العمارة في الحضارة الإسلامية والتراث والمهندس المعماري ..
بقلم المهندس / مصطفي عبود
تقدمت العمارة كعلم ومهنة في الحضارة الإسلامية، والناظر إلى تراث العمارة الإسلامية ،سوف يدهشنا بناؤها وهندستها، وهو دليل على أن وراء هذه العمارة علما وخبرة ومعرفة تراكمية، تستوجب علينا التأمل والإدراك.
مَن هنا لا بد أن ننطلق من تعريف العلماء المسلمون لعلم الهندسة، فهي عندهم: «علم تعرف به أحوال المقادير ولواحقها وأوضاع بعضها عند بعض، ونسبها وخواص أشكالها، والطرق إلى ما عمل ما سبيله أن يعمل بها، واستخراجه بالبراهين اليقينية. وموضوعه المقادير المطلقة، أعني الجسم التعليمي والسطح والخط ولواحقها من الزاوية والنقطة والشكل» .
كانت مخيلة العربي مخيلة تعبيرية قوية، فاللغة عنده سلاح يعبر به بدقة عن الأشياء، لذا فإن كلمة خطة التي استخدمها المقريزي بصيغة الجمع في عنوان كتابه «المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار» ، إنما تعبر عن عدد من الأبعاد، فلننظر إليها لغويا: «اختط يختط اختطاطا، اختط خطة لنفسه، اتخذ أرضا لم تكن لغيره، وجعل حولها خطوطا لتكون معلمة ومفروزة للبناء فيها. واختط البلدة رسم بناؤها من أول الأمر، وبين موقع أقسامها بالخطوط» .
هذا يعني إدراكهم لفكرة التخطيط، سواء على صعيد تقسيم الأرض إلى خطط للبناء، أو المخطط العام للبناء، وهو ما يدفعنا إلى أن نستحضر قدرة هؤلاء على التخطيط الحضري للمدن والأبعاد ووضع قواعد لهذا التخطيط؛ يكون فيها المجتمع فاعلا بقوة مع السلطة للحفاظ على المخطط الحضري، لتتجاوز الحضارة الإسلامية في هذا المضمار كل الحضارات الأخرى.
يصف عبداللطيف البغدادي مبان الفسطاط في مصر ودقتها، كاشفا عن تقدم الهندسة المعمارية على النحو التالي: «وأما أبنيتهم، ففيها هندسة بارعة وترتيب في الغاية، ويجعلون منازلهم تلقاء الشمال والرياح الطيبة، وأسواقهم وشوارعهم واسعة، وأبنيتهم شاهقة، ويبنون بالحجر النحيت والطوب الأحمر، وهو الآجر، في شكل طوبهم على نصف طوب العراق، ويحكمون قفوات المراحيض، حتى إنه تخرب الدار والقناة قائمة
دورٌ مميز
كان للمهندس دورٌ مميز في العمارة الإسلامية، وقد ظل هذا الدور مجهولًا لعدم إدراك الباحثين لطبيعته والافتراض المبدئي لتشابهه مع دور المهندس في العصر الحالي.
ويعرّف القلقشندي المهندسَ بأنه: «هو الذي يتولى ترتيب العمائر وتقديرها، ويحكم على أرباب صناعتها»، ويعرفه ابنُ خلدون بأنه: «المشتغل بالهندسة»، أما الهندسة المعمارية فهي علم المباني وبنائها واختلافها والأراضي ومساحتها وشق الأنهار وتنقية القنى وإقامة الجسور وغير ذلك، ويطلق على المهندس المعمار أو البناء.
تعد الهندسة المعمارية في الحضارة الإسلامية مدخلًا جيدًا لفهم مركّب للعمارة في الحضارة الإسلامية. وقد قسَّم علماء العرب المسلمين الهندسة إلى قسمين؛ ظلا يتداولان على هذا النحو طوال الحضارة الإسلامية، وهما:
- الهندسة العقلية:
وهي التي تُعرف وتُفهم، أو هي التي تسمى الهندسة النظرية، وتدخل في نطاق العلم الرياضي، وتعرف كما يلي: «علم يُعرف منه أحوال المقادير».
- الهندسة العملية:
وهي التي تُرى بالعين وتُدرك باللمس، ويفاد منها عمليًّا، أي الهندسة التطبيقية، وتضم صناعة البناء، وعمارة المساكن والمساجد والمرافق وشق القنوات، وما إلى ذلك من أعمال التعمير.
وللهندسة فروع علمية عدَّةُ، منها:
- علم عقود الأبنية، وهو علم تُعرف منه أحوال الأبنية وأوضاعها، وكيفية شق الأنهار وتنقية القنوات، وسد البثوق وتنضيد المساكن، ومنفعته عظيمة في عمارة المدن والقلاع والمنازل، وفي الفلاحة.
- علم المساحة: وهو علم تُعرف منه مقادير الخطوط والسطوح والأجسام، وما يقدرها من الخط والمربع والمكعب، ومنفعته جليلة في أمر الخراج، وقسمة الأرضين، وتقدير المساكن وغيرها.
