كتب : مي يوسف
اشتهرت بصوتها أولاً، ثم بذكائها. لها حضورٌ على المسرح خاص جداً اقترن بها، ولها مدمنون ولدوا على مرّ عقود الرحيل الأربعة تقريباً، وكأن الرحيل لا يعني شيئاً. يوم صنعوا مسلسلاً عن قصة حياتها (1999)، كانت أم كلثوم مقصد العيون كلها، وخلت شوارع مصر المحروسة من ناسها ليشاهدوا قصةً كانوا يُفرغون الشوارع ذاتها لسماعها، يوم كانت تغنّيها هي، في الخميس الأول من كل شهر. وهي الشوارع ذاتها التي فاضت بالناس لتصنع واحدة من أضخم جنائز مصر، في مثل هذا اليوم، في العام 1975، يوم ماتت أم كلثوم.
الرداء الأضعف
"كانت قريةً متواضعة. أعلى مبانيها لم يتخطّ الثلاثة طوابق. أكبر استعراض للثروة فيها هو عربة العمدة التي يجرّها حصان واحد! وكان هناك طريقٌ واحد في القرية، يتسع كفاية لعبور.. عربة العمدة. غنيّت في القرى المحيطة بنا، وجميعها كانت صغيرة. كنت أظن أن مدينة السنبلاوين هي أكبر مدينة في العالم، وكنت أنصت إلى الأخبار التي ترد منها وعنها تماماً كما ينصتون اليوم لأخبار نيويورك، لندن، أو باريس". القرية هي طماي الزهايرة، والأقوال نقلتها عن أم كلثوم فيرجينيا لويز دانييلسن (جامعة إيلانوي) التي أرّخت لحياتها، مؤكدة أن تاريخ ولادة سيدة الغناء العربي حلّ في 4 أيار / مايو 1904.
لقد ولدت كما يولد الفقراء، بلا لقبٍ يميّزها، ولا ملْكٍ يؤمّنها. كأنها ولدت بالرداء الأضعف، والصوت الأقوى. ولكنها ولدت ضمن الأكثرية أيضاً. كانت ضمن شبكة اجتماعية واسعة، لها ترابطٌ ولها عمقٌ. وهكذا، بدأت تتشبث بطرف الخيط، خطوةً خطوة، ولم يبدُ من مسيرتها إنها أسرفت في انتظار الزمن. إبنة مؤذن مسجد طماي، ابراهيم البلتاجي، هي حافظةٌ للقرآن أسر والدها صوتها وإصرارها، فقرّر وهي في الثانية عشرة من عمرها أن يضعها في رداء صبيّ لـ"تتحرّر" من ظرفٍ يعيقها، فتقف متنكرةً وتنشد الدين علانيةً في حلقات القرى. وهي إذ خرجت من زيّ الصبي، تراها امتلكت المعنى من التجربة، وعرفت أن موقعها كفتاة، كإمرأة، هو نقطة ضعفٍ اجتماعية، عليها أن تجد لها حلّاً. ووجدته: لديها الصوت، امتلكت الثقافة، وأحاطت نفسها بالرجال المثقفين المبدعين الجميلين الذين يخضعون في آن لسطوة صوتها وشخصيتها، تزيدهما ثقافة كل حين فلا يقووا عليها. لم يكن لمطربةٍ عربية محيطٌ من الرجال "الأقوياء" بقدر ما دار في فلك أم كلثوم منهم. رجلٌ بقيمة زكريا أحمد، وكان في مرحلةٍ أستاذها، "تمرّد" مرةً عليها، فأدخلته قاعة المحكمة، قاضته. رجلٌ كمحمد عبد الوهاب ممتلئ بنفسه ما خضع لها، فنافسته. وضعت اسمها في مواجهة اسمه في كل انتخابات موسيقية. وهكذا، ما عادت تخشى زيّاً يُسقط عليها ليسمح لها بالظهور هنا، أو هناك. هي باسمها وبفساتينها، هنا وهناك.
وأم كلثوم حفظت القرآن. جوّدته، وغنّت الأناشيد. وتلك شبكةٌ ثقافية واجتماعية صلبة استندت إليها أولاً، أتقنت الاستفادة منها أيضاً. فعبر تلك الحلقات الإنشادية، التقت بالشيخ أبو العلا الذي قاد صوتها نحو الموسيقى والشعر، نحو ثقافةٍ تعينه على امتلاك النفوس. ولم تحتج أكثر من ثلاث سنوات لتنتقل بعدها من طماي إلى القاهرة، عاصمة عالمنا آنذاك، بقصور باشاواتها وحيواتهم العالمية. وكان العام 1923، أي أنها كانت في التاسعة عشرة من عمرها. كانت تتقدم بسرعة، وبثقة. وقوامها يظهر صلابة واستقراراً يعرفهما المرء في قوام الفلاحين عادةً. متينة أم كلثوم، في نواحيها كافة. وعندما يُجرح صوتها بعد تدفّقٍ خارق، تضع البحّة في كل قلبٍ، ما يُسمّى طرباً، إذ تقوى على امتلاك روح السامع لثقةٍ يمنحها إياها وتبرهن هي جدواها.
