مسجد السلطان حسن معجزة الفن الإسلامي
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عندما تقفُ في الميدان ناظرًا إلى المسجد الملاصِق لمسجد "الرفاعي" بميدان صلاح الدين بحى القلعة تشعرُ بالرهْبة وكأنَّك تقفُ أمامَ قلعة ضخْمة تمثِّل تُحفة معمارية رائعة، بسبب جُدرانه العالية الضخْمة والإفريز الذي يتوِّجها، وما تمتاز به مِن زخارف معمارية تُشْبه خلايا النحل، وتخدع النظر، فتبدو الجُدران أعلى مما هي عليه في الحقيقة.
إنه جامع "السلطان حسن "،الذى يعد أكثر آثار القاهرة تناسقاً وانسجاماً، ويمثل مرحلة نضوج العمارة المملوكية، بناه السلطان الملك الناصر حسن بن محمد بن قلاوون، فجاء أضخم وأروع معمارياً من مسجد والده السلطان قلاوون بشارع المعز لدين الله الفاطمي، استمر بناؤه ثلاث سنوات، وجمع بين مسجد ، ومستشفى، ومدرسة وملحقاتها عام 757 هـ مكان قَصْرين للأميرين "يلبغا اليحياوي، والطنبغا المارداني" بعد هَدْمهما،
«هذا الجامع هو الوحيد بين جوامع القاهرة الذي يجمع بين قوة البناء وعظمته، ورقة الزخرفة وجمالها، وأثره قوي في نفوسنا؛ إذ له خصائصه التي لا يشترك معه فيها غيره»، هكذا قال المستشرق الفرنسي «جاستون فييت»، والذي لا يختلف كثيرا عن وصف الرحالة المغربي «الورثيلاني» الذي قال عنه «إنه مسجد لا ثاني له في مصر ولا في غيرها من البلاد في فخامة البناء ونباهته» وقال عنه المقريزي إنَّه أكبر من إيوان كسرى، وعنه قال "لوبون": إنَّه يَزيد على كنيسة "نوتردام" الباريسيَّة حَجْمًا.ووصفه المقريزي في خُططه قائلاً: "جاء في أكبر قالَب، وأحسن هِندام، وأضخم شكل، فلا يُعرف في بلاد الإسلام مَعبد يُحاكي هذا الجامع. وعنه قال "جوستاف لوبون" في كتابه القَيِّم "حضارة العرب": "تُذَكِّرنا سَعة جامع السلطان "حسن" العظيمة بأكثر كنائسنا، وهو يزيد على كنيسة "نوتردام" الباريسيَّة حجمًا، ويبلغ ارتفاع قُبَّته العظيمة 55 مترًا، ويبلغ ارتفاع أعلى مآذنه 86 مترًا؛ أي: ضِعف ارتفاع عمود "فاندوم" في باريس، ولجامع السلطان "حسن" في مجموعه منظرٌ رائع لا تَجِد مثله في مساجد الهند الكبيرة العريقة.
وتكلف إنشاء هذا المسجد أمولا طائلة (قيل في بعض الكتب إنها 750 ألف دينار من الذهب)، وتوفرت فيه دقة الصناعة وتنوع الزخرف، كما تجمعت فيه شتى الفنون والصناعات فنرى دقة الحفر في الحجر ممثلة في زخارف المدخل ومقرنصاته العجيبة. وبراعة صناعة الرخام ممثلة في وزرتى القبة وإيوان القبلة ومحرابيهما الرخاميين والمنبر ودكة المبلغ وكسوة مداخل المدارس الأربعة المشرفة على الصحن ووزرات أعتاب أبوابها كما نشاهد دقة صناعة النجارة العربية وتطعيمها مجسمة في كرسي السورة الموجود بالقبة.
وتبلغ مساحتة ا7906 أمتار مربعة (ما يقرب من فدانين)، وطوله 150م، وعرضه 68م، وارتفاعه 37.70م، وللمسجد مئذنتان رشيقتان.
وتأتي القبة خلف جدار المحراب، بعد أن كانت تشغل أحد الأركان في المساجد الأخرى، وهذا الوضع ظهر في هذا المسجد لأول مرة، وتبلغ مساحة القبة 21 في 21 مترا وارتفاعها 48 مترا، ويرجع تاريخ إنشائها إلى القرن السابع عشر حيث حلت محل القبة القديمة، وبأركانها مقرنصات ضخمة من الخشب.
