الكاتب  :  محي الدين عواد الظاهر: سوريا

كانت العرب في الجاهلية وهم لا يرجون ثواباً، ولا يخشون عقاباً يتحاضون على الصبر، ويعرفون فضله، ويعيرون بالجزع أهله، إيثاراً للحزم وتزيناً بالحلم، وطلباً للمروءة، وفراراً من الاستكانة إلى حسن العزاء، حتى إن كان الرجل منهم ليفقد حميمه فلا يعرف ذلك فيه.والعزاء هو السلو، وحسن الصبر على المصائب، وخير من المصيبة هو العوض منها، والرضا بقضاء الله، والتسليم لأمره تنجزاً لما وعد من حسن الثواب، وجعل للصابرين من الصلاة عليهم، والرحمة، فقد قال الله تعالى: (وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون، أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون).والموت سبيل الماضين والغابرين، ومورد الخلائق أجمعين وفي أنبياء الله وسالف أوليائه أفضل العبرة، وأحسن الأسوة فهل أحد منهم إلا وقد أخذ من فجائع الدنيا بأجزل العطاء، ومن الصبر عليها باحتساب الأجر فيها بأوفر الأنصباء، فجع نبينا عليه الصلاة والسلام بابنه إبراهيم، وكان ذخر الإيمان، وقرة عين الإسلام، وعقب الطهارة، وسليل الوحي، ونتاج الرحمة، وحضين الملائكة، وبقية آل إبراهيم وإسماعيل صلوات الله عليهم أجمعين، فعمت الثقلين مصيبته، ورضي من فراقه بثواب الله بدلاً، ومن فقدانه عوضاً، فشكر قضاه، واتبع رضاه، فقال: «يحزن القلب وتدمع العين، ولا نقول ما يسخط الرب، وإنا بك يا إبراهيم لمحزون».وإذا تأمل ذو النظر ما هو مشفق عليه من غير الدنيا، وانتصح نفسه وفكره في غيرها بتنقل الأحوال، وتقارب الآجال، وانقطاع يسير هذه المدة ذلت الدنيا عنده، وهانت المصائب عليه، وسهلت الفجائع لديه، فأخذ للأمر أهبته، وأعد للموت عدته.والدنيا دار تمكر بساكنيها، وهي كثيرة الغدر تغدر بأهلها وجيرانها. فكم أفنت من الدهر قروناً، وأحرقت أفئدة وأسخنت بالبكاء عيوناً، ونثرت من المرجان عقداً، وأضرمت في كثير من القلوب وقداً، وحولت الشباب شيباً وحدباً، وأبلت جديداً، وأخذت من والد وليداً، وفرقت شمل الأحباب، وباعدت بين ديار الأصحاب، وألبست الأتراب أردية التراب.  وإن وجود الإنسان على هذه البسيطة كان ولم يزل مؤدياً إلى عدم وكأنه لم يكن موجوداً، ولله في ذلك منة على البشرية لا يعلمهما منهم إلا صاحب اللب الفريد. وكل البشر مركب من نفس تسمو إلى المكانة الرفيعة العالية، ومن جسد يسف إلى الدونية، فمن غلب فيه أخس ما فيه على أشرف ما فيه قنط من الموت قنوط الغبي، وكرهه كراهة الغر، وظن أن الله عز وجل قد قطع به عصمته، وأزال معه نعمته. والإنسان الذي غلب أشرف ما فيه على أخس ما فيه وصل إلى يقين أن الله لا يعبث في خلقه، ولا يخلف وعده، وأن الله جبر مصاب الميت جبرين ظاهرين الأول عاجل، وهو النسل، والثاني آجل، وهو النشر. فإن أخطأه الأول في تلون أحداثها، والتفاوت في أرزاقها، فهو حاصل على الثاني لا شك فيه، ولا شبهة عند كل ذي يقين ودين، ولا يعدم مزيداً، لأن حظوظه بقدر الفائت من غيره.يروى عن جعفر بن محمد أنه قال: مات أخ لبعض ملوك اليمن، فعزاه بعض العرب، فقال في تعزيته: اعلم أن الخلق للخالق، والشكر للمنعم، والتسليم للقادر، ولا بد مما هو كائن، ولا سبيل إلى رجوع ما قد فات. وقد أقام معك ما سيذهب عنك أو ستتركه، فما الجزع مما لابد منه، وما الطمع فيما لا يرجى؟ وما الحيلة فيما سينتقل عنك أو تنتقل عنه؟ قد مضت لنا أصول نحن فروعها، فما بقاء الفروع بعد أصله. وأحق الأشياء عند المصائب الصبر. واعلم أن أعظم من المصيبة سوء الخلف منها. وإنما ابتلاك المنعم, وأخذ منك المعطي، وما ترك أكثر. فإن نسيت الصبر فلا تغفل عن الشكر، وكلاً فلا تدع.عزى علي رضي الله عنه الأشعث بن قيس عن ولد له، فقال: يا أشعث إن تحزن على ابنك فقد استحقت ذلك منك الرحم، وإن تصبر، ففي الله من كل مصيبة خلف. يا أشعث إن صبرت جرى القدر عليك، وأنت مأجور، وإن جزعت جرى القدر عليك وأنت مأزور، سرك وهو بلاء وفتنة، وحزنك وهو ثواب ورحمة.وفي مراثي الأكابر والرؤساء فقد وقف علي رضي الله عنه على قبر الرسول صلى الله عليه وسلم ساعة دفن، وقال: إن الصبر لجميل إلا عنك، وإن الجزع لقبيح إلا عليك، وإن المصاب بك لجليل، وإنه قبلك وبعدك لجلل. والبكاء على الميت لا يكون إلا من فضل قوة فإذا اشتد الحزن ذهب البكاء، فقد مر النبي صلى الله عليه وسلم بنسوة من الأنصار يبكين ميتاً، فزجرهن عمر رضي الله عنه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: دعهن يا عمر، فإن النفس مصابة، والعين دامعة، والعهد قريب.وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل المقبرة. قال: السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون. وكان الحسن البصري إذا دخل المقبرة قال: اللهم رب هذه الأجساد البالية، والعظام النخرة، التي خرجت من الدنيا وهي بك مؤمنة، ادخل عليها روحاً منك وسلاماً منا.وقد وقف أعرابي على قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: قلت فقبلنا، وأمرت فحفظنا، وبلغت عن ربك فسمعنا، ثم تلا قوله تعالى: (ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله تواباً رحيما). وقد ظلمنا أنفسنا فاستغفر لنا. فما بقيت عين إلا وسالت.هذا ولا يستكمل الإنسان حد إنسانيته حتى يموت لأن الإنسان حي ناطق ميت، وقد أحسن من قال: إن الإنسان الصالح إذا مات استراح، والإنسان الطالح إذا مات استريح منه. وإذا كان في النوم الراحة الصغرى، ففي الموت الراحة الكبرى.

المصدر: المجلة العربية
ahmedsalahkhtab

أحمد صلاح خطاب

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 146 مشاهدة
نشرت فى 1 مارس 2013 بواسطة ahmedsalahkhtab

أحمد صلاح خطاب

ahmedsalahkhtab
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

617,065