المصـرفيـة الإسلاميـة (دراسات في المحاسبــة والإدارة)

للدكتور: أحمد شوقي سليمان" دكتوراة كلية التجارة جامعة الأزهر"

واقع وآليات تطبيق التمويل الإسلامي 

          يمارس التمويل الإسلامي منذ عدة قرون في مختلف أنحاء العالم، حيث تجاوز نمو الإنتشار الجغرافي لصناعة التمويل الإسلامي التمويل التقليدي في دول الشرق الأوسط وجنوب شرق أسيا لكي يضم أسواق جديدة من مختلف المناطق مثـل أفريقيـا والأمريكتين وشرق أسيـا.

 

وقد اكتسب التمويل الإسلامي إقبالاً كبيراً في الآونة الأخيرة ومن أهم العوامل التي ساعدت على انتشار صناعة المصرفية الإسلامية عالمياً صلابة المبادئ والركائز الأساسية التي يقوم عليها التمويل الإسلامي والتي تتمثل في تحريم التعامل بالربا أخذا وعطاء والذي اتفقت عليه جميع الأديان السماوية والذي اعتبره معظم الاقتصاديين الخطأ الأساسي في النظام النقدي والمالي الحالي، والمشاركة في الربح والخسارة والتي تستند على قاعدة الغنم بالغرم والمستمدة من قول سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم (الخراج بالضمان) والتي يقصد بها أن الحق في النفع أو الكسب (العائد أو الربح) يكون بقدر تحمل المشقة أو التكاليف أو المخاطر، وتحريم بيع الغرر وهو بيع غير المملوك وغير المعلوم والوضوح والشفافية وقدسية عقود التمويل بأركانها الثلاثة الصيغة ومحل العقد والعاقدان وإرتباط التمويل الإسلامي بالنشاط الاقتصادي الحقيقي أخذا بعين الاعتبار أولويات المجتمع الاجتماعية والاقتصادية (الضروريات – الحاجيات - التحسينيات) وتحقيق التماسك والتكافل الاجتماعي. فالتمويل الإسلامي ليس بالأمر الجديد حيث تجاوز حجم الأصول الممولة بصيغ التمويل الإسلامي 2,4 تريليون دولار أمريكي سنة 2015 وتجاوزت هذا الرقم سنة 2016 وحسب تقرير المؤتمر العالمي الأول للمصرفية والمالية الإسلامية الذي نظمته جامعة أم القرى في مارس 2016 يتوقع أن تصل حجم الأصول المالية المتوافقة مع الشريعة الإسلامية إلى 3,4 ترليون دولار بنهاية 2018 وهو ما يمثل 1,5% من إجمالي الأصول العالمية وبمعدل نمو يتراوح ما بين 15% إلى 20% سنوياً يفوق التمويل التقليدي في كثير من البلدان.

ويقوم التمويل الإسلامي على تمويل سلع وخدمات واقعية وتجنب أية موجودات أو أصول أو خدمات وهمية أو افتراضية virtual  وبمعنى أدق أن التمويل الإسلامي يعمل داخل عباءة الاقتصاد بخلاف التمويل التقليدي الذي يعمل خارج الاقتصاد وهو ما يؤدي إلى تفاقم معدلات التضخم، حيث يمتلك التمويل الإسلامي إمكانات لتشجيع الإستقرار المالي لان سمة المشاركة في تحمل المخاطر تحد من الرفع المالي، كما أنه معزز بأصول فعلية فهو تمويل مضمون بالكامل.


وترجع أول محاولة حقيقية لظهور التمويل الإسلامي تجربة إنشاء بنوك الإدخار المحلية عام 1963 في مصر بمدينة ميت غمر والتي قامت على أساس المضاربة الشرعية من خلال تجميع المدخرات الشخصية من الأهالي واستثمارها في مشروعات اقتصادية تنموية داخل القرى وتوزيع ما يسوقه الله من ربح بين البنك وبين أصحاب الأموال، والمضاربة (القراض أو المقارضة) هي شركة في الربح بين المال والعمل، وتنعقد بين أصحاب حسابات الإستثمار (أرباب المال) والمصرف (المضارب) الذي يعلن القبول العام لتلك الأموال للقيام بإستثمارها، وإقتسام الربح حسب الاتفاق، وتحميل الخسارة لرب المال ماعدا في حالات تعدي أو تقصير المضارب أو مخالفته للشروط فإنه يتحمل ما نشأ بسببها، وتنعقد أيضاً بين المصرف بصفته صاحب رأس المال بالأصالة عن نفسه أو نيابة عن أصحاب حسابات الإستثمار وبين الحرفيين وغيرهم من أصحاب الأعمال من زارعيين وتجار وصانعين وهذة المضاربة غير المضاربات التقليدية  Speculation التي يراد بها المغامرة والمجازفة في عمليات البيع والشراء.                                                                                                                        

وظهرت أولى المصارف الإسلامية فى سنة 1975م بإنشاء البنك الإسلامي للتنمية بجدة ، ثم بنك دبي الإسلامي بدولة الإمارات ، وتلي ذلك إنشاء العديد من المصارف الإسلامية حتى وصلت إلى حوالي إلى 2000 مصرفاً، ومؤسسات مالية ذات نوافذ إسلامية، ومؤسسات مالية إسلامية اخرى مثل شركات التأمين التكافلي وشركات التمويل والاستثمار.

