بقلم : منى صلاح الدين
كما هي العادة كانت مساجد مصر وبخاصة منذ العصر الفاطمي تقدم الطعام يوميا للفقراء والغرباء، وكان إن مر أحد هؤلاء الفقراء ذات يوم بمسجد بناه الأمير المملوكي شيخو المعروف عند العامة باسم «شيخون» ليفاجأ بأنه هو المسجد الوحيد بمصر الذي لا يقدم طعاما، وإنما خصص لإقامة الصلاة فقط، فما كان من الفقير إلا أن عبر عن رأيه في صاحب المسجد بعبارات كتبها علي أحد جدرانه ليرد عليه الأمير شيخو بعبارة هو الآخر.
يقول الفقير للأمير: مسجد بلا عيش بني ليش
ويرد الأمير: للصلاة ياقليل الحياء
ويرد الفقير: الصلاة تجوز في الخلاء، داهية تهدم المسجد علي من بناه.. لتنتهي هذه الحكاية كما رواها المؤرخ المقريزي في كتابه «المواعظ والاعتبار» مؤكدا استجابة الأمير شيخو لرغبة الرجل الفقير فأمر بإنشاء خانقاته الشهيرة بشارع الصليبة، التي شيدها أمام مسجده لإطعام الفقراء وإيوائهم وتقديم المعونة لطلبة العلم.. ومن يومها حذا المصريون حذو الأمير شيخو في أن يخصصوا جزءًا من صدقاتهم لإطعام الطعام وتقديم الماء البارد لعابري السبيل.
∎ هدية للفقراء
حفلت مصر الإسلامية عبر تاريخها وخاصة منذ عصر الفاطميين والأيوبيين والمماليك والعثمانيين وحتي عصر أسرة محمد علي، بالكثير من العمائر التي عرفت بالعمائر الخيرية أو الخدمية التي ارتبطت بإطعام الطعام تارة وسقاية الناس والدواب وعابري السبيل تارة أخري وأيضا رعاية طلبة العلم من المتصوفة والأطفال واليتامي وإيواء الغرباء وكسوتهم، هذا ما يؤكده دكتور مختار الكسباني أستاذ العمارة والفنون بكلية الآثار جامعة القاهرة، ومستشار وزارة الآثار سابقا، ويوضح قائلا: أنشأ السلاطين والأمراء والولاة هذه العمائر لهدف ديني وهو التقرب إلي الله بعمل الخيرات وهدف آخر دنيوي سياسي لتدعيم ملكهم وسلطانهم لتكون هذه العمائر بمثابة هدية يهديها الملوك والسلاطين للفقراء والمحتاجين وكانوا يفتتحونها بأنفسهم في احتفالات مهيبة، فبالإضافة إلي اهتمامهم ببناء المساجد قاموا أيضا ببناء مجموعة من العمائر التي ألحقوها بالمساجد مثل الأسبلة والتكايا والكتاتيب والخانقاوات وأحواض شرب الدواب بحيث لم يخل شارع من شوارع القاهرة القديمة من هذه العمائر الخدمية.
