دُخَانٌ (قصةٌ قصيرةٌ)
لمحَتْ بابَ الشاليه مفتوحًا، خطفَتْ غطاءَ رأسِها، ودسَّتْ قدميْها في حذاءٍ خفيفٍ، وهرولَتْ لا تلوِي على شئٍ!
لِسنواتٍ طويلةٍ، اعتادَتْ قضاءَ أسبوعِ المصيفِ السنويِّ في مطروحَ. بعدَ انقطاعِ أعوامٍ؛ جاءَتْ ومعَها وليدٌ جميلٌ؛ بدأَ الخطوَ والكلامَ من شهورٍ قليلةٍ. حذرَتْها حماتُها مِن السفرِ بِهِ، خوفًا عليْهِ؛ فقد رُزِقَتْهُ بعدَ طولِ انتظارٍ. حاولَتْ إقناعَها بأنَّ مطروحَ لا تختلفُ عن الإسكندريةِ في شئٍ، وأنَّ الناسَ يقصِدُونَ عروسَ البحرِ؛ مِن كل حدبٍ وصوبٍ، فعلامَ يهجرُ الدوحَ بلابلُهُ؟ وتغردُ في غيرِخمائلِهِ؟ طمأنَتْها، ووعدَتْها بِرعايتِهِ، ورجَتْها الدعاءَ لهم بِسلامةِ العودةِ.
الشاليه الذي استأجرُوهُ هذا العامَ واسعٌ، وهادئٌ، يكفلُ الخصوصيةَ. يبعدُ عن البحرِ عشراتِ الأمتارِ، وخلفَهم ظهيرٌ صحراويٌّ شاسعٌ على امتدادِ البصرِ، لولا بائعةُ الذرةِ المشويةِ التي تحتلُّ مكانًا قريبًا، ويتطايرُ حولَها دخانٌ كريهٌ؛ وذراتُ جمرٍ مشتعلة، وصيحاتُ أولادِها الذين يلعبُونَ بِجانبِها، ويُصدِرُونَ ضوضاءَ مزعجةً. قضَوْا أيامَهم متنقلِينَ بينَ الشواطئِ الساحرةِ، في عجيبةَ، والأبيضِّ، وكليوباترا، والغرامِ، وروميل، حيثُ المياهُ الفيروزيةُ المُمتِعةُ، والتكويناتُ الصخريةُ الخلابةُ، واستمتعُوا بِالليالِي البدويةِ الساحرةِ، والأسواقِ الشعبيةِ العامرةِ. مرَّتِ الأيامُ والليالِي سريعًا؛ شأنَ كلِّ الأوقاتِ الجميلةِ، استعدَّت لِلعودةِ معَ غروبِ الشمسِ، بعدَ ساعاتٍ قليلةٍ.
انهمكَتْ في جمعِ المتعلقاتِ المتناثِرةِ، وترْتيبِ الحقائبِ، وإزالةِ آثارِ الملحِ، وجاءَ دورُ الصغيرِ فلم تجدْهُ.
نادتْهُ بِدلالٍ أنْ يخرجَ من مخبئِهِ، ثمَّ علا صوتُها في قلقٍ؛ رويدًا رويدًا، دونَ مُجيبٍ. انقبضَ صدرُها؛ فراحَتْ ترفعُ أغطيةَ الأسرَّةِ، وتنظرُ تحتَها، وتحتَ المائدةِ، وداخلَ الخزانةِ، وتجرِي كالمجنونةِ من غرفةٍ لغرفةٍ، ومن نافذةٍ لأخرَى، وحين رأتِ البابَ الخارجيَّ مفتوحًا، يئستْ أنْ تراهُ ثانيةً، فأعلنَتْ بِالصياحِ.