ويساهم التمويل بالمشاركة في تشجيع الاستثمار في المشروعات الإنتاجية، وخفض نفقات الإنتاج بسبب إلغاء الفائدة على رأس المال المعمول بها في البنوك التقليدية، ويعتبر التمويل بالمشاركة أحد أهم صور الإستثمار في المصارف الإسلامية وذلك لانه يساعد المصرف في تشغيل أمواله والحصول على معدلات عائد جيدة في ضوء المشاركة بنسب متساوية أو متفاوتة برأس المال في إنشاء مشروع جديد أو المساهمة في مشروع قائم بحيث يصبح كل مشارك ممتلكاً حصته في رأس المال، وتصنيف المشاركات في الواقع العملي بالمصارف الإسلامية إلى المشاركة الثابته (طويلة الأجل): وهي التي تقوم على مساهمة المصرف في تمويل جزء من رأس مال مشروع معين، والتي يترتب عليه أن يكون شريكاً في ملكية المشروع، وشريكاً في كل ما ينتج عنه من ربح أو خسارة بالنسب التي تم الإتفاق عليها والقواعد الحاكمة لشروط المشاركة، وتبقى لكل طرف من الأطراف حصص ثابتة في المشروع.المشاركة المتناقصة المنتهية بالتمليك: وهي التي يعطي فيها المصرف الحق للشريك الأخر في شراء حصة المصرف تدريجياً بحيث تتناقص حصة المصرف، وتزيد حصة الشريك الأخر إلى أن ينفرد بملكية جميع رأس مال الشركة. والمشاركة المتغيرة: وهي البديل الشرعي للجاري المدين، حيث يتم تمويل العميل بدفعات نقدية حسب إحتياجه، ثم يتم إحتساب الأرباح الفعلية في نهاية العام بعد إعداد المركز المالي ووفق النتائج الفعلية.

ومن أكثر أدوات التمويل الإسلامي تطبيقاً في المؤسسات المالية الإسلامية المرابحة والمرابحة للآمر بالشراء حيث تمثل حوالي نسبة من 70% إلى 80%  بمحفظة التمويل لدي المصارف الإسلامي والبنوك النمطية التي لها فروع إسلامية، ويرجع ذلك إلي زيادة الطلب على الشراء بالأجل، ولسهولتها ومرونتها فى التطبيق وهو ما جعلها أكثر أدوات/صيغ التمويل الإسلامية انتشارا حيث لم تقتصر على تمويل شراء السلع فقط بل امتدت لتمويل شراء الخدمات وتلبية احتياجات المشروعات الصناعية والخدمية الكبرى سواء على المدى طويل الأجل أو المدى قصير الأجل، والمرابحة هي بيع سلعة بمثل الثمن الذي اشتراها به البائع مع زيادة ربح معلوم متفق عليه. ويكون الربح إما بنسبه من الثمن أو بمبلغ مقطوع حسب الإتفاق بين الطرفين. وتكون السلعة مملوكة للبائع وقت التفاوض والتعاقد عليها. وهناك نوعان من المرابحة هما المرابحة العادية: وهى التي وقعت من دون وعد سابق بالشراء. والمرابحة المصرفية: هي التي وقعت بناء على وعد بالشراء من الراغب في الحصول على السلعة عن طريق المؤسسة.

وتظهر أهمية الاستصناع والاستصناع الموازي في تنمية العديد من القطاعات الاقتصادية ومنها القطاع الصناعي وقطاع الإنشاءات، ويمكن من خلال الإستصناع تمويل الصناعات الثقيلة مثل صناعة الطائرات والبواخر والمصانع الكبيرة كالحديد والصلب حيث تم تطبيق الاستصناع في مصر لتمويل إنشاء مصنع حديد المصريين IIC بتمويل قدره 1,070 مليار جنية مصري. وتستخدم المؤسسات المالية الإسلامية (المصارف) عقود الإستصناع في تقديم التمويل لعملائها من خلال توفير الشئ المصنوع لهم وتحصيل الثمن منهم أجلاً، كما أن هذه الصيغة توفر للمؤسسات المالية الإسلامية عوائد جيدة من خلال الفرق في المبلغ الذي يتم دفعه للمقاول (الصانع) القائم بالتصنيع في العقد الثاني، والمبلغ الذي يتم تحصيله من العميل (المستصنع) في العقد الأول.