∎ خانقاة شيخو
وحتي تعرف عن قرب علي أشهر نماذج عمارة الخير أو العمارة الخدمية في القاهرة التاريخية قمنا بزيارة لشوارع المعز، والصليبة والسيوفية، ففي شارع الصليبة تقع واحدة من أشهر الخانقاوات وهي خانقاة شيخو أحد أمراء الناصر محمد بن قلاوون المشيدة في «القرن الثامن- التاسع الهجري» شيدها الأمير لسكني طلبة العلم من الصوفية وتقديم الطعام والكسوة للفقراء والمحتاجين وكانت مخصصة لتدريس الفقه علي المذاهب الأربعة، وكانت وزارة الثقافة قد قامت بأعمال ترميم واسعة لهذه الخانقاة منذ سنوات، وعن تاريخ وفكرة ووظيفة الخانقاوات يشير د. الكسباني إلي أن أول خانقاة شيدت في مصر كانت تلك المعروفة باسم خانقاة «سعيد السعداء» وهو أحد الخدام في عهد الخليفة الفاطمي المستنصر وكان يدعي «عنبر» وجاء صلاح الدين الأيوبي ليبني له هذه الخانقاة في القرن السادس الهجري وتقع بحي الجمالية.. ويكمل: وتعني كلمة «خانقاة» كما فسرها المقريزي وابن بطوطة بأنها كلمة فارسية تعني «بيت العبادة» وكان أول ظهور لها في القرن الرابع الهجري ووصلت إلي قمة مجدها في القرن السادس، كما أن كلمة الصوفية فسرها البعض علي أنها نسبة لأهل الصُفَّة المنقطعين للعبادة والذين كانوا يصطفون في نهاية مسجد الرسول «ص» وفسرها آخرون أنها نسبة إلي الصفاء الروحي الذي يتمتع به الزاهد من طلبة العلوم الدينية.. وعن أشهر هؤلاء الصوفية الذين تعلموا وعلموا في هذه الخانقاوات قال د. الكسباني: أشهرهم ذو النون المصري وابن الفارض والحسن البصري الذي درَّس للطلبة المتصوفة علوم الفقه والتربية الروحية في العراق، كما شهد العصر المملوكي بناء الكثير من هذه الخانقاوات وخاصة في صحراء المماليك مثل خانقاة السلطان الأشرف برسباي وخانقاة الناصر فرج ابن برقوق، وخانقاة بيبرس الجاشنكير بالجمالية وخانقاة سنجر الجاولي بشارع مراسينا بالسيدة زينب.
∎عمارة الخانقاة
ويؤكد عالم الآثار د. عاصم رزق في كتابه «خانقاوات الصوفية في مصر» علي مدي التفوق المعماري الذي شيدت به هذه الخانقاوات وخاصة أنها بنيت في العصر المملوكي الذي اشتهر بجمال وعبقرية البناء، فهي لا تختلف في عمارتها عن المسجد، حيث تضم المحراب والمآذن وأروقة الصلاة، بالإضافة إلي «أماكن أو خلاوي» لسكني وإقامة طلبة العلم من المتصوفة والعُبَّاد.. ويتطور الأمر كما يوضح د. رزق ويدرس المسلمون بهذه الخانقاوات المذاهب الفقهية، وتختص كل خانقاة منذ القرن الثامن الهجري بتدريس مذهب أو مذهبين، فالفقه الحنفي كان يدرس في خانقاة الجمالية، والشافعي في الخانقاة الجاولية، كما جمعت الخانقاة الأقبغاوية بين الفقهين الشافعي والحنفي، أما الخانقاة الشيخونية فدرس بها فقه المذاهب الأربعة إضافة إلي التفسير والقراءات.
∎تكية الدراويش المولوية
وإلي نموذج آخر من نماذج العمارة الخيرية الخدمية بالقاهرة وهي التكايا وترجع نشأتها إلي العصر العثماني، سواء في الأناضول أو في الولايات التابعة للدولة العثمانية، وقد حلت التكايا محل الخانقاوات واختفي لفظ «خانقاة» من البلاد التي استولت عليها الدولة العثمانية.