انتبهَ الزوجُ فزِعًا، كان قد غفَا قليلًا استعدادًا لِلسفرِ، جرَى خلفَها، ثم افترقَا لِلبحثِ عن الصغيرِ، هو إلى الصحراءِ، وهيَ بِاتجاهِ الشاطئِ، خشيَتْ أنْ يكونَ الصغيرُ قد وصلَ لِلماءِ؛ فابتلعَهُ اليمُّ في غفلةٍ من الناسِ، ثمَّ هزَّتْ رأسَها؛ كأنَّها تتخلصُ من هذه الصورةِ البشعةِ، هل وصلَ لِلطريقِ المعبَّدِ على الكورنيش؛ فدهستْهُ سيارةٌ؟ هل اختطفَهُ تجارُ الرقيقِ الأبيضِ؛ لِيدفعُوهُ إلى امرأةٍ غنيةٍ عاقرٍ؟ هل وقعَ في قبضةِ عصابةٍ؛ من عصاباتِ الاتجارِ في الأعضاءِ البشريةِ؟
مسحَ الزَّوجُ بِعينيْهِ الرمالَ الصفراءَ المتراميةَ، فلم يجدْ أثرًا لِحيٍّ، وتوغلَ فيها حتَّى تأكدَ من خلوِّ المنطقةِ المحيطةِ بهم، فعادَ أدراجَهُ كاسفَ البالِ، حزينًا، يجرُّ أذيالَ الخيبةِ، كادَ رأسُهُ أنْ ينفجرَ ولعبتْ بِهِ الظنونُ والهواجسُ، بعضُ المصائبِ تكونُ أكبرَ مِن الاحتمالِ: ليس سهلًا أنْ تفقدَ أموالًا شقِيتَ في تحصيلِها، أنْ تفقدَ عزيزًا اختطفَهُ الموتُ فجأةً، أنْ تفقدَ حبيبًا أو صديقًا أو قريبًا آثرَ الانسحابَ، واختارَ الغيابَ، وواصلَ الهجرَ، أنْ تفقدَ وظيفةً أو منصبًا؛ تعبْتَ في الوصولِ إليْهِ، لكنَّ هذا كلَّهُ رغم قسوتِهِ في الإمكانِ تحملُّهُ بِمشقةٍ وصبرٍ وجلدٍ.
أمَّا أنْ تفقدَ ولدًا ولا تدرِي أحيٌّ هو أم ميتٌ؟ كيف سيعيشُ؟ ماذا سيكونُ مصيرُهُ؟ وهل يلومُ نفسَهُ أم يلومُ زوجتَهُ؟ وكيف ستستمرُّ حياتُهما مِن بعدِهِ؟ هل سيهنأُ لهما عيشٌ؟ هل سيرقأُ لهما جفنٌ؟ هل سيكونُ لِلطعامِ مذاقٌ؟ هل ستغمضُ لهما عينٌ؟ هل يمكن لِلمرءِ، مهما تجلدَ، أنْ ينسَى ولدَهُ المفقودَ، ويواصلَ حياتَهُ المعتادةَ؟ وتمرُّ بِهِ هذه الكارثةُ مرورَ الكرامِ، دون أن ينفطرَ قلبُهُ، وتتصدعَ روحُهُ، وتتزلزلَ أركانُهُ؟
رفع بصره إلى مالكِ السماواتِ والأرضِ، يبتهلُ إليْهِ، أنْ يردَّ عليهِ ولدَهُ، وأنْ يلطفَ بِهِ وبزوجِهِ.
تقابلَا في منتصَفِ الطريقِ وقد أطبقَ عليهما اليأسُ، وانتابَهما الهمُّ والغمُّ.
فجأةً؛ لمحتْهُ قاعِدًا بِجوارِ بائعةِ الذرةِ المشويةِ، وفي يدِهِ قطعةُ حلوَى. اندفعَتْ تحتضنُهُ؛ كأنَّما رُدَّتْ إليها روحُها، وتغرقُهُ لثمًا ودمعًا. رفضَتِ البائعةُ الفقيرةُ أنْ تأخذَ أيَّ مكافأةٍ، ورضيَتْ بِأنْ يشترِيا ما معَها مِن الذرةِ.
أحمد عبد السلام_مصر