سِرُّ فخرِي (قصةٌ قصيرةٌ)
على أثرِ تشميعِ شركتِنا؛ وتشريدِ مائتيْ أسرةٍ أو يزيدُ، نزحْتُ مِن مدينتِنا؛ التي كانت قريةً إلى عهدٍ قريبٍ. زحفْتُ لِلعاصمةِ، أنا الطبيبُ البيطريُّ، مهيضَ الجناحِ؛ خاويَ الوِفاضِ. عملْتُ في بضعِ كافيتيرياتٍ ومطاعمَ عائمةٍ، لأوفرَ لِنفسِي المأوَى والمعيشةَ؛ في مدينةٍ يضيعُ فيها مَن لا مأوىً لَهُ، تحملْتُ الحرَّ والقرَّ ومتاعبَ الزبائنِ وأصحابِ العملِ وأبتْ نفسِي اللجوءَ إلى أحدِ أقربائِنا العديدينَ. بعدَ سنواتٍ من العذابِ، عدتُ لِبلدتِي ذاتَ مساءٍ، لِتنبحَ عليَّ الكلابُ؛ لولا الظهورُ المفاجيءُ لِصديقِي اللدودِ (علوان الدهشوري)؛ نجلِ شيخِ الخفراءِ؛ الذي أنقذنِي منها، ثمَّ تفرسَّ فيَّ للحظاتٍ وصاح:
_مرحبًا يا دكتور! خطوةٌ عزيزةٌ!!
بادلتُه التحيةَ الباردةَ، وسألتُهُ عن أحوالِ البلدِ، فقالَ ضاحكًا:
_على رأيِ القائلِ: لا جديدَ تحتَ الشمسِ!
وأضافَ:
_اليومَ دفنَّا عمَّك فخرِي أتذكرُهُ؟ أم أنَّ الغربةَ أنستَكَ؟
_ لا، طبعًا... البقاءُ للهِ.
سرحْتُ في عمِّ فخرِي وأسرتِهِ؛ التي لا يعرفُ أحدٌ على وجهِ التحديدِ؛ متى استوطنَتْ قريتَنا، كان الرجلُ كهلًا؛ ذا هيبةٍ عجيبةٍ؛ ببشرتِهِ السمراءَ التي ينفردُ بِها عن أهلِ القريةِ؛ وتقاطيعِهِ الهادئةِ؛ وعينيْهِ اللتيْنِ تتواريانِ دائمًا خلفَ عدساتٍ سوداءَ قاتمةٍ، يكادُ لا يفارقُ المسجدَ، بِجلبابِهِ الأبيضَ الناصعِ كشعرِهِ، ومسبحتِهِ الفضيةِ الثمينةِ، وحينَ تجاذبُهُ أطرافَ الحديثِ؛ تجدُهُ موسوعةً في شتَّى العلومِ والفنونِ، يعيشُ وحيدًا؛ مع خادميْنِ مِن بلدتِهِ؛ بعدَ وفاةِ زوجتِهِ؛ وتفرقِ بناتِهِ معَ أزواجهِنَّ؛ في أرضِ اللهِ الواسعةِ.
قلتُ:
_ اللهُ يرحمُهُ، كان رجلًا طيبًا.
_ كانتْ جنازةً مهيبةً، تصورْ مَن الذي حضرَها؟
_ العمدةُ طبعًا وشيخُ الخفراءِ والنوابِ وأهلِ البلدِ!
ضحكَ ضحكةً طويلةً؛ لا تليقُ بِجلالِ الموتِ؛ وأردفَ:
_ والمحافظُ وستةٌ مِن كبارِ رجالِ الدولةِ بينهم مندوبٌ عن الرئاسةِ!
ابتلعْتُ دهشَتي؛ لأحافظَ على رزانتِي أمامَ ابنِ علوانَ...
كانت العموديةُ في أسرتِي لِعقودٍ خلتْ. ثم بدأتْ أسرةُ الدهشوريِّ في منازعتِنا؛ إلى أنِ استقرَّتْ فيهم العموديةُ؛ والشياخةُ؛ ونيابةُ مجلسي الشعبِ والشورَى؛ ولم يبقَ بأيدِينا سوى المحلياتِ؛ والجمعيةِ الزراعيةِ.
وكنَّا_أنا وهو_ كفرسيْ رِهانٍ؛ طوالَ دراستِنا؛ إلى أنِ افترقْنا في الجامعةِ. فتخرجْتُ أنا في الطبِّ البيطري؛ بينما آثرَ هو الحقوقَ؛ لِيستقرَّ بِي الأمرُ؛ في شركةٍ استثماريةٍ؛ لِتعبئةِ وتصديرِ اللُّحومِ، بينما صارَ هو وكيلًا للنيابةِ. وظلتْ صداقتُنا لم تتأثرْ، إلى أنْ جاءَتْ أيامٌ نحِساتٌ...
انتشرَتْ شائعاتٌ؛ بِأنَّ صاحبَ الشركةِ ينتمِي لِفصيلٍ معارضٍ؛ وأنَّ جُزءًا لا يُستهانُ بِهِ؛ مِن أرباحِ الشركةِ الناجحةِ؛ يذهبُ لِدعمِ الإرهابِ! سرَتِ الشائعةُ؛ سريانَ النارِ في الهشيمِ، وسرعانَ ما قلبَ الجميعُ لنا ظهرَ المِجنِّ.
دوهمَتِ الشركةُ، وأوقِفَ صاحبُها؛ وبعضُ كبارِ المديرينَ؛ وأفلتُّ أنا والبعضُ من المحنةِ بِأعجوبةٍ. لكنَّ آثارَها طاردتْني؛ وأعادتْني صفرَ اليدينِ؛ بعدَ سنواتٍ من التخرجِ.
أفقتُ على صوتِ ابن علوانَ يستطردُ:
_كان عمُّك فخرِي في منصبٍ سياديٍّ رفيعٍ؛ قبلَ التقاعدِ!
هذِه المرةَ لم أستطعْ كِتمانَ دهشتِي:
_إذًا الخادمانِ اللذانِ كانا يلازمانِهِ هما حراستُهُ الخاصةُ؟
أومأَ بِرأسِهِ باسمًا، ثمَّ فجَّرَ قنبلتَهُ الثانيةَ في وجْهِي:
_وهو الذي أبلغَ عنكُم!
_ماذا؟
_اللهُ يرحمُهُ، كان وطنيًا مُخلصًا حتَّى النُّخاعِ..
_............
_ لم تمنعْهُ مجاملتُكم مِن أداءِ واجبِهِ تجاهَ الوطنِ! وإنْ لم يكنْ له منقبةٌ؛ إلا طردُ الكلابِ عن البلدِ لكفتْهُ!
ولِأولِ مرةٍ منذُ مُقابلتِنا، انتبَهْتُ إلى أنَّ سبابتَهُ؛ لم تُفارقْ زِنادَ مُسدسِهِ لحظةً!