "مَا الإِرَادَةُ ومَا التَّحَدِّي؟"، قَالتْ ذَلِكَ فِي سِيَاقٍ اسْتِفْهَامِي وكَأَنَّني ذَكَرْتُ لَهَا مُتَتَاليَة، فَعَرَفْتُ حِينَهَا أَنَّهَا مَغْبُونَةٌ فِي صِحَتِهَا ووَقْتِهَا وفِي شَبَابِهَا الذِي تَسْرِقُهُ الأَيَّامُ مِنْهَا وهِيَ تَعُدُّ المَارْكَاتْ وتَلْهَثُ خَلْفَ صَيْحَاتِ المُوضَا بِحُجَّةِ أَنَّهَا تَعِيشُ حَيَاتَهَا فِيهِم ، فَلَمْ أَعُدْ أَدْرِي هَلْ أَنْذُبُ حَالِي أَمْ أَرْثِي هَذِهِ الزَّهرَة التِّي لَمْ تُدْرِكْ ذُبُولَهَا إِلّا فِي زَوْجٍ حَبَاهَا اللَّهُ بِهِ وأَوْلَادٌ فِي طَرِيقِهِمْ إِلَى حَيَاةٍ وقَدْ أُورِثُوا الحِرْمَانَ والغُبْن!
لَكِنَّ هَذَا المَوْقِفَ عَلَى صُعُوبَتِهِ كَانَ صَفْعةً قَوِيَة غَيَّرَتْ نَظْرَتِي إِلَى المَحْرُومِين، وتَبدَّدَتْ قَنَاعَتِي حَوْلَهُمْ؛ لَقَدْ عَرَفْتُ أَنَّ لِكُلِّ أَمْرٍ صُوَرٌ ووَجُوه. كَمَا أَيْقَنْتُ أنَّ الحِرْمانَ أَمْرَان: حِرْمَانٌ مادِي وآخَرُ مَعْنَوِي: أَمّا الأَوَّلُ فَهُوَ الذِي يُعَانِيهِ الفَقِيرُ مِنْ نقْصٍ فِي الأَمْوَالِ والأنْفُسِ والثَّمَرَاتِ وقَدْ يُخَلِّفُهُ صَلَابَةً وإِرَادَة تَصْنَعُ المُعْجِزَات، أَمَّا الثّانِي فَهُوَ مَا يَعِيشُهُ الغَنِيُّ مِنْ تَرَف، فخَلَّفَهُ ذَلِكَ بُروداً فِي المشَاعِرِ وفُتُوراً فِي لذَةٍ مِنْ نِعْمَةٍ، وضُعْفاً فِي النَّفْسِ مِنْ حَيْثُ الإِرَادَةِ، والمُثَابَرَةِ والتَّحَدِّي وهُوَ أَشَدُّ وأَنْكَى .
ولو عُدْنَا إِلَى السَّعَادَةِ المرتبطة بأمورمادية محسوسة لَوَجَدْنَا أَنَّهَا شُعُورٌ أَوِ انْفِعَالٌ إِيجَابِيٌّ يُصَاحِبُ عَادَةً حُضُورَ الغايَة بعْدَ الغِيَابِ الطَّوِيلْ. والغاية هِي تِلْكَ الرَّغْبَة الكَامِنَة فِي النَّفْسِ فِي تَحْصِيلْ أَوْ تَحْقِيقِ شَيْءٍ مَا بَعْدَ جُهْدْ أَوِ انْتِظَارْ، ومَتَى تَوَفَّرتْ لَمْ تَعُدْ غَايَة بَلْ دَخلَتْ مَصَافَ المألوف، وبِالتَّالِي تَفْقِدُ تَأْثِيرَهَا على النّفْسِ، وهَذَا مَا يَحْدُثُ تَمَاماً مَعَ الأغْنِيَاءِ ، وقَدْ نَجدُ فِي دِيننا الحَنِيف صُورَة لإِحْيَاء هَذَا الشُّعُور وهُوَ شَهْرُ رَمَضانْ الكَرِيم عِنْدَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ:<<للصَّائِمِ فَرْحَتَانْ، فَرْحَةٌ عِنْ فِطْرِهِ ،وفَرْحَةٌ عِنْدَ لِقَاءِ رَبِّهِ>>(حديث شريف). وحَتَّى يَتَبَيَّنَ لَنَا صِدْقُ القَصْدِ نَضْرِبُ مِنْ واقِعِ هَؤُلَاءِ مَثَلاً حَقّاً الفقِيرُ مِن النَّاسِ مُعْتَادٌ عَلى هَذَا الشُّعُورِ نَفْسِهِ ، ولو نَضْرِبُ مَثَلاً مَا يَحْدُثُ فِي المُنَاسَبَاتِ لرأيْنا كَيْفَ يَبِيتُ هَؤُلاءِ لَيَالِيَ وهُمْ ينْتَظِرُون ويُخَطِّطُون ويُحَّضِّرُونَ لِهَذِهِ الأَيَّامِ المُمَيَّزة، والفَرْحَةُ شَدِيدَةٌ تَغْمُرُهُم خَاصَّةً الأطْفَال.