ويري الكثيرون من علماء الآثار أن «التكية» تطور لفكرة الخانقاة، وتتشابه معها من حيث الوظيفة كمبني تقام به حلقات الدروس للمتصوفين لتتطور بعد ذلك وتصبح التكية خاصة بإقامة العاطلين من العثمانيين والأتراك المهاجرين من الدولة الأم إلي الولايات التابعة لها مثل مصر والشام، ولهذا صَحَّ إطلاق لفظ «التكية»، ومعناها مكان يسكنه الدراويش وهم طائفة من الصوفية العثمانية مثل المولوية والنقشبندية، والأغراب وغالباً ممن ليس لهم مورد للكسب، وقد وقفت علي التكية الأوقاف وصرفت لها الرواتب الشهرية، لذا سمي محل إقامة الدراويش والتنابلة بـ«التكية» لأن أهلها متكئون، أي معتمدون في أرزاقهم علي رواتبهم في التكية، واستمر سلاطين آل عثمان وكبار المصريين من أسرة محمد علي في الإنفاق علي تلك التكايا وعلي ساكنيها حتي تلك التي شيدت خارج مصر في مكة المكرمة والمدينة المنورة.. وفي شارع السيوفية بحي السيدة زينب تقع أشهر التكايا العثمانية وهي تكية الدراويش المولوية، التي شيدها أتباع الطائفة المولوية في القرن السابع عشر الميلادي، علي أجزاء من بقايا قصر ومدرسة مملوكية تسمي «سنقر السعدي» وأنشأوا بها «السماع خانة «المسرح» علي طراز الباروك - العثماني، ويشغل المركز المصري الإيطالي للترميم جزءاً من هذه التكية الآن، كما تقدم وزارة الثقافة العديد من الأنشطة والحفلات وخاصة لطائفة الدراويش المولوية علي مسرح التكية الذي تسميه الوزارة «مسرح الدراويش» وقد رُممت التكية وافتتحت في مايو عام 2002م، ويمكنك خلال زيارتها أن تشاهد «المتحف المولوي» الذي يعرض صوراً فوتوغرافية ووثائق خاصة بالمولوية، كما يعرض كتاب «المثنوي» لجلال الدين الرومي مؤسس الطائفة المولوية، كانت أن أهدته وزارة الثقافة التركية للمتحف، أما زي المولوية الشهير فيعرض في ڤاترينة خاصة، وإذا ما أخذك الفضول للدخول إلي السماع خانة المعروف حالياً بمسرح الدراويش فستعود بك الذاكرة إلي عام 2391م عندما أقيم به أول فعاليات لأول مؤتمر للموسيقي العربية وشدا علي مسرحها آنذاك محمد عبدالوهاب وسيدة الغناء العربي أم كلثوم، كما شاركت فرقة المولوية بزيها وموسيقاها ورقصاتها الشهيرة في تلك الفعاليات.. ويذكر المؤرخون أن السلطان العثماني سليم الأول قد اختبأ في مكان التكية مرتدياً الزي المولوي قبل استيلائه علي حكم مصر والإطاحة بآخر سلاطين المماليك الغوري عام 7151م.
∎ عمارة التكية
وكغيرها من التكايا العثمانية تتكون التكية المولوية من أربعة أقسام وهي منطقة الحجرات السكنية للطلبة تحيط بها حديقة بنافورة مياه في الوسط ثم منطقة إقامة الشعائر الدينية وهي «السماع خانة» ثم منطقة المطبخ والمطعم ومناطق الاستقبال والمدخل الرئيسي وتعد تكية الدراويش واحدة من بين الآثار القليلة في العالم التي مازالت تحتفظ بقطاعاتها المتعددة.
∎ السماع خانة
تنافس سماع خانة القاهرة بطراز عمارتها وفنونها، سماع خانات تركيا العتيقة، فقد شيدها المولوية، وبالرغم من أنها أحد ملحقات التكية إلا أنها تمثل نوعية معمارية خاصة ويقصد بالسماع خانة أي منطقة الرقص الشعائري «والسمعة» هي الرقص الصوفي عند طائفة المولوية، وكانت سماع خانة القاهرة آخر سماع خانة ظلت تعمل بعد قرار إغلاق التكايا، وحل طوائف الدراويش التركية الذي أصدره «كمال اتاتورك» عام 5291م.
والسماع خانة شيدت علي طراز العمارة العثمانية الذي يتميز باستخدام الحجارة لبناء الأرضيات والخشب البغدادلي «الخشب المغطي بالجص» لبناء الأسقف والطوب الأحمر للحوائط، وهي عبارة عن بناء مربع تعلوه قبة مركزية كبيرة، بمدخل ذي درجات دائرية بواجهات أربع تملؤها نوافذ خشبية ومستطيلة ودائرية.. أما مسرح السماع خانة فهو دائري الشكل، معد خصيصاً حتي يتلاءم مع رقص المولوية الدائري وهو مصنوع من الخشب ومحاط بدرابزين خشبي، بارتفاع طابقي السماع، تعلوه قبة كبيرة من الخشب مزينة من الداخل بزخارف كتابية ونباتية وآيات قرآنية وزخارف عثمانية أوروبية كصور المنازل والقصور وأشجار السرو العثمانية، ويضم المسرح أيضاً بناوير من الخشب مخصصة للنساء، يفصلها عن مقاعد الرجال ألواح من الخشب الخرط.
