عقباتٌ (قصة قصيرة)

وقفَتْ كالأسدِ، تسخرُ مِن زميلاتِها اللاتي ارتعبْنَ، في أولِ درسٍ عمليٍّ لِلتشريحِ.

 منهنَّ مَن ارتعشَتْ قدمَاها، ومنْ فقدَتِ الوعيَ؛ وخرَّتْ مَغشيًّا عليْها، ومنهنَّ مَن اعتذرَتْ؛ وأسرعَتْ إلى الحمامِ؛ تفرغُ ما في جوفِها.

البعضُ آثرْنَ الانسحابَ، ورضيْنَ من الغنيمةِ بِالإيابِ، فحولْنَ أوراقَهنَّ إلى كلياتٍ أخرَى.

 

 التحدِّي الثانِي تمثلَ، في ضرورةِ اقتناءِ هيكلٍ عظميٍّ، والعيشِ بِصحبتِهِ ليلًا ونهارًا، في غرفةٍ واحدةٍ بِالمدينةِ الجامعيةِ، طوالَ سنواتِ الدراسةِ.

 

دلُّوها على سمسارِ موتَى متخصصٍ، مُجرَّبٌ، لا يُشقُّ لهُ غبارٌ، بِوسعِهِ أنْ يأتيَها بِلبنِ العصفورِ لو أرادتْ، طالَما أنَّ نقودَها حاضرةٌ،  رأتْهُ مستقِرًّا عندَها، في بضعِ ساعاتٍ، لقاءَ تسعيرةٍ معلومةٍ، دفعَتْها مُذعِنةً، بل ممتنةً، وهي تغمغِمُ، بِكلماتِ الشكرِ والعرفانِ!

اقشعرَّ جسدُها عندَ لمسِهِ لأولِ وهلةٍ، رحلَتْ بِخيالِها عبرَ الزمانِ والمكانِ، أينَ عاش وتنقلَ؟ كيف ومتى مات؟ راودَتْها أفكارٌ غريبةٌ، حملقَتْ طويلًا في فتحَاتِ الجمجمةِ الكثيرةِ. 

هنا كانَتْ عينانِ تبصرانِ، وهنا كان أنفٌ يرعدُ، ويشمخُ، ويشمُّ، ويستمتعُ، هذا الفمُ حلالًا أكلَ أم حرامًا؟ هنا كان لسانٌ ينطقُ، ويتذوقُ، وأذنانِ تسمعانِ، وتستمتعانِ، داخلَ هذه الكرةِ كان مخٌّ يعملُ، ويتفاعلُ، ونبضاتٌ كهربائيةٌ تصعدُ إليْهِ، وتهبطُ، وأوامرُ تنتقلُ منهُ، لِتهيمنَ على كلِّ جزءٍ، من أجزاءِ الجسدِ، آمرةً، ناهيةً.

 

رافقتْها الكوابيسُ في ليالِيها الأولَى، التي لم تذقْ فيها غمضًا، وشيئًا فشيئًا بدأَتْ تعتادُ ضيفَها، وتألفُ رفقتَهُ، بل وتخطُّ بِالقلمِ على أجزاءَ منهُ، دوائرَ حمراءَ، وأخرى سوداءَ، وتحددُ نقاطًا في مواضعَ معينةً، تصلُ بينَها بِخطوطٍ لها مغزَى.  

 

بينها وبينَ التخرُّجِ، وتحقيقِ حلمِها في ممارسة الطبِّ، كلماتٌ عليها أنْ تُستخرِجَها، من حلقِ هذا الرجلِ، الراقدِ على سريرِهِ، منذُ خمسةَ عشرَ عامًا، مطلوبٌ منها تشخيصُ حالتِهِ بِدقةٍ.

 سلَّمَتْ بِأدبٍ وابتسامةٍ رقيقةٍ، أشاحَ بِوجهِهِ عنْها، حاولَتْ تلطيفَ الجوِّ، بِالسؤالِ عن صحتِهِ هذا الصباحَ، وعلى حينِ غِرَّةٍ، انفجرَ الرجلُ ضاحِكًا، ثمَّ التزمَ الصمتَ؛ كَتمثالٍ مِن الشمعِ.

