قصص رحلات الحج ومايرافقها من مشاق يبقى لها طابع خاص ، وتزول متاعب الرحلة عند الوصول إلى الديار المقدسة والدخول في أداء المناسك. والحديث عن أوائل المسلمين اليابانيين وجهودهم ومعاناته من أجل نشر الإسلام في تلك البلاد لها خاصية استثنائية أيضا ، وذلك لتأخر وصول الإسلام إلى الشعب الياباني مقارنة بدول المنطقة الأخرى.
والحاج عمر ياما أوكا من أوائل المسلمين اليابانيين ، حيث كانت رحلته لأداء فريضة الحج عام 1909 م ، 1327هـ سبباً في اعتناقه الإسلام ، وبذلك يعتبر أول مسلم ياباني يذهب إلى الحج ، وحتى تاريخ وفاته ظل الحاج عمر ياما أوكا يكتب ويلقي المحاضرات في العديد من المدن اليابانية عن الإسلام ورحلته التاريخية إلى مكة..
حياته واعتناقه الإٍسلام
ولد الحاج عمر ميتسو تارو ياما أوكا في عام 1879م في مدينة فوكوياما التابعة لمحافظة أوكاياما. أكمل تعليمه الأبتدائي والثانوي في نفس المحافظة ثم ألتحق بجامعة طوكيو للغات الأجنبية حيث درس اللغة الروسية في أحد أقسامها. وفي تلك الفترة كانت العلاقات اليابانية الروسية سيئة وربما كان هذا هو السبب الذي شجع عمر ياما أوكا على دراسة اللغة الروسية. وبعد تخرجه من الجامعة عمل مترجماً حربياً في منشوريا (شمال شرق الصين) في قسم اللغة الروسية التابع للجيش الياباني ، وقد كانت الحرب اليابانية الروسية قد بدأت وذلك في عام 1904 وأشترك ياما أوكا في الحرب ومنح وسام " الشمس المشرقة". وفي منشوريا التقى بالجنود المسلمين (من آسيا الوسطى) في الجيش الروسي وكانت هذه بداية اتصاله بالإسلام. وبفضل أجادته للغة الروسية إستطاع أن يفهم تعاليم الإسلام بشكل جيد ، وكان هذا هو العامل الرئيسي لدخوله الإسلام بعد بضع سنين من أتصاله بالجنود المسلمين. كان عمر ياما أوكا الإبن الوحيد لوالدية ولم يتزوج طوال حياته.
أسلم عمر ياما أوكا في بومباي الهند على يد الداعية التتاري الشيخ عبد الرشيد إبراهيم وذلك في 9 مايس 1909م ، وكان الشيخ عبد الرشيد راجعاً من رحله له إلى اليابان وفي طريقة إلى الديار المقدسة لأداء الحج. وخلال فترة بقاء الشيخ عبد الرشيد في اليابان لعدة شهور ، أسلم على يده العديد من اليابانيين ، ويبدوا أن تلاميذ الشيخ من اليابانيين هم الذين أرسلوا عمر ياما أوكا إلى الهند ليلتقي معه ويسلم على يديه ويرافقه في رحلة الحج. وذكر الشيخ عبد الرشيد إبراهيم في مذكراته أنه لقن عمر ياما أوكا الشهادة ثلاث مرات وأسماه عمراً تفاؤلاً بأمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وقام الشيخ بتعليم عمر ياما أوكا أركان الإسلام والوضوء وأفعال الصلاة وكان يدعوه صديقي عمر أفندي..
وبعد قضاء عدة أيام في بومباي كانت هناك رغبة عند عمر أفندي للذهاب إلى المسجد وفعلاً توضأ في احد الأيام وصحب عبد الرشيد ابراهيم إلى المسجد الميمني في بومباي، وصلى عمر ياما أوكا صلاة العصر جماعة لأول مرة في حياته ويقول عبد الرشيد إبراهيم أنه على يقين بأنه لم يسبق لأي ياباني أن أدى صلاة الجماعة على هذا النحو. كان عمر ياما أوكا فرحاً ومسروراً بعد زيارته للمسجد وأداءه لصلاة الجماعة وقد شكر الشيخ لمرافقته في هذه الزيارة كما أبدى أعجابه بنظافة المسجد وتصميمه وكثرة عدد المصلين فيه..
وخلال فترة الشهر الذي أقامة عمر ياما أوكا في بومباي ألتقى بالعديد من المشايخ وطلبة العلم في المساجد والمدارس وتعلم العديد من أمور الدين فقد تمكن من أجادة أفعال الصلاة وتعلم الجزء الهام مما يجب الأعتقاد به . وكان عمر أفندي يحاول تعلم كل شيء عن الإسلام ولكن الشيخ عبد الرشيد كان دائما ينصحه بالتدرج في التعلم وعدم الإستعجال ، ويذكر عبد الرشيد إبراهيم : أنه من يفكر في أحوال عمر أفندي هذه يتيقن بأنه يسعى ليكون مسلماً كامل الإيمان.
