الكاتب: أ/ مصطفى شعبان
بعد أن كان تنافسا من أجل تنقية الروح من شوائبها، ووسيلة للزهد والتعبد، صار صراعا على المناصب والمكاسب، أيهما يسبق الآخر ويحتل مكانه! المشهد داخل البيت الصوفي ليس مأساويا بقدر ما تحكمه الكوميديا السوداء، فجلسات الود وتقبيل اللحى والأيادي دخلت فيها السياسة وتجاذبتها المصالح ليتجه الجميع ولأول مرة في تاريخ الصوفيين في مصر إلى ساحات المحاكم لتحدد لهم من هو الأحق بلقب شيخ المشايخ ويجلس على مقعد رئيس المجلس الأعلى للطرق الصوفية.
بموت الشيخ أحمد كمال ياسين شيخ مشايخ المجلس الأعلى للطرق الصوفية في نوفمبر الماضي 2008 تدافع المشيعون من بين وزراء وقيادات أمنية وسياسية في مقدمتهم رجل الأعمال الشهير أحمد عز أمين التنظيم بالحزب الوطني الحاكم صهر الفقيد، وأعضاء برلمانيين، بمجرد العودة من المقابر التقى المشيعون من أعضاء المجلس –15 عضوا منهم عشرة بالانتخاب وخمسة بالتعيين- وتم تفويض علاء ماضي أبو العزائم ليسد الفراغ مؤقتا باعتباره أكبرهم سنا 67) عاما) لحين إجراء انتخابات، لم تمض سوى أيام من تفويضه، حتى فوجئ أبو العزائم بانتخاب عبد الهادي القصبي (46) سنة الذي ينتمي في الأصل للحزب الوطني ويمثله بمجلس الشورى –الغرفة الثانية للبرلمان- بدلا منه.
وقد اعتبر بعض المراقبين أن ما حدث جرى على خلفيات بعض التجاذبات والتدخلات السياسية، وبسبب بعض الصفقات وفق ما يرى بعض مشايخ الطرق الصوفية، اعتبر أبو العزائم ما تم إزاحة غير مشروعة له وخدعة وخيانة، مما حدا به إلى المطالبة بعقد جمعية عمومية لسحب الثقة من المجلس الذي وصفه بالمزيف.
والسؤال المهم الآن هو: "هل سيودع البيت الصوفي هدوءه المعتاد، ليتكرر فيه ما يجري أحيانا داخل الأحزاب السياسية والنقابات المهنية والأندية الرياضية؟"، فالحرب بين مشايخ الطرق الصوفية اشتعلت، واستخدم كل منهم قوته وأسلحته فيها متوسلا –كما فعل البعض- بصلاته بالحزب الحاكم.
حرب السياسة والمال
أبو العزائم اتهم القصبي بأن طريقته –القصبية- غير مقيدة بالمجلس الأعلى للطرق الصوفية، ومن ثم اعتبر وجوده غير شرعي، وقال أبو العزائم إنه تعرض للخيانة باعتبار أن العرف جرى باختيار الأكبر سنا، وهكذا تولى جميع رؤساء المجلس الأعلى للطرق الصوفية منذ إصدار قانون خاص لتنظيمه 1976، أما القصبي فردّ بأن القانون لم يذكر الأكبر سنا أو الأصغر، ولكنه حدد الأمر بانتخاب رئيس المجلس من أعضاء المجلس المنتخبين.
المستشار أحمد عبده ماهر المحامي بمحكمة النقص، اعتبر أن المجلس يضم ١١ طريقة غير معتمدة، وليس لها حق التصويت، وأوضح أن قرار مجلس الدولة سيكون فاصلا في النزاع، حتى لو صدقت رئاسة الجمهورية على تعيين القصبي، ووصف ماهر المجلس الأعلى للطرق الصوفية، بأنه نموذج للفساد الإداري، ويحتاج للتنقية، وأيد المطالبة بحله ووضعه تحت الحراسة لحين تطهيره.
أما الشيخ محمد عبد المجيد الشرنوبي شيخ الطريقة الشرنوبية، فقد طالب باستبعاد المستشار محمد الدمرداش مستشار المجلس الأعلى ومجلس الدولة، ومحاكمته، محملا إياه مسئولية كل الانشقاقات والمخالفات القانونية، وفي مقدمتها دخول مشايخ طرق غير مشهرة ومسجلة لعضوية المجلس الأعلى والجمعية العمومية وعددها ١٢ طريقة.
