الكاتب  :  صالح إبراهيم الحسن: الرياض

تتميز الفنون بشكل عام بتمردها على الصيغ الجاهزة والقوالب المتحجرة، وترفض الالتزام الصارم بقواعد مقننة عليها مسبقاً. والفن القصصي (الرواية والقصة) لا يخرج عن هذا الإطار العام. على أن هذه الحرية الفنية المعطاة للكاتب لا تجعل الفن القصصي بنوعيه غير منضبط بقوانين عامة وأطر ثابتة تحفظ لكل نوع كيانه وتميزه عن غيره.يمتاح الفن القصصي من الحياة ومن واقعها وتأثيرها في النفس الإنسانية، ولهذا فإن كثيراً ممن يعنون بالقصة والرواية من الكتاب والقراء يظنون أن هذين النوعين الأدبيين ما هما إلا جنس واحد، لا فرق بينهما إلا في الكم الكتابي. وإذا كانت وحدة الجنس مظهر اتفاق بين هذين النوعين إلا أنه ليس الجانب الوحيد الذي يمكن النظر إليهما منه؛ ذلك أن بينهما فروقاً عدة تتصل بأسلوب معالجة الشخصية ومصادر الأحداث وغزارة المعلومات.وفي حين تحد القصة القصيرة بمدى كتابي معين فإن الرواية غير محددة في الحجم أو عدد الصفحات، لهذا فإن الروائي يستطيع من خلال عمله أن يقدم كثيراً من المعلومات الوصفية للفضاء الخارجي، كما يستطيع أن يسبر أغوار شخصياته ويحلل دوافعها؛ مما يعمق الرؤية التفسيرية لمجريات الأحداث وتصارع الرغبات، وبهذا فإن الرواية بإمكانياتها غير المحدودة تستطيع رسم الشخصيات في نموها وما يعتريها من تطور واضطراب من خلال مواجهتها للأحداث، وما يؤثر في مسارها من تحولات تغير من أسلوب حياتها. كما تستطيع القصة رسم الفترة الزمنية بأماكنها وما يكتنفها من أحداث ترسم أجواءها العامة. وهذه الحرية التي تكاد تكون مطلقة للروائي لا تكون لكاتب القصة القصيرة الذي يركز على جانب محدد من حياة الشخصية وزاوية ضيقة من زوايا الحدث يحاول رسمها في أوجز عبارة، وأكثف صورة. لهذا فإن القصة القصيرة تمثل عينة محدودة في حين أن الرواية تمثل شيئاً متكاملاً.والقصة القصيرة تأبى الوصف الممل والسرد البطيء ذا التفصيلات المتشعبة التي لا علاقة لها بالموقف الذي ترصده، لهذا فهي تتيح للقاص فرصة مراقبة الموقف الذي يرصده بدقة وأناة، وهذا الوضع يحتم عليه التركيز المعبر، وذلك بتوظيف الجمل القصيرة ذات الدلالات المكثفة، وهذا بخلاف الرواية التي يكون فيها السرد الهادئ في الجمل الممتدة الطويلة خير وسيلة لبسط الحديث بالوصف ورسم الشخصيات وتشخص الأوضاع الاجتماعية أو النفسية. وهذا الأسلوب المتباين في طرائق السرد والوصف يجعل الرواية تعتمد على الإيقاع المتمهل الهادئ في حين تتسم القصة القصيرة بالإيقاع الخاطف السريع المركز.وإذا كان طول الرواية يعطي كاتبها فرصة الاستطراد لوصف جوانب الحياة ورسم الشخصيات، فإن كاتب القصة القصيرة يجب عليه أن يحكم جوانب قصته بحيث يستغل كل فقرة سردية وكل جملة حوارية في جعل الأثر القصصي مستمراً بحيث يحمل في إيحاءاته وإيماءاته ما يشكل دلالة البنية النهائية للقصة، فكل كلمة لها حسابها، وكل إشارة لحدث له أهميته في بناء القصة. وقد أشار تشيكوف إلى هذه الناحية من ضرورة إمساك القاص بأطراف الأحداث والعلامات التي يشير إليها حين قال «إذا ما قيل لنا في بداية قصة قصيرة بأن هناك مسماراً في الجدار فعلى البطل أن يشنق نفسه فيه»، وهذا يشير إلى أهمية ما يطرحه الكاتب في قصته بحيث تخلو من أي استطراد لا يفيد في بناء القصة وإعطاءها دلالتها الخاصة. ويصدر كاتب القصة القصيرة والرواية في حبكاته من الحياة وأحداثها وشخصياتها ومواقفها المختلفة، وبصفة عامة فكل ما هو واقعي في الحياة أو ممكن وقوعه، أو وهمي يدخل في نطاق العمل القصصي. لكن الرواية تتناول شخصيات وحوادث في إطار نموها التاريخي، لهذا فإن الحياة ذات الامتداد الزمني تشكل مرجعية أساسية للكاتب الروائي، ولعل هذا ما يفسر لنا ميل الشخصيات الروائية إلى حمل أسماء كاملة في حين أن القصة القصيرة تميل إلى عدم تسمية شخصياتها. وعلى العكس من ذلك كاتب القصة القصيرة عندما يكتب قصته، فهو يقتنص من الحياة جوانبها المغمورة ذات الشخصيات المنطوية المستوحشة النافرة عن روح الجماعة؛ لأنه لا يعتمد في مرجعيته على الحياة الإنسانية بكاملها، بل إنه يقتنص موقفاً واحداً في حياة الشخصية في لحظة زمنية محددة يتناولها من إحدى الزوايا ويقوم بتحليلها.