ر. تريزولدي، باحث إيطالي حاز على الشهادة العليا في الآداب من الجامعة الكاثوليكية في ميلانو. كرّس جهوده لإجراء دراسات معمّقة، في إيطاليا والخارج، حول حضارات أوروبا وحضارات الشرقيين الأدنى والأقصى القديمة. قدم العديد من الكتب في ميدان تاريخ الثقافة، وهو أيضا مترجم العديد من النصوص الطبية الشرقية إلى اللغة الإيطالية. وله العديد من الكتب حول التاريخ الحديث والمعاصر لليابان وللصين؛ هذا إلى جانب أعماله حول مصر القديمة في كتاب يحمل عنوان: «العالم السحري لمصر القديمة»، ومن كتبه أيضا «قاموس العوالم الغريبة»، و«أسرار الخيمياء»، الخ.
يبدأ مؤلف «طقوس عوالم الأسرار» بتعريف الطقوس على أنها عملية «تكرار كلمات أو أعمال أو حركات محددة كانت قد أثبتت فعاليتها في وضع معين والتي يتم تكرارها في أوضاع مشابهة من أجل الوصول إلى نفس النتيجة». الأمثلة على ذلك عديدة مثل حركات الرقص التي تمارسها بعض الشعوب للتأثير في مظاهر الطبيعة. هذا وكان الإنسان قد حاول دائما الدخول في «عملية تواصل» مع محيطه ومع أقرانه. لكن الإنسان عرف منذ الأزمنة القديمة جدا نوعا من القناعة بأن العالم يطيع أسرارا يمكن الوصول إلى فهمها عبر ولوج طرق خاصة من المعرفة الخاضعة لـ«طقوس» يقوم بها المؤمنون بتلك المعرفة.
في القسم الأول من هذا الكتاب يبحث المؤلف في «أشكال الطقوس» حيث يميّز بين الطقوس التي تنتمي إلى السحر والطقوس التي تشكل «مدخلا إلى عوالم أبطال العصور القديمة» وآلهتها وأسرارها. وبكل الحالات لا يتعلق الأمر بردود أفعال وإنما بأفعال محدودة مدروسة وإذن «ثقافية» وإنما هي أفعال تُبعد الفرد عن المجموعة المحددة التي يعيش بينها كي تدخله إلى «مجموعة» أخرى ذات سمات خاصة تتفرّد بها. هذا المبدأ ينطبق على جميع طقوس الدخول إلى عوالم الأسرار انطلاقا من الأكثر بساطة مثل تلك المتعلقة بالولادة والزواج والموت ووصولا إلى الأكثر خصوصية مثل تلك المتعلقة بعوالم الرهبان والمحاربين.أمّا الوظيفة النهائية لممارسة هذه الطقوس على مختلف أنواعها، فإنها تتمثل في كونها وسيلة للسيطرة على المجتمع؛ وهي تصبح من هذا المنطلق أداة للصعود الاجتماعي وللمحافظة على النظام. بل ويصل الأمر بالمؤلف إلى القول ان «وجود أي مجتمع يمكن تصوّره فعليا على مرور الزمن أنه بمثابة سلسلة من الممارسات الطقوسية التي تسمح بالمحافظة على الأوضاع بما هي عليه ـ أي على الاستقرار الاجتماعي ـ وبنفس الوقت زيادة المعارف والتقنيات الضرورية لتطور المجتمع المعني نفسه».وفي فصل يحمل عنوان: «طقوس الدخول في عوالم الأسرار في الشرق الأوسط ومصر خلال العصور القديمة»، يقول المؤلف ان «الحضارة السومرية قد تكون هي أحد الأشكال الأكثر قدما بين الحضارات، إلى جانب الحضارتين المصرية والصينية». ثم يشير إلى «ملحمة جلجامش» باعتبارها «الوثيقة الأكثر أهمية» التي وصلتنا ب«نسخ متعددة» من قبل السومريين أولا ثم البابليين والآشوريين بعدهم. ويرى المؤلف بها «الشهادة الأكثر قدما لرحلة الدخول إلى عالم الأسرار» عبر رواية مغامرات «بطل من العصور القديمة» ويرجّح أنها كانت تُروى خلال مناسبات دينية ولا يستبعد أن يكون قد جرى استخدامها أيضا ك«طقوس حقيقية لولوج عوالم الأسرار».كان جلجامش قد التقى انكيدو وقاتله أولا كعدو ليصبحا فيما بعد صديقين لا يفترقان. وكان هم جلجامش أن يكتشف «سر الخلود» كي يمنع «نهاية» صديقه. وكان عليه أن يجتاز دروب الظلمات وسط الجبل من أجل الوصول إلى هدفه. ويرى المؤلف في رحلة جلجامش «قيمة طقوسية» كبيرة عبر المرور من الظلام إلى «حديقة النور الباهرة»، وليكتشف بعد ذلك «سر الطوفان الكوني». ويرى المؤلف أيضا في قصة الطوفان «بعدا طقوسيا». اجمالا يتم التأكيد على القيمة الطقوسية عبر الهدف المنشود والذي يمثل بوضوح تحولا من حالة إلى حالة ـ من حالة فناء البشر إلى حالة الخلود ـ وهذا تحول لا يحظى به سوى أولئك الذين تقبل الآلهة وصولهم إليه. أمّا بالنسبة لمصر القديمة فيشير المؤلف إلى أن عددا من الكتّاب الكبار ينفون وجود ظاهرة «طقوس الدخول إلى عوالم الأسرار» في الحقب الأكثر قدما من التاريخ المصري. ويرى آخرون أنه بسبب «حفظ السر المفروض على الذين يريدون ولوج طقوس عوالم الأسرار، فإنه لم يصل لنا أي شيء من الأسرار الكبرى وطقوسها لدى المصريين القدماء». لكن المؤلف يرى أنه من الصعب دعم مثل هذه النظرية. ذلك أن الأسرار والتقاليد القادمة من مصر القديمة كانت موجودة في اليونان اعتبارا من القرن السابع قبل الميلاد، وهناك العديد من المؤشرات لدى المؤلفين اليونانيين تبرهن كيف أن بعض الشخصيات المهمة في العالم اليوناني القديم، مثل الفيلسوفين طاليس وفيثاغورث، كانت على اطلاع بمعارف «طقوسية» مصرية قديمة.