السياسة والمال دخلا في إشعال الحرب، خاصة أن من يتولى المنصب لا بد أن يكون حاصلا على دعم رئاسة الجمهورية، فاختيار شيخ المشايخ يكلل بقرار جمهوري من الرئيس، وهذا ما يفسر تأخر صدور قرار جمهوري حتى الآن لأي من المتنازعين على المنصب، وهو ما فسره المراقبون بأن رئاسة الجمهورية نأت بنفسها عن الخلاف حتى لا توصف بمحاباة أي من الطرفين.
العديد من الشخصيات والجهات الرسمية، مثل مؤسسة الأزهر ووزير الأوقاف ومفتي الديار المصرية تدخلت بمبادرات لحل أزمة المجلس بدلا من اللجوء للقضاء لكنها فشلت حتى الآن، مما أدى بمحكمة القضاء الإداري لتحديد موعد لبدء جلسات الفصل القضائي بين المتنازعين، بناء على الدعاوى القضائية المقامة من الطرفين ضد بعضهم البعض، وبدأت أولى جلسات المحاكمة بالقضاء الإداري لتعلن المحكمة التأجيل للفصل أو ترك الأمر للوساطة الودية.
الأيادي الحكومية والبيت الصوفي
برغم أن الدعوة إلى صفاء الروح وتنزيه النفس عن الهوى وغيرها من تعاليم الصوفي، لا تجتمع مع السياسة، لكن الساسة في مختلف العصور لم يغفلوا دور الصوفيين -10 ملايين صوفي- في المجتمع المصري المتدين بطبعه، وقد ترسخت على الدوام صورة لعلاقة السلطة مع الصوفيين، يبدو فيها بجلاء الرضا بين الطرفين، فالصوفيون لا يشتغلون بالسياسة، وهو ما يطمئن السلطة، التي تسمح لهم في المقابل بممارسة طقوسهم دونما قيد.
لكن البعض يشير إلى تدخل أيادي حكومية في الصراع حول رئاسة البيت الصوفي، يقول محمد الشهاوي المتخصص في الطرق الصوفية: "بعد مبايعة الشيخ أبو العزائم انتبه الأمن لملف الرجل ولعلاقاته مع الإيرانيين، إنها نقطة تسبب قلقا وحساسية مفرطة، لذا تم الانقلاب على الشيخ أبو العزائم برغم أن ما يقرب من 30 شيخا استنكروا البيعة الثانية التي اختير فيها عبد الهادي القصبي شيخ مشايخ الطرق الصوفية؛ لأنها مخالفة للأعراف الصوفية وللشريعة الإسلامية، في انقلاب على اختيار الشيخ أبو العزائم".
الطرق الصوفية وأمريكا
الجديد في الأزمة هو أنها تتزامن مع معارك واتهامات للصوفية، مرة باتباع أمريكا ومرة بالميول لإيران والشيعة، خاصة بعد أن ذهب الشيخ يوسف القرضاوي إلى أن الطرق الصوفية تمثل الباب الخلفي للشيعة في مصر.
في الأعوام الأخيرة صنفت تحليلات بعض المراكز البحثية الأمريكية الصوفية في خانة "الإسلام المعتدل"، ودعت الغرب إلى تشجيعها ورعايتها باعتبارها تنبذ العنف ولا تتبنى التطرف، خاصة أن فرانسيس ريشاردوني سفير الولايات المتحدة السابق كان قد صار دائم التردد على موالد الصوفية في الشمال والجنوب، وعلى رأسها مولد السيد البدوي الذي زاره مرتين متتاليتين في عامي 2006 و 2007، وزار شيخ مشايخ الطرق الصوفية والجازولية سالم الجازولي، وأعرب ريشاردوني عن سعادته بزياراته المتكررة للموالد الصوفية التي تعكس تدين المصريين المعتدل، وسماحة دينهم وكيف أن الإيمان يربط الأمريكي بالمصري ولا يفرقهما.
