بَلاغَةُ الصَّمْتِ
أَفَقْتُ عَلَى أعْتابِ الثانويَّةِ العامَّةِ أتَرقَّبُ صدْمَةَ الامتحانِ كما ينتظِرُ الشخْصُ المقيَّدُ على قضبَانِ القطَارِ لا يملِكُ فِكَاكًا ولا قِبَلَ لَهُ بِدفْعِ القَدَرِ الداهِمِ. مستوايَ الدراسِيُّ جيدٌ؛ لا أتغيَبُ، ولايشغلُنِي عنْ المذاكرَةِ شاغِلٌ، ثمةَ عقبةٌ وحيدةٌ هِيَ أنَّ المحيطَ كلَّهُ أُمِّيٌّ: الأبُ والأمُّ والإخوةُ والأقاربُ، ذاتَ ظهيرةٍ اصطحبَنِي أبِي إلى مصنعِ النسيجِ الذِي يعملُ بِهِ مسئُولًا عنْ صالةِ ماكيناتٍ رابضةٍ على صفينِ بمساحةِ أربعمائةِ مترٍ مربعٍ، كنَّا صِيامًا ، حانَ الإفطارُ فخطبَنِي والدِي خُطْبةً عصْمَاءَ :" أَفْطِرْ ولا تنتظرْنِي" ؛ وجدتُنِي آكلُ وحدِي وأبِي يجرِي هنَا وهناكَ يسابقُ الماكيناتِ الهادرَةَ ، يُلْقِمُ هذِهِ التِي فرَغَ مكُّوكُها مِن الخيْطِ ويَلْضمُ فتْلةَ تلكَ التِي انْقطعَتْ ويفكُّ تشابكَ خيوطِ ثالثةٍ ويربطُ صواميلَ رابعةٍ قدْ انحلَّتْ فإذا انْتهَى مِن أُخرَاها عادَ لأولاهَا، وفِي طريقِهِ يخطفَ كلَّ مرةٍ نفسًا ولقمةً . تحجَّرَتْ دُموعِي فِي مآقِيها وأنَا أتمنَّى لِهذا الكهلِ المناضلِ دقائِقَ راحَةٍ يجفِفُ فيْها عرقَهُ الهاطلَ ويلتقطُ أنفاسَهُ اللاهثةَ ولكنْ أنَّى لَهُ الراحَةُ ووراءَهُ ثمانيةُ أفواهٍ فاغرةٍ تدفعُهُ لتحقيقِ أكبرِ إنتاجٍ ممكنٍ عدْتُ حاملًا كتبِي التِي لمْ أستوعبْ كلمَةً ممَّا فيْها ، لكنِّى وعْيتُ الدرْسَ الصامِتَ وابتهلْتُ إلى ربِّي ألا يفجَعَ هذَا الأبَ بِي.