أُولَئِكَ الفُقَرَاءُ الذِّينَ لَمْ يَتَنَاوَلُوا لَحْماً مُنْذُ مُنَاسَبَةِ مُشَابهَةٍ خَلَتْ يَسْعَدُونَ بِأَكْلِهَا ويَتَذوَّقُونَ فِيهَا طُعْمَ المُتْعَة واللَّذَة المُنْتَظَرة، والرَّغْبَة المُحقَّقَة، بَيْنَمَا يَجْتَرُّ الغَنِيُ لَذَةً تَعَوَّدَ عَلَيْهَا حَتَّى فَقَدَتْ قِيمَة المُتْعَة.
وهُنَاكَ ضَرْبٌ آخَرٌ مِنْ حِرْمَانِ الأَغْنِيَاءِ وهُوَ يَكْشِفُ بِحَقٍّ مَدَى غُبْنِهِمْ وفَقْرِهِمْ، أُنَاسٌ لَا يَعْرِفُونَ لِلنَّجَاحِ طُعْماً ولَا للإِرَادَة أَوالتَّحَدّي مَعْنىً، أَقْوَامٌ اِعْتَادُوا الرَّخَاءَ فِي مُعْظَمِ أُمُورِهِمْ، ويَعْظُمُ القَوْلُ فِي ذَلِكَ عَلَى أُولَئِكَ الذِينَ وَرَثُوا الثَّرْوَة ولَمْ يَصْنَعُوهَا. حَتَّى مَاتَتْ نُفُوسُهُم وذَبُلُتْ، فَلَمْ تَعُدْ تَعْرِفُ لِنَفْسِهَا قَدْرَا.
يَنْهَضُ الفَلَاحُ الكَادِحُ بَاكِراً فَيَحْرُثُ ويَبْدُرُ عَلَى أَمَلِ أَنْ يُدْرِكَ ذَلِكَ اليَوْم الذِي يَحْصُدُ فِيهَا مَا زرَعَه، ويَومَ إِذْ يَأْتِي مَوْسِمُ الحَصْدْ يَتَهَلّلُ وَجْهُهُ بِشْراً بِنِعْمَةِ اللَّهِ، حَامِداً مُكَبِّراً ، ويَنْشَأُ الفَتَى فَقِيراً مُحْتَاجً يَمْقُتُ الفَقْرَ و يَبْغَضُ الْحَاجَة، فَيُشَمِّرُ سَاعِدَهُ ويَدرُسُ ويُثَابِرُ حَتَّى يجيء يَوْمٌ يُصْبِحُ فِيهِ فَرْداً نَاجحاً اِسْتَطَاعَ أَنْ يَقْهَرَ شَبَحَ الفَقْرَ الذِي هُوَ قِطْعَةٌ مِنْ جَهَنَّم. ويَوْمَذِذٍ يَشْعُرُ بِنَشْوَةِ النَّجَاحِ وغِبْطَةِ الاِنْتِصَارْ. بَيْنَمَا يَعْكِفُ الأَغْنِيَاءُ علَى الإِنْفاقِ يَبْحَثُونَ فِيهِ عَنْ تَعْوِيضٍ لِنُقْصِهِمْ فَلَا يَجِدُونَه،فَلَيْسَ يُعْرَفُ لِلرَّبِيعِ قَدْراً إِلّا بَعْدَ شِتَاءٍ قَارِس. إِنَّ الذِينَ جَدُّوا واجْتَهَدُوا ثُمَّ حَصدُوا جزَاءَ جُهْدِهِمْ فاسْتَبْشَرُوا أُولَئِكَ يَعْرِفُونَ حقَّ المَعْرِفَة أَنَّ الأَغْنِياءَ هُمُ المَحْرُومِينَ حَقّا!