∎ الدراويش المولوية
تطلق كلمة الدراويش عادة علي صوفية الأتراك، أما طريقة الدراويش المولوية فهي إحدي الطرق الصوفية التركية التي يطلق عليها «الدوارة» نسبة إلي استخدامها للرقص الدائري، وظهرت في القرن الثالث عشر الميلادي في مدينة «قونية» بتركيا ومؤسسها هو جلال الدين الرومي المولود 7021 في خوراسان «أفغانستان» واستقر به المقام في تركيا وكانت لهذه الطريقة الصوفية ثقافتها الفلسفية والموسيقية الخاصة بها.
∎ الأسبلة
تعتبر الأسبلة من أهم العمائر الخيرية والخدمية التي أبدعها المعمار الإسلامي وتميز بها وكانت بدايتها مع العصر المملوكي ثم تطورت في العصر العثماني، وأمر بإنشائها الملوك والسلاطين تقرباً إلي الله وسقاية عابر السبيل وكصدقة جارية حث عليها الدين الإسلامي، ويعد سبيل الناصر محمد بن قلاوون بشارع بين القصرين أقدم الأسبلة في مصر ويرجع تاريخ إنشائه إلي عام 627هـ - 6231م، عصر الدولة المملوكية البحرية، أما سبيل السلطان قايتباي المشيد عام 9741 فيعتبر من أجمل الأسبلة المملوكية الجركسية.
وبعد ترميمه من قِبل وزارة الثقافة تم افتتاحه للجمهور بعد أن تم تحويله إلي مركز ثقافي ومكتبة عامة للتراث الإسلامي علي أحدث الوسائل العلمية.. أما السبيل الآخر الذي يعد تحفة فنية، فهو سبيل وكُتَّاب الأمير عبدالرحمن كتخدا مشيد عام 4471م في العصر العثماني، وهو ذلك الأمير الذي شيد 81 مسجداً، وأقام العديد من الأضرحة وأجري توسعات بالأزهر واشتهر بأعمال الخير، وهو السبيل الثاني والأخير الذي تستخدمه وزارة الأثار بعد ترميمه كمركز ومعرض لبيع المنتجات الخزفية من إنتاج مركز الحزف بالفسطاط ومصنع المستنسخات الأثرية التابع لوزارة الآثار ويفرض مستنسخات من القطع الأثرية علي درجة عالية من الاتقان للسائحين، ويقع سبيل الأمير عبدالرحمن كتخدا بشارع المعز.
∎ المزملاتي
وحتي يقوم السبيل بوظيفته الخدمية لسقاية عابري السبيل، كان لابد من وجود «المزملاتي» وهو الشخص المسئول عن تزويد السبيل بالمياه، وقد وضعت شروط عديدة لمن يتولي هذه الوظيفة منها أن يكون المزملاتي هذا نظيفاً، جميل الهيئة سليم، البدن، خالياً من الأمراض والعاهات، ويعامل الناس بالحسني حتي يكون سبباً في إدخال الراحة علي الواردين وقاصدي السبيل ويتولي نظافة السبيل والعناية بأدواته مثل الكيزان وأوعية الشرب.. وكان تزويد الأسبلة بالمياه يتم طوال ساعات النهار، وفي رمضان يبدأ سبيل المياه بعد الغروب إلي ما بعد صلاة التراويح.
∎ عمارة السبيل
عرف عن سلاطين المماليك أنهم أول من اهتم ببناء الأسبلة لذلك اشتهر طراز عمارة الأسبلة المملوكية بالطراز المصري وفيه يتكون السبيل من طابق واحد بشباك واحد ملحق بمسجد أو مدرسة أو سبيل ذي شباكين، يبني في أركان المدارس والمساجد مثل سبيل الناصر محمد بن قلاوون 627هـ، أما الأسبلة العثمانية فقد تأثرت بالطابع المصري تارة كما في سبيل عبدالرحمن كتخدا وأضافت فوقه الكتاب لتعليم الأطفال واليتامي وتارة أخري أصبح طراز العمارة عثمانياً مستقلاً عن المملوكي، حيث استدارت واجهة السبيل، بتقويسات تعلو نوافذه واستخدم في بنائه المرمر والرخام، والنحاس في النوافذ، ويعلو السبيل العثماني قبة، مثل سبيل محمد علي بالنحاسين وسبيله بالعقادين، وسبيل أم عباس بشارع الصليبة «أم الوالي عباس الأول».