 

 قلَّبَتْ أوراقَهُ العلاجيةَ، داخلَ الملفِّ المعلقِ بِجوارِ سريرِهِ، لِتوارِيَ خجلَها وصدمتَها. راحَ عقلُها يعملُ بِسرعةٍ، لن تجديَها هذه الأوراقُ نفعًا، ولو حفظَتْ ما فيها حرفًا حرفًا، لا بدَّ أنْ تُخرِجَ أبا الهولِ هذا عن صمتِهِ. مستقبلُها متوقفٌ على كلماتٍ ينطقُ بِها، هكذا أسرَّ إليها زملاؤُها، الذين سبقُوها بِالنجاحِ.

 

المرضَى الزَّمنَى المُقيمُونَ بِالمستشفياتِ الحكوميةِ، يتحولُون معَ الوقتِ، إلى حالاتٍ دراسيةٍ نادرةٍ، ولِكثرةِ ترددِ كبارِ الأساتذةِ عليهم، بِصحبةِ طلبتِهم لِلشرحِ العمليِّ، فإنَّهم يكتسبُون خبرةً عميقةً، بِالمصطلحاتِ الطبيةِ المتعلقةِ بِأمراضِهم. حتَّى لو كانوا أميينَ؛ فتراهم يرددُونَ ما قيلَ كما قيلَ، كببغاواتٍ ذكيةٍ، دونَ أنْ يفهمُوهُ.

 

 يحفظُون عن ظهرِ قلبٍ، كلَّ ما رددَهُ الأساتذةُ أمامَهم مئاتِ المراتِ، لِتشخيصِ حالاتِهم، وتحديدِ الأسبابِ، والأعراضِ، والتطوراتِ، وسبلِ العلاجِ الممكنةِ.

معَ صعوبةِ أمراضِهم، وطولِ فترةِ العلاجِ، واحتياجِهم لِلنفقاتِ، فإنَّهم أدركُوا بمرورِ الوقتِ، قيمةَ الكنزِ الذي يمتلكونَهُ؛ هم طوقُ النجاةِ، وسلمُ الوصولِ، درجُوا على ألَّا يفرطُوا، في هذه المعلوماتِ الثمينةِ مجانًا، لِكلِّ مَن يحتاجُها من الطلابِ، ففرضُوا لكلِّ معلومةٍ سعرًا.

 

فركَ الرجلُ سبابتَهُ وإبهامَهُ، في إشارةٍ فهمَتْ مغزَاها، ففتحَتْ حقيبةَ يدِها، وعبثَتْ فيها قليلًا، ثمَّ ناولتْهُ لفةَ عملاتٍ ورقيةٍ، كانتْ قد أعدَّتْها سلفًا، بِمشورةٍ ممَّنْ سبقُوها، فحصَها الرجلُ سريعًا، ودسَّها تحتَ وسادتِهِ، ثمَّ انطلقَ لسانُهُ مِن عقالِهِ.

 

  في أولِ نوبةِ عملٍ،  وبينَما هيَ غارقةٌ، في استعراضِ شريطِ ذكرياتِها، أتَاها قرويٌّ ملدوغٌ، يلتمسُ مصلًا لِلعلاجِ.

 القلقُ المرتسمُ على ملامِحِهِ يشِي، بِأنَّهُ لم يتعرضْ لِهذا الموقفِ مِن قبلُ. 

سألتْهُ:

- ما الذي لدغَكَ؟

- ثعبانٌ.

حارَتْ في علاجِهِ، فلا تدرِي نوعَ الثعبانِ، فعادَتْ تسألُ:

- هل هو سامٌّ؟

- لا أدرِي؛ ولكنِ انظرِي بِنفسِكِ، لِتعرفِي!

قالَ ذلكَ وهو يفتحُ صرةً مِن القماشِ، أتَى بِها معَهُ، ويُخرِجُ منها ثُعبانًا، ما إنْ رأتْهُ يتلوَّى بِيدِهِ؛ حتَّى ولَّتْ هارِبةً.

 

 

            أحمد عبد السلام_مصر

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 37 مشاهدة
نشرت فى 4 سبتمبر 2015 بواسطة ahmed1957eg

عدد زيارات الموقع

19,406