عناصر المسجد المعمارية
ورغم أنَّ مسجد السلطان "حسن" يَحتوي على أربعة عناصر معمارية ذات تصميمٍ فريد؛ حيث إنَّها خالية من الجهات الأربع، وتحتوي على مسجد وضريح، وأربع مدارس ومستشفى، إلاَّ أنَّه لا يوجد له سوى مدخلٍ واحدٍ فريدٍ يُعدُّ من أعظم مداخل العمائر الإسلاميَّة في مصر على الإطلاق برأْي جميع الأَثَريين والمؤرِّخين، ويبدو المدخل شاهقَ الارتفاع، يحتوي على دَخلتين متقابلتين؛ كل دخلة يُزيِّنها عمود رخامي ذو قاعدة وتاج، وتنتهي الدخلتان بصفوفٍ من المقرنصات الدقيقة، مُزَيَّنة بألوان مختلفة ما بين الأسود والأبيض، وتحتوي واجهة المدخل على زخارف هندسيَّة رائعة، وتنتهي قِمَّة المدخل بقطعة مُشعَّة على شكلِ قُرص الشمس تخرج منه الأشعة، وتمتاز كُتلة المدخل ببروزها عن كتلة المسجد، وكان للمدخل بابٌ له مصراعان من الخشب، مغشيان بالنحاس، ويُعَدُّ من أنفس الأبواب النحاسيَّة، وقد قامَ بنقْلها السلطان "المؤيد شيخ" إلى مسجده بشارع الغورية سنة 819 هـ، وقد وصَفَ المؤرِّخ "هرتس باشا" زخارفه بأنَّها لا نظيرَ لها في الديار المصرية، وأنَّ أمثالها كثيرة الوجود في آثار السلاجقة التي تَمتاز الأبواب فيها عن باقي البناء بكثرة زخارفها.
دهليز وصحن وإيوانات
وقد جاءتْ عمارة الدهليز بسيطة وخالية من الزخارف، تهيِّئ الزائر لتلقِّي الأثر الجارف الذي سيغمره حين يقعُ بصرُه في نهاية الدهليز على الصَّحْن والإيوان الكبير، ويؤدِّي المدخل الرئيس للجامع إلى دركاة فَخْمة تعلوها قُبَّة مَحمولة على ثلاثة إيوانات، تعلوها أنصاف قِبَاب من المقرنصات، تدفعُ بالنظر نحو القُبَّة رمز السماء، وفي العناية بزخرفة هذه الدركاة ما يُوحي بأنَّها تُحَيِّي الداخل أجمل تحيَّة مُرحِّبة به، ومنها يتَّجه الداخل يسارًا ثم يمينًا، ثم يسارًا عن طريق دهليز إلى صَحْن مكشوف تشرف عليه أربعة إيوانات مُتقابلة ذات عقود أكبرها إيوان القبلة، وتأخذ الْتواءات الدهليز هذه بلبِّ الزائر شيئًا فشيئًا بعيدًا عن العالم الخارجي؛ لتفضي به إلى عالم خاص من السكينة والصفاء، وتنفردُ كلُّ مدرسة من مدارس المذاهب الإسلاميَّة بإيوان، كما يتوسَّط الصَّحْن المكشوف مِيضأة تعلوها قُبَّة تستندُ إلى ثمانية أعمدة، ويسترعي الانتباه بحق تصميم أرضيَّة صَحْن المسجد بتقسيماتها التي تبدأُ مِن قِطع الرخام الملوَّن الصغيرة التي لا يتجاوز حَجْمها بضعة سنتيمترات إلى كامل مسطح الصَّحْن البالغ ضلعه ثلاثين مترًا في تدرُّج، وفي تكوينات هندسيَّة تنمو من الداخل إلى الخارج، مع الاحتفاظ بوحدة التصميم، سالكة سبيلَ الوحدة مع التنوع، وكأنَّها تخطيطُ مدينة رائعة التصميم.
ويحيط بجدار إيوان القِبلة طراز من الكتابة الكوفيَّة البديعة فوق خلفيَّة من التوريقات الخلاَّبة في تناسق واضحٍ؛ من حيث حَجْمها، ومن حيث مكانها الذي تحتلُّه من الجدار.