السيدة الأولى
وقفت أم كلثوم أمام الملك وغنّت له، كما اقتضت الحال حينها. ولكن، عندما وجدت نفسها أمام ثورة تحكي عن الفقير صاحب الحق، وعن الوطن الحرّ من الاستعمار واسم العائلة، لم تتردد بأن تجعل من نفسها السيدة الأولى لهذا العهد، وكانتها.. حتى صارت هي النشيد الوطني يوم احتدّ النشيد عسكرياً، وقال: "والله زمان يا سلاحي". ولربما يجد المرء تجسيداً لمعادلة "الشعب والجيش" المصرية يوم وقف الضابط ابن الفلّاح جمال عبد الناصر من بين الضبّاط وقال "أنا الوطن"، فوجد المطربة أم كلثوم تقف قبالته، تمنحه السلطة بعلو الحسّ وبكامل الطرب، صادحةً بعاطفةٍ معتزّةٍ بذاتها: "أنا الشعب". ولم تأت صيحتها هذه من عدمٍ، ولا اتجهت نحو العدم. فأم كلثوم التي التقطت يداً مدّها لها عبد الناصر، رأت فيه قريناً، هو رجل هذه القصة وهي سيّدتها، في أقصى ما أتاحه توزيع ذاك الزمن من مساواة يبقى جوهرها رمزيّاً طبعاً، لا فعلياً. ونحن ما زلنا في جوار الزمن ذاته.
حكي الكثير عن كونها سيدة أولى في عهد عبد الناصر، لما امتلكته من حظوة وسطوة، ولما أبدته من مبادرة والتزام. ولم تخلُ العلاقة بينهما من رومانسية غير عاطفية، أوضحتها هي بغنائها اسمه مراراً، وأوضحها هو أولاً يوم استحضر ذكريات حصاره في الفلّوجة في فلسطين العام 1948 وقال إنها رافقت حصاره وسدّدت بصوتها صمود الضبّاط. وبعدما صار الريّس الأشهر، بقي واحداً من جمهورها، وبالتالي واحداً من ناس ذاك البلد، رئيساً عسكرياً يعبّر عن ميلٍ خاص لـ"دارت الأيام"، فتغنيها هي له حيّاً، وتبكيها غناءً في تسجيلٍ نادر يوم خرجت للمرة الأولى بعد رحيله، وغنّت: "دارت الأيام".
وإذا عرف الناس لها زيجات وإشاعات، فلم ينتج عنها أي تغيير في الطباع. بقيت مجرّدة من سياق الثنائيّ المكتمل، الثنائي الناضج في صيغة سائدة مجتمعياً. وإذا اشتهر الغرام من طرفٍ واحد الذي ربط بعض العظماء بها، فلم يجعلها ذلك تتردّد في غناء الهجر وصعوبة الحب الذي أنزلتهما بهم، بصوتها وهم كتبة الكلام، اللحن. مهما تتبّع المرء أخبارها وتعمّق، عندما يسمع اسم أم كلثوم، يراها بحدود جسمها، لباسها، نظارتها، منديلها، "بروش" القمر على صدرها، كأنها معلّقة. وفي مقابل ذلك تماماً، هي فيضانٌ جارفٌ آسرٌ من الرومنسية ما أن تطأ قدماها المسرح، تمنح أدقّ تفاصيل الحبّ كامل صوتها، وتملأنا ونفيض. تطلق الصوت، تبرهن الإتقان في حرفة الغناء، تبرهن الحريّة في حديث الذات، وتبقي عيناً دقيقة على جمهورها، يلحق بها وهي تمدّه بأسباب الجنون السماعي، تتحكّم به بدلال المتمكّنين. فأم كلثوم غنت الحب حرّاً. أغنيتها تأتي دائماً من منطقة داخلية في الإنسان، وليس من سطحه. تتبناها، تتملّكها، وتجتاح المنصت إليها في منطقته الداخلية. تصبح جزءاً من مناجاته الذاتية، حواره الداخلي. هناك، في هذه المنطقة العميقة، يتربع عرش أم كلثوم.
لقد سقطت قوة حضورها من المقارنات، ويبدو أنها ساحبةً في العيش بكامل سطوتها إلى ما بعدنا، مثلما فعلت مع أجيالٍ كثيرة واكبتها ورحلت. تعيش أطول من عمر سامعيها، وتنقل بصوتها وأغانيها وتفاعلهم معها بطاقات منهم وعنهم، طوابع بريدية. أم كلثوم هي موضعٌ صلبٌ من الثقافة العربية.
كم لطيفٌ أن ينظر المرء إلى إمرأةٍ بهذه القوّة، ويبدي برفقتها ولها كل هذه الأحاسيس الرقيقة.