رحلة عمر ياما أوكا إلى الحج
في السابع من ذي القعدة 1327هـ بدأت رحلة عبد الرشيد إبراهيم وعمر ياما أوكا إلى الحج حيث ركبا الباخرة من بومباي ، وبعد سبعة أيام وصلت الباخرة إلى عدن وكانت مدينة تابعة للدولة العثمانية في تلك الفترة. في نفس اليوم أبحرت الباخرة باتجاه البحر الأحمر لترسوا في السابع عشر من ذي القعدة في ميناء قماران على البحر الأحمر وهي مدينة تابعة للدولة العثمانية أيضا. وفي هذه المدينة يتم أنزال الحجاج القادمين من الهند ووضعهم في المحجر لمدة أسبوع قبل أن يحصلوا على الموافقة للسفر إلى ميناء جدة. والسبب في وضع الحجاج في المحجر هو للكشف على عليهم والتأكد من خلوهم من الأمراض المعدية وخصوصاً الكوليرا. وأثناء إقامة الحجاج في قماران طلب القنصل الأنجليزي في المدينة مقابلة عمر ياما أوكا والتعرف عليه وسبب قدوم ياباني مسلم للحج. رفض عمر ياما أوكا مقابلة القنصل الأنجليزي وقال نحن الآن في أرض تابعة للدولة العثمانية ولا حاجة لي بلقاء أنجليزي.
وفي الثالث والعشرين من ذي القعدة رست الباخرة في ميناء جدة ، وأمضى الشيخ وعمر أفندي الليلة فيها عند أحد أصدقاء الشيخ. وفي الصباح الباكرأنضم الشيخ وصديقه الياباني إلى القوافل المتجهة إلى مكة المكرمة ليصلا بعد المغرب في نفس اليوم الى المدينة المباركة ، وبسبب الأرهاق والمرض فقد مكث عمر ياما أوكا للراحة عند الشيخ مراد أفندي الذي استقبلهما عند دخولهما مكة.
وأثناء أقامتهم في مكة التقى الشيخ وصديقه الياباني بالعديد من الشخصيات الإسلامية ووجهاء المدينة ، وكان الحديث دائما عن اليابان وضرورة تحرك المسلمين لنشر الدين الحنيف في تلك الديار.
وفي اليوم الثامن من ذي الحجة المعروف بيوم التروية ، تحرك الحجاج من مكة متوجهين إلى عرفات أحد أركان الحج وأولها. وكان عدد الحجاج في تلك السنة يقدر بحوالي ثلاثمائة ألف حاج. وأثناء مكوثهم في منى قام الشيخ التتاري وصديقة الياباني بالتجول في منى والتعرف على الحجاج القادمين من شتى البلدان.
بعد الأنتهاء من مناسك الحج أنضم الشيخ والحاج عمر ياما أوكا الى قافلة متجهة إلى المدينة المنورة . وبعد أربعة عشر يوما من السفر وفي اليوم التاسع من محرم الحرام 1328هـ ، وصلت القافلة إلى مدينة رسول الله صلوات الله عليه وسلم . وبعد أن أتما زيارة قبره صلى الله عليه وسلم كان هناك لقاء بالعديد من العلماء والأشراف وقد طار خبر وصول الشيخ وصاحبه الياباني إلى المدينة مما دفع بالكثير من أهلها بالتوافد للسلام والتعرف عليهم.
وبدعوة من محافظ المدينة المنورة علي رضا باشا عقد أجتماع كبير في باب العنبرية إذ أمتلأ شارع العنبرية بالحاضرين من المشايخ وعليه القوم والعامة ، وتحدث الحاج عمر ياما أوكا في الأجتماع عن الترحيب والإكرام الذي لقيه في مكة والمدينة ، وعن أهداف جمعية " آسيا غي كان " التي تأسست في طوكيو ، وعن مزايا أتحاد الشرق ، وكان حديثاً وافياً ومطولاً وفريداً ، كما تحدث عن مستقبل الإسلام وتشرفه باعتناق هذا الدين ونطق بالشهادتين في موضع إظهار الشكر لله ، وأنه يحس بالإنشراح والرضا وكرر كلمة التوحيد ثلاث مرات قبل أن يغادر منصة الخطابة ، وقد أبكى الحاج الياباني بخطابه الكثير من الحاضرين ، كما علم أن الكثير من النساء في البيوت المجاورة بكين تأثيرا بخطاب الحاج عمر.
