بركاتٌ (قصةٌ قصيرةٌ)

على يمينِ الداخلِ إلى مدينةِ الإسكندريةِ؛ عن طريقِ كوبرِي مُحرم بك؛ تقبعُ أسفلَ الكوبرِي؛ الشركةُ الشرقيةُ للدخانِ والسجائرِ. تدلُّك عليْها رائحةُ التبغِ؛ التي تقتحمُ أنفَك؛ في دائرةٍ يتعدَّى نصفُ قُطرِها الكيلُو مترَ، ومعَ أنَّ شركتَنا لا علاقةَ لها بها؛ مِن حيثُ النشاطُ أو الموقعُ؛ إلا أنَّ لفحاتِها طالتْنا؛ رغمَ أنوفِنا.

في عصرِ الانفتاحِ الاقتصادِي؛ والمدِّ الدعوِي، كانت تطالعُك أسماءٌ مثلُ: ( القادسيةُ – اليرموكُ – المدينةُ – مكةُ – بدر... ) كشركاتِ توظيفِ أموالٍ؛ في مجالاتٍ تجاريةٍ عديدةٍ.

صاحبُ شركتِنا أستاذٌ غيرُ متفرغٍ بالجامعةِ، يقضِي أسبوعَه مناصفةً؛ بين الجامعةِ والشركةِ، أما طاقمُ العملِ فكان خليطًا من شتَّى الشهاداتِ الجامعيةِ:  زراعةٌ وتجارةٌ وهندسةٌ وعلومٌ سياسيةٌ وآدابٌ ... كلُّهم شبابٌ متحمسٌ حديثُ التخرجِ، لا يشغلُه عن العملِ زوجةٌ ولا ولدٌ.

الشركةُ تعملُ في تجارةِ الموادِ الغذائيةِ .. المرتباتُ مجزيةٌ .. العملُ يجرِي على قدمٍ وساقٍ؛ سواءٌ حضرَ صاحب العمل أم غابَ .. الكلُّ أسرةٌ واحدةٌ، والأرباحُ تتعاظمُ .. إلى أنْ تسلمَ الأستاذُ نعيم بركات عملَه؛ فحلَّتْ بركاتُه على الجميعِ.

الرجلُ ستينيٌ، يتمتعُ بصحةٍ جيدةٍ؛ بالنسبةِ لِسنِّهِ؛ عدَا سعالٍ مزمنٍ؛ ورعشةٍ خفيفةٍ بالكفِّ، ذو وجهٍ مستديرٍ أبيضَ مشربٍ بِحُمرةٍ، تزينُهُ لحيةٌ بيضاءُ خفيفةٌ، وتعلُوهُ صلعةٌ؛ تتوسطُها "زبيبة"؛ وتحتَها أنفٌ دقيقٌ؛ وعينانِ ضيقتانِ؛ تشعانِ دهاءً، طويلٌ بِشكلٍ لافتٍ، ذربُ اللسانِ، يتحدثُ كثيرًا عن رحلتِهِ اليتيمةِ لِلحجِّ وعمراتِهِ العديدةِ وصلاتُهُ أمامَ الكعبةِ مباشرةً على الرخامِ الأسودِ الحارِّ كالجمرِ والأبيضِ الباردِ كالثلجِ.

 كان مُحاسبًا متقاعدًا، وقد أمضَى جُلَّ خدمتِهِ أمينًا لِمخازنِ الشركةِ الشرقيةِ للدُّخانِ والسجائرِ، آخرُ مرتبٍ وصلَ إليْهِ يُعادلُ أولَ مرتبٍ يتقاضَاهُ أحدُنا، كان لِلرجلِ طرقٌ غريبةٌ في الإيقاعِ بِنا والوقيعةِ بينَنا،

