توت وبابه وهاتور وكيهك وطوبة وأمشير وبرمهات وبرمودة وبشنس وبؤونة وأبيب ومسري ونسيء" هي شهور السنة القبطية التي نطالعها إلي جوار التقويمين الميلادي والهجري. ولشهور السنة القبطية مكانة خاصة عند أهل الريف سواء كانوا مسلمين أو مسيحيين، حيث ترتبط بمواسم الزراعة والري والحصاد. وقد سرت أسماء الشهور القبطية ودلالاتها في الأمثال الشعبية التي توارثها المصريون، وهي توجز ببلاغة الثقافة الشعبية علاقة الإنسان بالطبيعة في هذا الوطن، ولكن كيف بدأ التقويم القبطي وما هي قصته؟.
يقول الدكتور ماجد صبحي الباحث بالمركز القبطي والمدرس بالكلية الإكليركية ومعهد الدراسات القبطية إن التقويم القبطي هو الامتداد الطبيعي للتقويم المصري القديم. ويوضح "اعتمد نفس تقسيم المصريين القدماء للسنة إلي ثلاثة فصول هي: الفيضان والزراعة والحصاد. وتتكون السنة القبطية تماما كالمصرية القديمة من 13 شهرا : 12 شهرا يحتوي كل منها علي ثلاثين يوما كاملا، علاوة علي الشهر الثالث عشر (نسيء) الذي يكمل أيام العام بخمسة في حال السنة البسيطة أو ستة أيام في حال السنة الكبيسة". ويضيف "أسماء الشهور القبطية هي بالأصل مستمدة من أسماء الشهور المصرية القديمة باللغة الديموطيقية، وهي لغة الشعب مقارنة باللغة الهيروغليفية اللغة الرسمية في مصر الفرعونية. وعلي سبيل المثال فإن شهر توت يعود أصله إلي شهر تحوت باللغة الديموطيقية، وتحوت هي إلهة العلم والمعرفة. فمع تطور لغة المصريين حذفت الحاء لأنها من الحروف الحلقية غير الموجودة في اللغة القبطية.
وتوافق بداية السنة القبطية (الأول من شهر توت) يوم 11 سبتمبر في السنة الميلادية. أما التقويم القبطي فيبدأ اعتبارا من عام 284 ميلادية. وبرغم دخول المسيحية إلي مصر علي يد مرقس الرسول في منتصف القرن الأول الميلادي فإن الأقباط احتفظوا بالتقويم المصري القديم كغيره من التقاليد والعادات المصرية دون تغيير، إلي أن اعتمدوا العمل بالتقويم القبطي في القرن الرابع الميلادي، ويبدأ هذا التقويم بتولي الامبراطور الروماني دقلديانوس الذي اشتهر عصره في التاريخ القبطي بعصر الشهداء نظرا للاضطهاد والمذابح التي عانها الأقباط علي أيدي هذا الامبراطور.
ويقول الدكتور صبحي: "إن مرقس الرسول لم يشأ أن ينزع المصريين من مصريتهم وتقاليدهم وعاداتهم. ومثلما استمرت الموسيقي المصرية القديمة في الموسيقي القبطية إلي الآن مع استبدال النصوص الوثنية بأخري مسيحية، فإن مرقس وتابعيه حافظوا علي التقويم المصري القديم إلي أن سمي التقويم القبطي أو تقويم الشهداء عندما ارتبطت بداية هذا التقويم بعصر الامبراطور دقلديانوس".