وعن الصوفية والتي هي جزء من الشخصية المصرية، تحدث السفير الأمريكي عن الشاعر الصوفي الكبير جلال الدين الرومي، والتي ملأت شهرته الآفاق، لدرجة أن الرئيس الأمريكي بوش في لقائه بالمركز الإسلامي في واشنطن ذكر بعض مقاطع من شعره.
ولأول مرة شارك في أبريل الماضي 10 من مشايخ الطرق الصوفية بمصر في المنتدى الذي تنظمه الرابطة الدولية للتصوف بأمريكا وترأس الوفد علاء أبو العزائم، شيخ الطريقة العزمية، وشاركه عبد الهادي القصبي وآخرون.
الصوفية والتشيع
وحذر د. محمد أبو هاشم شيخ الطريقة الهاشمية الخلوتية الأحمدية وعميد كلية أصول الدين من محاولة استغلال الطرق الصوفية لدخول التشيع إلى مصر، ولفت إلى أن الأمريكيين وجدوا أن الطرق الصوفية تمثل التيار المعتدل في مصر، وأن لهم أتباعا كثيرين، ولذلك يحاولون أن يستثمروا هذا.
وكان محمد الدريني رئيس مجلس رعاية آل البيت، قد زعم في وقت سابق أن هناك تحولات من السنة في مصر إلى المذهب الشيعي، مفصحا عن تقديرات أمنية بوجود حوالي مليون شيعي متسترين وراء 76 طريقة صوفية، بينما التقديرات الأمريكية تصل بعدد الشيعة المصريين بوجه عام إلى حوالي 1% من إجمالي المسلمين في مصر، أي حوالي 750 ألف نسمة فيما يعتبره معظم المراقبين مبالغة كبيرة تزيد عن الواقع بمرات عديدة.
وفي المقابل نشرت بعض الجهات البحثية تقريرًا سريًّا لمجمع البحوث الإسلامية كشف عن محاولة لنشر أفكار ومبادئ المذهب الشيعي بين أتباع ومريدي الطرق الصوفية في مصر من قبل بعض التيارات والجهات الشيعية التي تستغل التشابه بين التصوف والتشيع، وأن الأموال باتت تتدفق على أتباع الطرق الصوفية في مصر، بعد تصريحات أطلقها بعض قيادات رموز التصوف، أشاروا فيها إلى أنه لا فرق بين الشيعة والمتصوفين.
وفي هذا الإطار، أماط التقرير اللثام عن سعي إحدى الطرق الصوفية إلى إنشاء مركز دراسات للشيعة من الباطن بتكلفة تصل لأكثر من عشرة ملايين جنيه في منطقة الدرّاسة حيث تقف وراء هذا الاتجاه بعض الجهات الشيعية.
وحذر المجمع من تزايد النشاط الشيعي في مصر خاصة مع قدوم لاجئين عراقيين ينتمون إلى المذهب الشيعي يسعون لإقامة حسينيات في مصر، وهو الطلب الذي قوبل برفض من الجهات الأمنية المصرية.
وعليه قررت مشيخة الطرق الصوفية المصرية عدم السماح للطرق الصوفية الإيرانية (أهمها: القادرية والجيلية والنقشبندية) بالتمثيل في الهيئة العالمية للتصوف المزمع إنشاؤها في القاهرة خلال عامين.
الصوفية والتبعية للقيادة السياسية
وبرغم ما يحدث في فلسطين من عدوان إسرائيلي أعربت العديد من الطرق الصوفية عن رفضها لتنظيم تظاهرات تضامنية مع أهالي قطاع غزة، معتبرين أنها لا تحقق نتيجة إيجابية وأن التعبير عن التعاطف مع الفلسطينيين يمكن أن يتم من خلال تنظيم الندوات حول قضيتهم، وأكد الشيخ محمد الشبراوي عضو المجلس الأعلى رفضه القاطع لأي مظاهرات يتم تنظيمها من أجل أي قضية إسلامية أو عربية، وقال:
"نحن الصوفية، في وقت الشدة والقضايا الجسيمة مثل ما يحدث في غزة نترك القيادة السياسية تعمل وإذا كان لنا دور، فلن يكون بالتحريض على المظاهرات"، وأشار إلى أن "هناك اتفاقا في المجلس على عدم تشجيع التظاهر، خاصة أن هناك أصحاب نفوس ضعيفة قد يستغلون تلك المظاهرات لتخريب البلد أو إحداث ضرر بالأمن العام".