مرَّ شهرُ العسلِ سريعًا، ثم هبَّتْ رياحُ التغييرِ: انتهَتْ إلى غيرِ رجعةٍ؛ سياسةُ البابِ المفتوحِ؛ وأحيطَ صاحبُ الشركةِ بِجدارٍ عازلٍ، فلم يعدْ يُرى إلا في المناسباتِ، وكان مِن قبلُ يجمعُنا آخرَ اليومِ؛ في سيارتِهِ المرسيدس الضخمةِ ليقربَنا إلى منازلِنا؛ مع الدعواتِ وأطيبِ التمنياتِ .. وفي الطريقِ؛ يناقشُنا في مشاكلِ العملِ، ويسمعُ اقتراحاتِنا، لم نعدْ نتسلمُ مرتباتِنا بِالكاملِ، فقد ابتكرَ الوافدُ الجديدُ سياسةَ الخصمِ والجزاءاتِ؛ مع وقفِ الإضافِي والمكافآتِ.

كثيرًا ما رددَ على مسامعِنا أنَّ الدكتورَ ( فاتحُها مدرسةً ) وأنَّهُ لو استبدلَ بِنا طاقمَ دبلوماتٍ؛ لكان أجدَى لِلشركةِ وأوفرَ، اعتادَ الحضورَ لِلعملِ مبكرًا؛ لِيكمنَ في مكتبٍ جانبِيٍّ؛ واضعًا سجلَ الحضورِ في مكانٍ قصيٍّ، لا بدَ لِلوصولِ إليْهِ مِن المرورِ عليْهِ. فإذا انقضَتِ المدةُ المتاحةُ لِلتوقيعِ؛ برزَ فجأةً من الظلامِ؛ وسحبَ السجلَ إلى مكتبِهِ؛ وفحصَهُ على مهلٍ؛ وقدْ دوَّنَ في ورقةٍ صغيرةٍ؛ لحظةَ حضورِ كلٍّ منا؛ بِالدقيقةِ والثانيةِ. فإذا سجلَ أحدُنا حضورَهُ في الثامنةِ والنصفِ؛ تفاديًا للخصمِ، فاجأَهُ بأنَّهُ إنَّما حضرَ بعدَ ذلك بِدقيقتينِ، وأنَّ هذا يقتضِي الخصمَ مرتيْنِ: مرةً لِتجاوزِهِ المدةَ القانونيةَ، ومرةً أخرَى لِلتزويرِ في محررٍ رسمِيٍّ، بِالإضافةِ إلى الكذبِ على الرؤساءِ. ثمَّ يسترسلُ في عِظةٍ بليغةٍ؛ عن عواقبِ الكذبِ؛ والأكلِ الحرامِ، وصاحبُ الجُرمِ مِنَّا مُطرقٌ بِرأسِهِ خجلًا؛ لا يملك إلا الإنصاتَ؛ وهو يتميزُ من الغيظِ، حتَّى إذا انتهتْ "وصلةُ الردحِ الأخلاقِي"؛ أَذنَ لَهُ في الانصرافِ إلى عملِهِ؛ بعدَ التوقيعِ بِالعلمِ على إخطارِ الجزاءِ.

 كانتْ ثالثةُ الأثافِي؛ التشكيكَ في الذممِ الماليةِ للبعضِ؛ بعدَ التضييقِ على الآخرينَ، إلى أنْ انفرطَ العقدُ؛ وأُغلقَتِ الشركةُ.

التحقْتُ بِعملٍ آخرَ؛ وسافرْتُ لِلعملِ بِالمركزِ الرئيسِ بِالقاهرةِ؛ وفي موعدِ انعقادِ الجمعيةِ العموميةِ؛ كُلِّفْتُ بإعدادِ أوراقِ الانعقادِ؛ وإخطارِ المدعوينَ، فوجِئتُ أنَّ بينهم؛ المديرَ الماليَّ بالإسكندريةِ: الأستاذُ نعيم بركات!

 

 

 

 

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 57 مشاهدة
نشرت فى 22 يوليو 2015 بواسطة ahmed1957eg

عدد زيارات الموقع

22,207