وهنا نتحدث عن
1- المعماريون
أطلقت الوثائق المملوكية على طائفة المعماريين «أرباب الخبرة المعمارية»، وخصّت المهندسين بالذكر من بين أفرادها، ويعد العصر المملوكي أبرز عصور الحضارة الإسلامية التي ازدهرت فيها العمارة كعلم وفن. أما وثائق العصر العثماني، فقد أطلقت عليهم «طائفة البنائين والمهندسين» أو «طائفة المعمارجية» أو طائفة المهندسين أو المعماريين، أو طائفة المعماريين.
ويأتي على قمة هرم الطائفة شيخُها، في حين يشكل النقباء وبقية الأعضاء جسم الهرم وقاعدته. كان شيخ الطائفة في العصر المملوكي يلقب بـ «كبير المعمارية» و«معلم المعمارية» ولقّب - أيضًا - بـ «معلم المعلمين» و«كبير المهندسين أو البنائين» أو «رئيس المهندسين»، أما وثائق العصر العثماني فأطلقت على كبير طائفة المعماريين لقب «شيخ المهندسين» أو «شيخ طائفة المهندسين بمصر»، ولقبته بعض الوثائق -أيضاً- بلقب «شيخ طائفة المهندسين والبنائين»، في حين لقبته وثائق أخرى بلقب «معمارجي باشا» أو معمار باشا» ومكانة المعمار باشا تشبه أو تعادل مكانة «كبير المعلمين» أو «رئيس المهندسين».
المعمار باشا المسؤول عن طائفة المعمارية وهو رئيسها، وهو وإن تشابه مع كبير المعلمين في العصر المملوكي من حيث وضعه على قمة هرم الطائفة وتوليه رئاستها، إلا أنه يختلف عنه من حيث المكانة الاجتماعية، فكبير المعلمين في العصر المملوكي كان ذا مكانة عالية لدى السلطان، لأنه هو الذي يشرف على بناء عمائره، بل إن السلطان برقوق لم يجد غضاضة في مصاهرة كبير مهندسيه أحمد بن الطولوني، فتزوج ابنته، وعلى الجانب الآخر، فإن المعمار باشا في الفترة العثمانية كان موظفًا حكوميًّا بسيطًا. ويبدو أنه في كثير من الحالات لم تكن لديه مهارات خاصة بشأن أعمال البناء أو العمارة، كان المعمار باشا في العصر المسؤول تشتمل طائفته على اثني عشر حرفة من حرف البناء، وتذكر الوثائق أن أعضاء طائفة المعمارية كانوا يختارون المعمار باشا لصفاته الحسنة، ولذلك كانوا يذهبون للقاضي يسألونه تنصيبه شيخًا عليهم، شريطة أن يحترم القواعد والقوانين والسنّة القديمة للطائفة، وكان القاضي يجيبهم إلى طلبهم، وبما أن أعضاء الطائفة لهم الحق في اختيار المعمار باشا، فإن لهم الحق - أيضًا - في عزله وتنصيب غيره في حالة مخالفته لما هو منوط به، يؤكد ذلك ما حدث في 13 من المحرم 1052هـ/ 1642م، حين تضرر المعلم أبوالنصر عمر بن محمد، الشهير بالدويك شيخ طائفة الدهانين، من خضوعهم لإشراف «معمار باشي» المتفرقة الأمير يوسف، وقدموا تظلمًا بهذا الشأن للقاضي، وحينما مَثَلَ المعمار باشي أمام القاضي، أخبره بأمر التظلم وما يحويه من شكاية الدهانين من خضوعهم له، فما كان منه إلا أن قدَّم للقاضي وثيقةً صادرةً من الباب العالي مؤرخة في 17 من المحرم 1037هـ/ 1637م، تثبت خضوع كل أرباب الصنائع العاملة في مجال البناء له، مثل المبيضين والجيّارين والنجارين والجباسين والحجارين والنحاتين والدهانين، ومن ثَمَّ حكم القاضي باستمرار خضوع أرباب تلك الحرف لإشراف المعمار باشي، فامتثل المعلم أبوالنصر عمر شيخ طائفة الدهانين ومن حضر معه من الدهانين، على ما جاء في الوثيقة، وقرروا عدم الخروج عن طاعة المعمار باشي.
الوثيقة السابقة بها إشارات مهمة عدة، أولها اصطفاف كل طوائف الحرف التي تعمل في حرف البناء تحت لواء المعمار باشي، ويعني هذا أن هذه الحرف كانت تعمل وفق أنظمة صارمة.
