مُطاردَةٌ (قصةٌ قصيرةٌ)

مُتلبِسًا بِالجُرمِ المشهودِ، تسمرَتْ قدمَايَ، لا أدرِي ماذا أفعلُ؟ وبينِي وبينَ الفارسِ الغاضبِ؛ أمتارٌ معدودةٌ!

بدأتِ الأجازةُ الصيفيةُ؛ بعدَ نجاحِنا في الإعداديةِ. رفاقِي الجددُ تعرفْتُ عليْهم حديثًا؛ مِن ملعبِ الكرةِ الشعبيِّ. مللْنا خوضَ المبارياتِ؛ بِمشاجراتِها اليوميةِ؛ وإصاباتِها المتنوعةِ،  فكرْنا في صيدِ السمكِ؛ لِدفعِ الفراغِ القاتلِ؛ بِأقلِّ الخسائرِ. تمثلتِ العقبةُ، في الحصولِ على طُعمٍ طازجٍ، يصمدُ معَنا طوالَ اليومِ. بيوتُنا العشوائيةُ، تطلُّ على أرضٍ زراعيةٍ خصيبةٍ، لمَّا تمتدُ إليْها يدُ التجريفِ، لِتُحيلَها كأخواتِها؛ كُتلًا إسمنتيةً كالحةً.

كيفَ وافقْتُ على اقتراحِهمُ المشئومِ؛ بِالتسلل إلى الأرضِ الزراعيةِ، واقتلاعِ شتلاتِ الأرزِ، العامرةِ  بِكتلِ الدودِ الأحمرِ؟ لم نبالِ بِملابسِنا، التي لطخَها الطينُ، ولا أحذيتِنا التي خلعْناها خارجًا، ولا الشمسِ التي تكادُ تنسِفُ أدمغتَنا، والعرقُ الساخنُ ينسابُ مِن مسامِّنا. تركزَتْ كلُّ حواسِّنا في مطاردةِ الديدانِ، وانتزاعِها، وتجميعِها، داخلَ كرةٍ مجوفةٍ من الطينِ الرطبِ، عثِنا في الحقلِ فسادًا، بعدَ اقتلاعِ عددٍ لا بأسَ بِهِ من الشتلاتِ، وإلقائِها كيفَما اتفقَ. لم نشعرْ إلَّا بِوقعِ الحوافرِ السريعةِ يقتربُ، وصوتٍ جهوريٍّ يصيحُ:

_مكانَكم يا أولادَ ال....

لم أكنْ لِأسمحَ لِنفسِي، بِالوقوعِ في قبضةِ هذا الجبارِ؛ ذي العينِ الحمراءِ، الذي نُسجَتْ حولَهُ الأساطيرُ، فمجردُ رؤيتِهِ يبعثُ في القلبِ رُعبًا، تتضاءلُ بِجوارِهِ، أفلامُ الرعبِ الأسودِ. وقفَ ممتطيًا فرسَهُ الأسودَ، ملوِّحًا بِعصاهُ الخيزرانِ الصفراءِ، وهو يُرغِي ويزبدُ، مُهدِّدًا ومُتوعِّدًا، بِالويلِ والثبورِ، وعظائمِ الأمورِ.

بينَنا وبينَهُ ترعةٌ صغيرةٌ، لو نخسَ الحصانَ بِمهمازِهِ، لَقطعَها في لمحِ البصرِ، وصارَ فوقَ رؤوسِنا..اقتلعْنا أرجلَنا من الطينِ وجلينَ، وتركْنا كلَّ شيءٍ وراءَ ظهورِنا، وانطلقْنا لا نلوِي على شيءٍ. على مهلٍ، دارَ بِالحصانِ خارجَ الأرضِ الزراعيةِ، وشرعَ في مطاردتِنا. لم ألتفِتْ لِلخلفِ، لكنَّ وقعَ السنابكِ استمرَّ يدوِّي في أذنِي، ويجيبُهُ وجيبُ قلبِي. تفرقْنا لِنلهيَهُ، عسَاهُ ييأسُ منَّا.

لا تسلْنِي كيفَ عدوْتُ؟ ولا كمِ ابتعدتُ؟ فقد قادتْنِي قدمَايَ الخائِفتانِ، إلى منطقةٍ غريبةٍ؛ لم أطرُقْها من قبلُ، لِأقعَ؛ في قبضةِ ثلةٍ من المتشرِّدِينَ، الذين يقطنُون مقابرَ قريبةٍ. دارُوا حولِي دورتَينِ، كالهنودِ الحمرِ، وقبلَ أنْ يهجمُوا عليَّ، ولدهشتِي الشديدةِ، تفرقُوا في كلِّ اتجاهٍ، لِتلتقطَني يدٌ قويةٌ، وتقذفُ بِي، على صهوةِ حصانٍ كالأبنوسِ، ما لبِثَ أنِ اشتدَّ يعدُو، حتَّى لاحَ بيتُنا من بعيدٍ.

لم تُسعِفْني الكلماتُ، لكنَّ الفارسَ المُخيفَ أنزلَنِي بِرفقٍ، وقالَ:

 _ أعلمُ أنَّها أولُ مرةٍ لك؛ لذا لنْ أخبرَ والدَك، لكنْ لا تَعُدْ إليْها، وكُفَّ عن مصاحبةِ هؤلاءِ المخرِّبينَ. 

   أحمد عبد السلام_مصر  

 

 

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 45 مشاهدة
نشرت فى 4 سبتمبر 2015 بواسطة ahmed1957eg

عدد زيارات الموقع

21,474