الزائرُ (قصةٌ قصيرةٌ)
قفَّ شعري من صرخته المكتومة، تناهى إلى سمعي أنينٌ خافت، التفت غاضبًا أستطلع المصدر، تفحصت وجوه تلاميذي، دلتني عليه تقلصات وجهه المنقبض، ودموعه المنسابة في صمت، أمرته بالوقوف والتوجه نحوي لأتبين السبب، امتثل على وجل، تقدم في خطوات مضطربة، اتسعت عيناي رُعبًا، من منظر الدم على ثيابه المشروطة بآلة حادة.
<!--[endif]-->
كانت لي طقوسي الخاصة بمجرد دخولي الفصل، أضع حقيبتي الجلدية، وعصاي التي لا تفارقني أمامي على المنضدة، بجوارها أخلع نظارتي الشمسية، وساعة يدي، وخاتمي، أشمر أكمامي إلى المرفقين، أمسك الطبشورة فلا أدع مكانًا على السبورة خاليًا، أدع للجميع فرصة معقولة للنقل، أمسح، وأعيد الكرة مرات، إلى أن ينتهي الدرس.
<!--[endif]-->
أخصص حصة للشرح، لا أسأل فيها أحدًا، أتبعها بأخرى، أسألهم لا أستثني منهم أحدًا، قلما أستعمل خيزرانتي؛ التي لا غنى لي عنها، أرهب بها المتمردين، وأشير بها إلى السبورة، ولي فيها مآرب أخرى، اقتبست هذه المنظومة من معلمي الأول، منذ نيف وعشرين عامًا، بل إني أخذت عنه الخط الجميل، وحب العربية، وعشق القراءة وأدين له بالفضل في كل ما اكتسبته من علم.
يتغاضى زملائي المدرسون عن بعض الهمهمات، والحركات من وراء ظهورهم، ثم يشتكون من تفلت الأمور، لا أسمح بذلك البتة، فمعظم النار من مستصغر الشرر، والجبال الشم من مُستدَق الحَصى، حِصصي مثال يُحتذى للهدوء، والنظام، فصلي هو فصل المتفوقين.
تلطفت بالطفل حتى هدأ روعه، تبينت أن جاره الجنب، طعنه بشفرة حادة؛ ليثأر من مشادة سابقة، سألت الجاني فأقر، عاقبته بضربات غير مبرحة، وبالنبذ في ركن الفصل؛ موليًا ظهره للتلاميذ، مادًا يديه تارة للأمام، وأخرى للأعلى، استدعيت ولي أمره بالهاتف.
حضرت سيدة ثلاثينية، تشي ملامحها بالطيبة وملابسها بالبساطة، اعتذرت عن سفر زوجها لظروف عمله، سلمتها الولد وبينت لها خطورة ما فعل، انتحبت مستعطفة، تبينتُ أن والده سائق شاحنات، يتعاطى الحشيش، ألفاظه داخل البيت نابية، كما هي خارجه، صممت على حضور الوالد ولو في يوم عطلة، وعدم حضور الولد حتى يأتي بصحبته.
<!--[endif]-->
هاتفني، وضربت له موعدًا مناسبًا، فتقابلنا، شاب رياضي في عقده الثالث، وبخته على سلوك ولده، أقنعته أن الطفل يقلده، شككت أن يكون قد استوعب كلامي، وتهديدي بفصل ابنه، إذا تكرر منه ذلك، فضلًا عن تحرير محضر، بالمخفر القريب.
<!--[endif]-->
مرت هذه المشاهد أمام عيني، كشريط سينمائي سريع، وأنا أفحص هوية زائري الكبير، كان ذلك بمكتبي بنظارة المدرسة، بينما يقف أمامي تلميذي الجانح قديمًا.
أحمد عبد السلام_مصر