وأثناء مكوثة في المدينة أيضا أقام وجهاء المدينة المنورة وليمة خاصة على شرف الحاج عمر ياما أوكا ، وكرمه السيد علوي بافقيه والسيد أحمد برزنجي وغيرهما من كبار القوم. وأقام الحاج عمر في المدينة قرابة أسبوع كان خلالها في حوار مستمر مع الشباب التتاري بسبب أجادته اللغة الروسية. وبعدها قرر الحاج عمر السفر إلى أسطنبول بمفرده ، ويذكر الشيخ عبد الرشيد إبراهيم في مذكراته لحظة الوداع مع صديقة الياباني قائلا:
"كان عمر أفندي ياما أوكا رجلاً جلداً متحملاً للشدائد إلا أن عيناه دمعت أثناء مغادرة البلدة الطيبة ، وأعترته حالة من الحزن ولعل ذلك بتأثير من مجيء أهل المدينة لتوديعة ، وكانت كلمته الأخيرة :
"لي الفخر بأن أكون أول ياباني تشرف بزيارة رسول الله صلى الله عليه وسلم "
حياة الحاج عمر ياما أوكا بعد الحج
بعد عودته من رحلة الحج سافر عمر ياما أوكا إلى تركيا ، ثم روسيا ، ومنشوريا عائداً إلى اليابان ، ثم سافر مرة أخرى إلى مصر وتركيا ، وعاش مدة طويلة في مصر وتركيا . وبفضل رحلاته الطويلة في أنحاء عديدة من العالم استطاع أن يتعرف على تلك المناطق وذلك قبل وبعد الحرب العالمية الأولى وكان يعمل مراسلاً خاصاً لصحيفة أساهي اليومية وقد زار كل مناطق أوربا وأمريكا اللاتينية ايضا. وظل يقوم بدعم الحركة الإٍسلامية في منشوريا ومصر وتركيا بعد الحرب العالمية الثانية ، ثم عاد إلى اليابان عام 1947م.
ألف الحاج عمر ياما أوكا حوالي عشرة مؤلفات أخرها كان " الإسلام واليهودية" ضمنه مخالفات ومؤامرات اليهود ضد الرسالات السماوية وخاصة الإسلام. ويذكر الشيخ أبو بكر موريموتو أن عمر ياما أوكا تنقل بين جزر اليابان المختلفة يحاضر عن الإسلام ، ويتحدث عن رحلته التاريخية إلى الحج ، وزيارته للجزيرة العربية وبلاد الشام وغيرها ، وكان يعقد الندوات ، ويدير مناقشات عن رحلته للأماكن المقدسة ، وكتب عام 1912م عدة كتب عن رحلته إلى الجزيرة العربية وعن أداء فريضة الحج وعن موسم الحج.
عاش الحاج عمر ياما أوكا في منطقة ناكانو أحدى ضواحي طوكيو ، وأعتاد أن يحضر الإجتماع الشهري لجمعية مسلمي اليابان لكنه اختفى فجأة ثم ظهر عام 1954 في مدينة أوساكا. كانت لحيته بيضاء طويلة ويضع على رأسه طاقية تركية ، وكانت ينتعل حذاءاً عسكرياً قديماً ، ويرتدي ملابس شبه عسكرية ، كان يبدوا إنساناً غريباً بالنسبة لليابانيين.
ولم يكن الحاج عمر ياما أوكا مغروراً بالشهرة التي نالها ولا بجمع الثروات ، بل كان همه تعريف ونشر الإسلام في اليابان ، وأدخال أكثر عدد ممكن من اليابانيين ، ولم تكن له هوايات غير السفر تقريبا. وبالرغم من رحلاته العديدة لم يزر أستراليا بينما أغلب مناطق العالم الأخرى تشهد على مروره بها ، كما لم يصيبه مرض خلال الرحلات كلها ولم يمكث في المسشفى ولو مرة واحدة فقد كان قوي البنية وسليم الحواس.
في آخر حياته كان الحاج عمر ياما أوكا يقيم في دار للمسنين في مدينة أوساكا ، ينهض من الساعة الرابعة والنصف صباحاً ، فيخرج من حجرته فيصلي الفجر ثم يبدأ في تلاوة القرآن الكريم.
وفي خريف عام 1959م ، لفظ عمر ياما أوكا أول حاج ياباني أنفاسه الأخيرة ، حيث لم يترك عند وفاته شيئاً يذكر ما عدا حزمتين : واحدة سوداء والأخرى خضراء ، وفيهما حوالي ألف صفحة من كتاباته وأوسمة حصل عليها بعد الحرب اليابانية الروسية ، ورسائل من كبار الشخصيات وبطاقاتهم وكذلك مذكراته...
رحم الله الحاج عمر ياما أوكا وجزاه الله خير الجزاء على جهوده الكبيرة في نشر الإسلام في اليابان وإفناء عمره من أجل هذه الغاية السامية...
المصدر: المصدر : مجلة الحج والعمرة ، 2 صفر 1429
د. نجم عبود البازي
[email protected]
نشرت فى 27 أكتوبر 2012
بواسطة ahmedsalahkhtab
أحمد صلاح خطاب
ابحث
تسجيل الدخول
عدد زيارات الموقع
636,844