وتنظر السلطة منذ ثورة يوليو 1952 إلى الطرق الصوفية باعتبارها القوة النائمة التي يمكن استغلالها في مواجهة التنظيمات الحركية الإسلامية النشطة كالإخوان والجماعات الإسلامية الأخرى، خاصة أن الصوفيين لا يتدخلون بالسياسة إلا عندما يكون تدخلهم لصالح الدولة، ويعزو البعض هذا لأسباب كثيرة، لعل أبرزها أن قانون 118 لسنة 1976 والخاص بعمل المجلس الأعلى للطرق الصوفية يتدخل فيه الأمن وخمس وزارات ويمثلون رسميا في المجلس من خلال مندوبين من وزارة الداخلية والأوقاف والإدارة المحلية ووزارة شئون الأزهر ووزارة الثقافة، خلافا إلى أن رئيس الجمهورية هو صاحب اعتماد تعيين رئيس المجلس بصدور قرار جمهوري بتعيينه، ومن ثم تولي السلطات المصرية اهتماما كبيرا بأنشطة هذه الطرق وعلى رأسها الموالد وإيفاد مندوبين عن كبرى مؤسسات الدولة لحضورها، كما أنها توفر لها عوامل النجاح أمنيا ودينيا وترعاها ماديا.
وجه آخر من أسباب الصراع على موقع القيادة في الطرق الصوفية يتجلى وفق رأي بعض المتابعين في المزايا والفوائد التي تتوفر جراء اعتلاء المنصة القيادية في البيت الصوفي، حيث يحصل شيخ المشايخ على راتب شهري قيمته 4 آلاف جنيه من صندوق النذور، بالإضافة إلى 130 تأشيرة حج سنويا من وزارة الداخلية يقوم بتوزيعها على الطرق المختلفة كل طريقة حسب عدد مريديها، وبذلك يضمن شيخ المشايخ ولاء كل الطرق بمشايخها، وجميعها فوائد كفيلة بإشعال الصراع على المنصب بعد رحيل الشيخ السابق.
وتعد صناديق النذور المصدر الرئيسي لتمويل الطرق الصوفية وهي الأموال التي تجمع من الموالد لكل طريقة عن طريق الأوقاف وتوزع منها 90% على جهات الأوقاف والأزهر والثقافة والداخلية والتنمية المحلية، ليتبقى 10% منها تذهب إلى الطرق الصوفية، وللمجلس وديعة بنكية بقيمة 10 ملايين جنيه.
ونظرا لهذه الإمكانيات الكبيرة كان هناك طموحات ومشروعات كبيرة في الشهور الأخيرة لشيوخ الطرق الصوفية، منها إنشاء هيئة عليا للتصوف تجمع شتات الطرق الصوفية في مختلف دول العالم، بهدف تفعيل الحركة الصوفية بشكل أوسع دوليا، مع الانفتاح على الإعلام وإطلاق قناة فضائية تنشر حسب رؤيتهم الاعتدال والفكر الصوفي والمشاركة في المؤتمرات الإقليمية والدولية، وإصدار مجلة دورية توضح نشاط الطرق الصوفية عالميا.
يذكر أن الصوفية دخلت إلى مصر عن طريق الشيخ أبي الحسن الشاذلي مؤسس الطريقة الشاذلية الذي وفد إلى مصر مع جملة من تلاميذه، واستوطنوا مدينة الإسكندرية حوالي سنة 1243م وكونوا بها مدرسة صوفية، وانتشرت الصوفية في العالم الإسلامي في القرن الثالث الهجري كنـزعات فردية تدعو إلى الزهد وشدة العبادة، ثم تطورت تلك النزعات بعد ذلك حتى صارت طرائق مميزة معروفة باسم الصوفية.
ويتولى رئيس المجلس الأعلى للطرق الصوفية منصبه طوال حياته إلى أن يتوفى أو يعتذر عن المنصب، ويتم انتخابه غالبًا بالإجماع وطبقا للمادة الثالثة من نفس القانون التي تنص على أن المجلس الأعلى للطرق الصوفية هيئة لها الشخصية المعنوية المستقلة ذات أغراض دينية وروحية واجتماعية وثقافية ووطنية.