ثم إنه قد جرى منذ فترة قريبة العهد نسبيا اكتشاف وثائق تؤكد وجود مثل تلك الطقوس. بل ويتم التأكيد أنها لا تزال بصيغة ما موجودة لدى العديد من الجماعات التقليدية أو الماسونية. وهذا ما يمكن أن تدل عليه بشكل دقيق أسطورة إيزيس وأوزيريس. ويبحث المؤلف أيضا في أشكال الجماعات التي مارست «طقوس دخول عوالم الأسرار» ابتداءً من الجمعيات الحرفية الرومانية التي كانت تضم الحرفيين والعاملين المختصين في مختلف القطاعات والتي لم تكن ذات هدف اقتصادي صرف وإنما كانت أقرب ما يكون إلى جمعيات النجدة المتبادلة الحالية بحيث كانت تقدّم لأعضائها المساعدة المادية والروحانية. لقد ساد الاعتقاد أن انحطاطها قد بدأ في القرن الثالث الميلادي، لكن هناك مؤشرات كثيرة على استمرار وجودها حتى القرن الرابع بل وحتى القرن الخامس. بل ويرى المؤلف أنه يمكن القول أن مثل هذا النوع من «المؤسسات» لم يختف تماما أبدا وصولا إلى الماسونية.
ويرى المؤلف أن مثل هذه الجماعات في القرون الوسطى، من جمعيات الحرفيين والفنانين وبنائي المدينة أو المحلة نفسها، قد مثلت حركة مهمة في الانتقال من التقاليد القديمة للجماعات الرومانية إلى الجماعات التي ستشكل الجمعيات السرية للفترات اللاحقة والتي انتشرت في المدن الأوروبية ما بين القرن الحادي عشر والقرن الرابع عشر. ومن أهم سماتها أنها كانت واقعة تحت تأثير الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية للحقبة المعاصرة لها.وكانت الجماعات التي قامت في مدينة نابولي ما بين القرن الرابع عشر والسادس عشر قد ساهمت في خلق تربة خصبة من أجل تطوير عدة مؤسسات باتجاه ما ستصبح عليه فيما بعد الماسونية. لكن هذا لا يلغي الواقع أن جذور هذه الماسونية تصل أحيانا إلى الحقب القديمة؛ ويؤكد العديد من الباحثين إلى أن بعض ملامح أسطورة إيزيس وأوزيريس موجودة في الطقوس الماسونية.وبعد أن يتعرض المؤلف لتشكيل الجماعات الطقوسية في الشرق الأقصى خاصة تقاليد «الزمن» وتبدياتها في الصين واليابان بالترافق مع البوذية؛ وكذلك للطقوس في استراليا ولدى الهنود، السكان الأصليين للقارة الأميركية، ينهي كتابه بفصل تحت عنوان: «طقوس الدخول إلى عوالم الأسرار في الحقبة الراهنة».ويبيّن المؤلف في هذا الفصل كيف أن ظواهر المجتمع المعاصر، التي يتم الحكم على بعضها بشكل إيجابي وعلى بعضها الآخر بشكل سلبي، إنما هي ليست محاولة مشوشة أحيانا لتكرار احتفالات طقوسية تعود إلى الحقب الماضية. ذلك أن الطقوس هي التعبير الأكثر قدما والأكثر حقيقة للمطالب الشخصية والاجتماعية للإنسان، وبالتالي لا يمكن أن تختفي وإنما تتحول وتعبّر عن نفسها بطريقة جديدة. «إن الأسماء تتغير لكن العبقريات تبقى». وتتم الإشارة إلى أنه لم يتم حتى الآن الاتفاق على تعريف محدد لتعبير «الطقوس» الذي لا يزال مشوش الدلالة، والذي لم تتم دراسته إلا منذ بداية القرن العشرين.
وكان مؤسس علم الاجتماع إميل دوركهايم قد كتب في عام 1912 في دراسة حول سكان أستراليا القدماء والهنود الحمر في شمال القارة الأميركية، ما مفاده: «إن الطقوس الأكثر بربرية، والأساطير الأكثر غرابة إنما هي ترجمة لحاجة إنسانية ما، ومظهر ما للحياة الفردية أو الاجتماعية». وتبدو الطقوس في الحقبة الراهنة عبر نشاطات الأوقات الحرّة مثل الصيد وكرة القدم ومصارعة الثيران ومعارك الديكة. وهذه كلها تعبيرات «حديثة» عن الحروب «القديمة» وإنما بصيغ أخرى.
* الكتاب:طقوس عوالم الأسرار
* الناشر:دوفيكشي ـ باريس 2006

ahmedsalahkhtab

أحمد صلاح خطاب

  • Currently 76/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
24 تصويتات / 600 مشاهدة
نشرت فى 30 نوفمبر 2010 بواسطة ahmedsalahkhtab

أحمد صلاح خطاب

ahmedsalahkhtab
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

633,797