دمعةٌ (قصةٌ قصيرةٌ)
كادَ يقتلُهُ المللُ، والحرُّ، والحشراتُ، والذكرياتُ الأليمةُ؛ التي تجيشُ بها نفسُهُ، ولا تجدِي محاولاتُهُ لِلهروبِ منها.
لم يجدْ ما يفعلُهُ، سوى الترددِ بينَ بابِ العيادةِ البيطريةِ، والنافذةِ، لعلَّ بصرَهُ يقعُ، على منظرٍ غيرِ مألوفٍ! فجأةً تسمرَ الطبيبُ، وهو يرَى قرويًّا، يلهثُ في طريقِهِ لِلعيادةِ، يقودُ عربةً (كارو) يستقلُّها حمارٌ!
انتقلَ إلى القريةِ حديثًا، لم يألفْ بعدُ جوَّ الجنوبِ الخانقَ؛ الذي يستخرِجُ كلَّ قطرةِ ماءٍ من جسدِهِ، الذبابُ اللزِجُ يلحُّ عليْهِ بِحميميةٍ؛ كأنَّهُ حبيبٌ عادَ على شوقٍ بعدَ غيابٍ طويلٍ، أمَّا في الليلِ فيتولَّى البعوضُ الترحيبَ بِهِ حتَّى الصباحِ. قضَى اللياليَ الأولَى مستيقِظًا، مرعُوبًا من العقاربِ، والزواحفِ، ثمَّ ما لبثَ أنْ تعوَّدَ النَّومَ مِن شدةِ الإرهاقِ، بعدَ أخذِ الاحتياطاتِ اللازمةِ، فكانَ يغفُو ويسيقظُ على لدغةِ، ثمَّ يتبينُ لهُ أنَّهُ كابوسٌ.
أينَما ولَّى وجهَهُ، رأَى الأرضَ الزراعيةَ تكتنِفُ العيادةَ، والبطَّ يسبحُ في الترعةِ المجاورةِ، والأطفالَ يلهُونَ بِالكرةِ، في الطريقِ الترابيِّ الممتدِّ بين الزراعاتِ والبيوتِ، أو يسحبُونَ البهائمَ مع ذوِيهم، في الرواحِ والغدوِّ إلى الحقولِ المجاورةِ. من وقتٍ لآخرَ يَسمعُ على البعدِ، صفيرَ قطارٍ قادمٍ أو مرتحلٍ، علي الشريطِ الحديديِّ الموازِي لِلبلدةِ. القطارُ لا يتوقفُ عندَ البلدةِ، والحوادثُ لا تنتهِي على المزلقانِ المكشوفِ.
مات أبُوهُ وهو في الثانويةِ العامةِ، فاضطرَّ لِلعملِ بِجانبِ الدراسةِ، لِيعولَ أمَّهُ وإخوتَهُ الصغارَ. لم يهنأْ بِنومٍ ولا راحةٍ، واصلَ الليلَ بِالنهارِ، حتَّى تخرجَ في الجامعةِ، وتخلَّى عن كلِّ أحلامِهِ، لِيتمَّ إخوتُهُ تعليمَهم، ولِيزوِّجَ أخواتِهِ البناتِ.
تركَ أبُوهم بيتًا يؤوِيهم، وتركَتْ أمُّهم أرضًا زراعيةً، تدرُّ عليهم ريعًا بسيطًا، تنازعُوا الميراثَ بِمجردِ وفاةِ الأمِّ، لم يسمعُوا لِنصحِهِ، فباعُوا البيتَ والأرضَ، انفرطَ عقدُهم وتفرقُوا، وجدَ نفسَهُ في العراءِ، ونصيبُهُ من الميراثِ لا يكادُ يفِي بِثمنِ شقةٍ متواضعةٍ. انتهزَ أولَ فرصةٍ، وطلبَ نقلَهُ إلى محافظةٍ نائيةٍ.
بينَما كان يفحصُ الحمارَ، راحَ الرجلُ يقصُّ قصتَهُ:
تعثرَ الحمارُ على شريطِ القطارِ، عندَ المزلقانِ، قفزَ مُسرِعًا عن العربةِ (الكارو)، حاولَ رفعَهُ؛ لكنَّ الحمارَ أبَى أنْ يُفارِقَ مكانَهُ! معَ اقترابِ صفيرِ القطارِ، كادَ أنْ يُغمَى عليْهِ. ماذا لو فشلَ في تحريكِ الحمارِ، قبلَ وصولِ القطارِ؟
سقطَ قلبُهُ في قدميْهِ، خشِيَ أنْ يكونَ قد أصابَهُ مكروهٌ، ليس لهُ في الدنيا سواهُ، بِالكادِ زحزحَهُ بعيدًا عن القضبانِ، فحصَ أقدامَهُ وجنبيْهِ، مجردَ خدوشٍ بسيطةٍ، لا تستدعِي هذا الهمودَ، استعطفَهُ وترجَّاهُ، سبَّهُ ونهرَهُ، زجرَهُ وضربَهُ، لم يتحركْ إلا بعدَ أنْ حلَّ عنه العربةَ، وأرخَاها، وحملَهُ عليْها، وساقَهُ إلى العيادةِ البيطريةِ.
أشارَ الطبيبُ لِمساعدِهِ بِإجراءِ أشعةِ (إكس) على القدميْنِ الأماميتيْنِ، وبعدَ مُراجعةِ الأشعةِ أمرَ بِتجبيسِ اليُمنَى، ولفِّ اليُسرَى بِشريطٍ وجبيرةٍ، وأوصَى بِراحةٍ تامةٍ لِمدةِ أسبوعيْنِ، ثمَّ العودةِ لِلمعاينةِ.
بكَى القرويُّ بِحرقةٍ، وهو يرفعُ الحمارَ على العربةِ، ويعودُ بِهِ إلى البيتِ حزينًا يائسًا، سقطَتْ من عينِ الطبيبِ دمعةٌ، حاولَ مسحَها بِسرعةٍ، قبلَ أنْ يفطِنَ إليْها أحدٌ، رصدَها الرادارُ المرافِقُ لهُ، استنكرَ المساعدُ رقةَ قلبِهِ، وطمأنَهُ بِأنَّ الحمارَ، سيكونُ على ما يرامُ بعدَ أسبوعيْنِ، أشاحَ الطبيبُ بِوجهِهِ وهو يغمغمُ: إنَّما أبكِي حمارًا لم يبكِ عليْهِ أهلُهُ، ولا بواكِيَ لَهُ.
أحمد عبد السلام_مصر