هذيانٌ
الشارع مكتظ بالسيارات والسابلة، بالكاد أشق طريقي وسط المارة و(التوك توك)، أقفز جانبًا لأتنحى للحمار الذي يجر العربة (الكارو)، يمرق بجواري راكب دراجة بخارية، يطن في أذني بوق سيارة أجرة، أرمق بغيظ البائعين الجائلين الذين افترشوا الرصيف، وألجأونا إلى نهر الطريق، يداي مثقلتان بمشتريات خوت من أجلها جيوبي، يصيح أحدهم: (يا مجنونة يا قوطة) ومن التلفاز يصدح فريد الأطرش ( يا بو ضحكة جنان).
يتقدمني بخطوات قليلة فتيً في ريعان الشباب، جذب انتباهي صوته الذي يعلو وينخفض، ويسيل رقة وعذوبة، ثم ينقلب إلى زمجرة وغضب، بجمل مبتورة وكلمات مبتسرة، لم أر مِن قبل شابًّا مجنونًا! عهدي بهؤلاء الذين يهذون في الشوارع، ويتطوعون لتنظيم حركة المرور، أو الاعتراض على الحكم وسب الحكام، أنهم يرتدون ثيابًا غريبة، وتلاحقهم ضحكات الكبار وأحجار الصغار، أما صاحبنا فكان يرتدي ثيابًا غالية (محزقة)، ويتدلى من إحدى أذنيه قرط؛ يلمع تحت الشعر الناعم المنسدل على قفاه، وجوانب كتفيه، وتلتفُّ حول رقبته سلسلة ذهبية. رابني أمره؛ فأنصتُّ على غير عادتي إلى بعض حديثه، فإذا هو يشكو هجر حبيبته، ويلوح بيده مهددًا بالانتقام، ممن تسبب في فسخ الخطبة، وأنه لن يرضخ لتهديد، و(أعلى ما في خيلهم يركبوه). أجفلت حين التفتَ بغتة ناحيتي وصاح: (أنا مش ناقص جنان). أسرعتُ الخطى حتى حاذيته، كان الفتى يتحدث في الهاتف الجوال؛ المدسوس في سترته، وسماعة (البلوتوث) راقدة في تجويف أذنه.