والشخصية في القصة القصيرة تتميز بأنها شخصية ذات تصرفات شاذة غير مندمجة مع محيطها، فهي شخصية مضطربة، تعاني من إحساس بالاغتراب عما حولها، وتعيش على هامش المجتمع، بينما هي في الرواية شخصية سوية تمتاز بالألفة مع محيطها وهي بسيطة في تصرفاتها وسلوكها، نشاهد صوراً مشابهة لها في حياتنا اليومية.وتتباين الرواية والقصة القصيرة في أسلوب النهاية، حيث إن خاتمة الرواية تكون لحظة خفوت الأحداث، وعودة الحياة إلى مجراها المعتاد بعد التحولات التي حصلت لها، إذ إن وهج الأحداث واشتباك العلاقات بين الشخصيات يكون في ذروة الصراع، وليس في النهاية. أم القصة القصيرة فإنها تتقدم متسارعة نحو الذروة، لكنها لا تعاود الانحدار بل تقف عند القمة تاركة القارئ يعيش ذروة الحدث ومفاجأة النهاية.وتكمن المتعة في قراءة القصة القصيرة في كونها تكثف الحدث وتصوغ الموقف في شكل أكثر تركيزاً كما أن حركة الشخصية محددة والمواقف وحركات الشخصية موحية ذات دلالات عميقة. فهي تنفرد بنظرة ثاقبة ومتعمقة تجاه جانب واحد في تركيز وإيجاز.أما الرواية فإن عنصر الإمتاع فيها يكمن في نظرتها الشمولية للحياة في مختلف أبعادها بحيث يعايش القارئ الأحداث الممتدة عبر الزمن وتطور الشخصيات من خلال المواقف المتعددة ذات العلاقات المتشابكة والمتصارعة والمضطربة أحياناً، وهذا يكون تعاطفاً بين القارئ وشخصيات الرواية بحيث يعايشهم الأحداث التي يخوضون غمارها ويتأثر بها. فالرواية انتقاء لحياة كاملة يعايشها القارئ في حين أن القصة القصيرة تمثل مزاج كاتبها وانفعالاته. ولهذا فإن الكاتب عندما يزمع البدء في عمل روائي فإنه يتقمص شخصية الباحث الاجتماعي، أو المؤرخ، أو العالم النفسي بحيث يكون قادراً على التقاط معطيات المجتمع والحياة وخلق شخصيات جديدة حية متفاوتة في ملامحها، متنوعة في تصرفاتها ومواقفها، وتكون نفسها قادرة على تسجيل التفاصيل التي لا علاقة لها مباشرة بالانطباعات، في حين أن كاتب القصة القصيرة يعبر عن معاناته الفردية فينظر إلى الحياة من زاوية خاصة يغلب علها انطباعاته الخاصة وتكتنفها مزاجيته ونظرته النفسية لا العقلية. وهي في ذلك تقرب من التجربة الشعرية ذات الطابع الذاتي في جوهرها العميق.ولعل هذا الجانب من أخص الخصائص التي تفرق بين القصة القصيرة والرواية، وكم من قصة قصيرة قال عنها النقاد إنها مشروع لفكرة روائية وليست قصة قصيرة وإن ظهرت بشكلها، وذلك عند ميلها إلى التحليل الاجتماعي أو الرصد التاريخي وما يتبع ذلك من سمات تفصيلية تسجلها بصورة تكاد أن تكون حيادية. ولهذا فإن القصة التي تقدم الحياة بأكملها تكون في القصة أقرب إلى المشروع الروائي لا أن تكون قصة قصيرة، حتى ولو كان حجمها صغيراً وصفحاتها قليلة. والرواية تمثل نصاً كاملاً ترسم فيه طريقة الحياة، في حين أن القصة القصيرة تمثل جزئية من الحياة تعنى باكتشاف الحقيقة ولا تعنى برسم الحياة.

المصدر: المجلة العربية
ahmedsalahkhtab

أحمد صلاح خطاب

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 577 مشاهدة
نشرت فى 1 مارس 2013 بواسطة ahmedsalahkhtab

أحمد صلاح خطاب

ahmedsalahkhtab
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

634,867