ويضيف: "لقد أعاد التقويم القبطي تشكيل التقويم المصري القديم بالقواعد والأسس نفسها، وتكفل تطور اللغة بتحرير أسماء الشهور إلي مسمياتها الحالية". ووفق الباحث في التاريخ القبطي فإن حساب السنين قبل العمل بالتقويم القبطي كان يجري أيضا بطريقة "الأنذيكتيون"، وهي مدة الدورة الضريبية حسب نظام الامبراطورية الرومانية البيزنطية وتتكون من خمسة عشر عاما، وكما يقول فإن "العديد من المخطوطات القبطية حتي القرن الثامن الميلادي اعتمدت طريقة (الإنذيكتيون) إلي جانب التقويم القبطي، وتشهد علي ذلك البرديات المحفوظة في مكتبات ومتاحف العالم وبينها ثلاثة آلاف قطعة بردية قبطية محفوظة في المكتبة الوطنية النمساوية بفيينا، وهي تحتوي علي نصوص مهمة في الفلسفية واللاهوت والحياة اليومية.
ويشير الدكتور صبحي إلي أن من أبرز مناسبات السنة القبطية رأس السنة نفسها التي تسمي عيد الناروز (والكلمة أصلها فارسي) ويوافق 11 سبتمبر، وتحتفل الكنيسة القبطية فيه بذكري الشهداء، كما يشير إلي عيد الميلاد في التاسع والعشرين من شهر كيهك الذي يوافق السابع من يناير، وعيد الغيطاس في 11 طوبة وهو عيد عماد السيد المسيح، وقد احتفل به الفاطميون بوصفه عيدا شعبيا ويرتبط بوفرة المحاصيل الزراعية، وبالإضافة إلي ذلك ترتبط أيام السنة القبطية ـ وفق الدكتور صبحي ـ بتذكارات الكنيسة القبطية عن القديسين والشهداء. ويوضح "لدينا كتب تحفظ هذه التذكارات تسمي سنكسار، وهي كلمة يونانية قديمة تعني الحاوي أو الشامل، وتؤرخ هذه الكتب لتاريخ البطاركة والشهداء وفق التقويم القبطي ويعود أقدمها إلي القرنين الثامن والتاسع الميلاديين وقد ترجمت إلي العربية في القرنين الثالث عشر والرابع عشر الميلاديين".
ويلفت الدكتور صبحي إلي أن المؤرخين والرحالة المسلمين قد تنبهوا إلي أهمية التقويم القبطي وصلته الوثيقة بحياة المصريين، ويستشهد بالقلقشندي في كتابه "صبح الأعشي في صناعة الأنشا" الذي أورد علي لسان أحد الرحالة قوله: "عرفت أكثر المعمورة فلم أر مثل ما بمصر من ماء طوبة ولبن أمشير وخروب برمهات ونبق بشنس وتين بؤونة وعنب مسري ورطب توت ورمان بابة وموز هاتور وسمك كيهك". كما يستشهد الباحث في التاريخ القبطي بما ذكره المؤرخ المقريزي في كتابه "المواعظ والاعتبار في ذكر الخطب والآثار" وذلك حين يورد مواقيت زراعة وري وحصاد المحاصيل في مصر علي أساس الشهور القبطية.
وتدلل الأمثال الشعبية التي توارثتها أجيال المصريين علي مدي ارتباط الأشهر القبطية بثقافة المصريين الحياتية وعلاقتها بالطبيعة والطقس والزراعة، وكأن هذه الشهور قد تحولت إلي مخزون لخبرات المصريين علي مدي آلاف السنين.
الدكتور صبحي يدعو إلي الاهتمام بهذا التراث المتوارث ويقول: التقويم القبطي وما يتصل به يحوي في طياته ذاكرة أمه بمسلميها ومسيحييها معا. وأقترح أن نهتم أكثر ببداية السنة القبطية (عيد الناروز) كي نفكر معا في موروثنا المشترك الذي يجمعنا ونتطلع إلي مستقبلنا من خلال التعمق في دراسة حضارتنا وماضينا.
المصدر: الأهرام اليومى
نشرت فى 12 سبتمبر 2014
بواسطة ahmedsalahkhtab
أحمد صلاح خطاب
ابحث
تسجيل الدخول
عدد زيارات الموقع
633,624