صدمةٌ (قصةٌ قصيرةٌ)

دعُوهُ لِي!

بِقدرِ ما أرعبتْهُ الجملةُ القصيرةُ، إلا أنَّ هاتيْنِ الكلمتيْنِ كانَتا بِمثابةِ (شيفرةٍ)؛ فرقَتْ الجُمهورَ الجاثِمَ على صدرِهِ، وقدْ أوشكَ أنْ يُزهِقُ روحَهُ.

إنْ ينسَ فلن ينسَى مدَى حياتِهِ، هذِهِ الدقائقَ الخمسَ، التي كان فيها، قابَ قوسيْنِ أو أدنَى مِن الموتِ. قضَاها؛ كَغريمٍ وقعَ في يدِ أعدائِهِ، بعدَ طولِ تربُّصٍ، فلم يبخلَوا عليْهِ بِسبٍّ أو ضربٍ، ولم يدَّخِرُوا وُسعًا في إيلامِهِ، كلٌّ على قدرِ طاقتِهِ. وتفننُوا في ذلك بِالأيدِي، والأرجلِ، والرؤوسِ، ولولا لطفُ اللهِ، لَكانَ لِلعصيِّ وغيرِها مِن جسدِهِ نصيبٌ.

قبلَها مباشرةً، كان يقودُ سيارةَ والدِهِ الجديدةَ، مُستمتِعًا، سعيدًا بِسماحِهِ لَهُ، بعدَ إلحاحٍ شديدٍ وشفاعةِ والدتِهِ، بِقيادتِها. كيفَ لا وقد وعدَهُ بِذلكَ، وقدْ نجحَ في الثانويةِ بِمجموعٍ كبيرٍ، وأنهَى التدريباتِ وحصلَ على رخصةِ القيادةِ.

برزَ الرجلُ بغتةً، وقطعَ الطريقَ عابِرًا علَى قدميْهِ، مُتجِهًا صوْبَ سيارةٍ فارهةٍ؛ متوقفةٍ على الجانبِ الآخرِ. السيارةُ التي أمامَهُ كانت تحجِبُ الرجلَ عنهُ، عندَما تفادَاهُ سائقُها بِمهارةٍ نادرةٍ، ظهرَ فجأةً أمامَ صاحبِنا؛ كأنَّما انشقَّتْ عنهُ الأرضُ فلم يملكْ إلَّا الضغطَ على المكابحِ، بِكلِّ ما أُوتِيَ مِن قوةٍ، حتَّى خطَّتِ العجلاتُ خطًيْنِ أسوديْنِ على الطَّريقِ، وسُمعَ صريرُها مِن بعيدٍ.

ومعَ كلِّ هذا فقدْ وقعَ المحظورُ!

اصطدمَتِ السيارةُ بِالرجلِ، لِتُلقيَهُ هامِدًا على بُعدِ متريْنِ منها. لِسوءِ حظِّهِ، كان الحادثُ بِالقربِ من مَقهىً شعبيٍّ شهيرٍ، في ثوانٍ معدودةٍ كان المقهَى خالِيًا، وكلُّ روادِهِ يتناوبُونَ على السائقِ المسكينِ، لكمًا ولطمًا وركلًا.

حينَ لمحَهم يقترِبُون، كان كلُّ همِّهِ ألَّا تمتدَّ أيدِيهم إلى السيارةِ بِسوءٍ، فكلُّ ما يحدثُ لهُ هينٌ.  سارعَ بِالنزولِ منها، قبلَ أنْ يحطمُوها فوقَ رأسِهِ، حاولَ أنْ يتفادَى الضرباتِ المنهالةِ عليْهِ،  فلم ينجحْ إلَّا قليلًا، وصلَ إليْهِ منها أضعافَ ما أفلتَ منْهُ.

هل كان خطؤهُ، أنَّهُ اتخذَ وضعَ الدفاعِ من البدايةِ؟ وهل كان الحالُ لِيتغيرَ، لو بادلَهم هجومًا بِهجومٍ، وقتالًا بِقتالٍ؟ وهل كان يمكنُهُ إجلاؤهم، أوحتَّى صدِّهم، وهم الذين تكاثرُوا عليْهِ، فأضحَى قطعةَ سكرٍ يُغطيها النملُ؟

ضاعَ صوتُهُ في الزِّحامِ، وهو يحاولُ أنْ يشرحَ لهم أنَّهُ غيرُ مُخطئٍ، لم يجدْ منهم رجلًا رشيدًا يسمعُ أو يعِي، ولم يتدخلْ طرفٌ ثالثٌ بينَهُ وبينهم، فلا شُرطةَ، ولا صحافةَ، ولا حتَّى عابرِ سبيلٍ، ينهاهم عن الفتكِ بِهِ.

جمدَ الجميعُ كالتماثيلِ، حينَ تحركَ الرجلُ المصدومُ من رقدتِهِ، بِملابسِهِ الأنيقةِ، وربطةِ عنقِهِ الفاخرةِ، وصدرَتْ منهُ آهةُ توجعٍ، أسرعُوا إليْهِ، وانشغلُوا بِإفاقتِهِ، حتَّى وقفَ على قدميْهِ. أمرَهم أنْ يُخلُّوا بينهما، فأيقنَ أنَّ الرجلَ قاتلُهُ لا محالةَ.

لا تسلْ عن دهشتِهِ، عندَما اعتذرَ لهُ الرجلُ بِأدبٍ جمٍّ، وأعلنَ لِلملأِ أنَّهُ هو المخطئُ؛ لأنَّهُ اندفعَ ساهِمًا شارِدًا، دونَ أنْ يتبينَ خلوَّ الطريقِ. اعترضَ بعضُهم بِأنَّهُ لا يجبُ تركُهُ، حيثُ كادَ يتسببُ في قتلِهِ. أمسكَ الرجلُ بِيدِهِ، وصرفَهُ بِرفقٍ، مؤكِّدًا أنَّ الموضوعَ انتهَى، ولا داعيَ لِلتَّصعيدِ.

ما لم يعلمْهُ صاحبُنا، أنَّ الضحيةَ كان تاجرَ مُخدِراتٍ عتيدًا، وقد انتهَى لِلتوِّ من إبرامِ صفقةٍ

كبيرةٍ، بِحضورِ صاحبِ المقهَى، وعددٍ من التجارِ، ولازالتِ العيِّنَةُ في جيبِهِ.

 

    أحمد عبد السلام_مصر

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 39 مشاهدة
نشرت فى 1 سبتمبر 2015 بواسطة ahmed1957eg

عدد زيارات الموقع

19,406