إنَّ هذا التنظيم يذكرنا بما كان متبعًا في الأندلس في المشروعات المعمارية، من هيمنة شيخ العرفاء على طوائف البنائين وتنظيمه لعملهم، على نحو ما يذكر ابن صاحب الصلاة حول بناء جامع وصومعة إشبيلية «وفي هذه السنة - أي سنة 567هـ - في شهر رمضان، ابتدأ أمير المؤمنين، ابن أمير المؤمنين، باختطاط موضع هذا الجامع، وأحضر على ذلك شيخ العرفاء أحمد بن باسة ومعهم عرفاء البنائين من أهل حضرة مراكش ومدينة فاس وأهل العدوة، فاجتمع بإشبيلية منهم من أصناف النجارين والنشارين والفعَلة لأصناف البناء أعداد من كل صنف، صناع مهرة من كل الأصناف».
2- البنَّاؤون
هو اسم لمن يحترف مهنة البناء؛ سواء بالحجر أو الطوب أو بغيرهما، وقد يمتد عمل البناء إلى نحت الأحجار وحفرها، وزخرفة الجدران والسقوف وكسوتها بالقاشاني، وربما إلى الهندسة المعمارية أيضًا.
وقد شاع في الوثائق إطلاق لقب معلّم على البنائين، وفي بعض الأحيان كان البنّاء يقوم بعمل المهندس، يصمم المبنى ثم يقوم ببنائه والإشراف عليه، ولعل النقش الذي عثر عليه بضريح الشيخ بايزيد المؤرخ بعام 702هـ/ 1303م يوضح ذلك، حيث ورد به «عمل محمد بن الحسين بن أبي طالب المهندس البناء الدمغاني وأخوه حاجي». يفهم من النص أن بعض المهندسين كان يزاول حرفة البناء، وربما كانوا في الأصل بنائين، ثم درسوا الهندسة، ووصلوا إلى مرتبة المهندسين.
وقد حفلت المخطوطات الإسلامية بالعديد من التصاوير المختلفة، التي صورت فيها عملية البناء بدقة وواقعية، فقد أظهرت هذه التصاوير أدق التفصيلات التي يمكن مشاهداتها أثناء تشييد أحد القصور أو القلاع أو البيوت أو حتى المساجد، التي لوحظ اهتمام الفنانين والمصورين بتصوير لحظة بنائها.
3- مراقبة الجودة
خضعت أعمال أفراد طوائف المعمار خلال العصر العثماني لإشراف دقيق من قبل المعمار باشي وشيوخ وعمد الطوائف، الذين كانوا مسؤولين جميعًا عن خروج العمل في أحسن صورة، وعندما تصل شكوى من صاحب البناء ضد أحد أفراد الطوائف المعمارية بسبب غشه في مواد البناء، أو عدم مراعاة أصول الصناعة، كان يذهب إلى محل العمل كبار رجال الطائفة ويعاينون العمل، وفي حالة ثبوت غش الصانع وعدم مراعاته لأصول وقواعد الصنعة كانت توقع عقوبة على الصانع، وفي هذا حادثة طريفة وردت في سجلات محكمة مصر القديمة تذكر قيام شيخ طائفة الدهانين المعلم سليمان بن شرف الدين ونقيب الطائفة المعلم عبدالجواد بن أحمد وعدد من عمد ومعلمي الطائفة بالكشف على أعمال الدهانات والكتابات والنقوش التي نفذت بدير الدهان بالمسجد الذي أنشاه الخواجا إبراهيم المنصوري بمصر القديمة، بعد أن تضرر الأخير من قيام الدهان المذكور بدهان سقف المسجد بألوان لم تكن لائقةً بقوام الصنعة، وهي عادمة النفع لا يمكث وليس به أساس مونة، وصاروا يقلعون الدهان الذي بالسقف، وهو ما يشير إلى أن من أصول الصنعة عمل طبقة أو بطانة أسفل الدهان، وبوضع الغراء على الكتابات والنقوش لتصبح أكثر تماسكًا.
وهنا نكرر ونعلم دور المهندس المعماري وفن العمارة الإسلامية في حياتنا اليومية
المصادر والمراجع :
[1] انظر: أحمد فؤاد باشا: التراث العلمي الإسلامي ص39-47
[2] المصدر السابق ص41.
[3] عبد المنعم ماجد: تاريخ الحضارة الإسلامية في العصور الوسطى ص268، 269.
[4] والاس كليمنت سابين: 1868-1919م عالم فيزياء أمريكي، أنشأ علم السمعيات المعمارية.
[5] فوربس س. ج وديكسترهوز أ. ج: تاريخ العلم والتكنولوجيا ص68.
[6] انظر: أحمد فؤاد باشا: التراث العلمي الإسلامي ص41.
[7] السامقة: الطويلة جدًّا. انظر: ابن منظور: لسان العرب، مادة سمق 10/163.
[8] زيجريد هونكه: شمس العرب تسطع على الغرب ص440 وما بعدها.
[9] ابن خلدون: المقدمة 1/376، وانظر: عادل عوض: المدينة العربية الإسلامية والمدينة الأوربية، مجلة العلم والتكنولوجيا، معهد الإنماء العربي العدد (27)، 1992م، ص32.
.