ومن أهم الأدوات التمويلية المتوافقة مع الشريعة الإسلامية السلم والذي يعد من أهم بدائل التمويل التقليدى الذي يوفر التمويل النقدي للمشروعات الاستثمارية التى تحتاج لهذا النوع من التمويل لتوفير رأس المال التشغيلي الذي يساهم في إنتاج المنتجات (السلع والخدمات) لسد فجوات الإستهلاك المحلي أو تحقيق فوائض للتصدير مما سيساهم بشكل إيجابي في الناتج القومي الإجمالي، والتمويل بالسلم من أحد عقود البيع، وهو من الأدوات المعروفة من قديم الأزل في تمويل الأنشطة الزراعية، ويوفر السلم فرصاً جيدة لتسويق المنتجات الزراعية والصناعية بشكل كبير، ويلبى السلم الإحتياجات العاجلة للسيولة لقطاعات كبيرة على مختلف درجاتها الكبيرة والمتوسطة والصغيرة، ويساعد الممولين في تسويق منتجاتهم، ويقلل من أثار التضخم، ويساهم في ترشيد تكاليف الإنتاج، ويعد السلم والسلم الموازي في عصرنا الحاضر أداة تمويل ذات كفاءة عالية في الاقتصاد الإٍسلامي وفي أنشطة المصارف الإسلامية من حيث مرونتها وإستجابتها لحاجات التمويل المختلفة والتي تم تطبيقها بشكل كبير في دولة السودان لتمويل النشاط الزراعي.

وتأتي صيغة / أداة الإجارة والإجارة المنتهية بالتمليك لتقليل أعباء تكلفة إقتناء الأصول والتي تعد من الأعباء الكبيرة التي تواجه الأفراد والمؤسسات بمختلف أنشطتها سواء من حيث تكلفة شرائها وصيانتها وإهلاكها، وتعد الإجارة والإجارة المنتهية بالتمليك من الصيغ التمولية المستحدثة في السوق المصرفي والمتوافقة مع أحكام الشريعة الإسلامية والتي تختلف عن عمليات التأجير التمويلي التقليدية وذلك لأنها تلبي رغبات قاعدة عريضة من العملاء بالسوق المصرفي من ناحية، ولأنها ذات مخاطر منخفضة من ناحية أخرى وذلك لأن ملكية الأصول تؤول للمصرف الممول بخلاف المرابحة وبالتالى يسهل على المصرف في حالة عدم إلتزام المستأجر بشروط عقد الإجارة الحصول على الأصل المؤجر وذلك لتملكه للأصل. وتنقسم عقود الإجارة إلى نوعين إجارة تشغيلة وهي تأجير منافع مباحة شرعا ومعلومة بعوض معين إلى أجل معين دون وعد بالتمليك، وإجارة منتهية بالتمليك وهي التي ينتقل ملكية السلعة للمستأجر في نهاية عقد الإجارة حيث يوعد المستأجر المؤجر بوعد منفصلاً عن عقد الإجارة بشراؤة للسلعة في نهاية مدة الإجارة وعلى أن يعقد البيع مستقلاً بعد إنتهاء مدة الإجارة بحيث تبقى العين المؤجرة في ملك المؤجر (البائع) وضمانه طوال المدة بحيث إذا هلكت بدون تعدً أو تقصير من المستأجر تهلك من مال المؤجر، وإذا هلكت بتقصير من المستأجر فإنه يضمن قيمتها يوم الهلاك.


كما تعد الصكوك أحد الأدوات التمويلية المبنية على أحكام الشريعة الإسلامية كما إنها من أنفع الآليات لإدارة السيولة، ومن أفضل الوسائل المساهمة في تمويل مشروعات البنية التحتية والتنمية الاقتصادية، حيث شهدت الصكوك نمواً ملحوظاً وملموساً عام 2017 والتي بلغت 98 مليار دولار مقارنة بـ 67 مليار دولار عام 2016    بنسبة نمو 45,3% وتختلف الصكوك عن الأوراق المالية أو السندات القائمة على الفائدة المحرمة شرعاً، وذلك لكونها تمثل حصة شائعة في ملكية موجودات معينة ملموسة أو غير ملموسة وليست دين لجهة الأصدار كالسندات وتتم آلية إصدار الصكوك وفق صيغ التمويل الإسلامي المختلفة  ولا تتضمن عناصر الربا والغرر والأنشطة التي تحرمها الشريعة الإسلامية أما بالنسبة للأسهم والسندات فيمكن إصدارها لأي غرض. ومن أكثر الدول الإسلامية تطبيقاً للصكوك ماليزيا، وفي الدول غير الإسلامية الأكثر تطبيقاً للصكوك دولة إنجلترا، وقد انتشر تطبيق الصكوك في العديد من الدول العربية كالإمارات والسعودية والبحرين والكويت وقطر.

وفي ضوء ما سبق يتبين أهمية أدوات التمويل الإسلامي في دعم وتنمية الإقتصاديات ويرجع ذلك للنجاحات التي حققتها المصرفية الإسلامية، ويتوقع تزايد معدلات نمو التمويل الإسلامي في كافة الدول الإسلامية وغير الإسلامية مقارنة بمعدلات نمو التمويل التقليدي، ويجب على الحكومات التغلب على معوقات تطبيق صناعة المصرفية الإسلامية والتمويل الإسلامي من خلال توفير التشريعات والقوانين الداعمة لتطبيقها وتهيئة المناخ الإقتصادي، وتوحيد المعايير الشرعية للحد من إشكاليات الاختلاف بين الهيئات الشرعية في تطبيق التمويل الإسلامي، وتأهيل الكوادر البشرية لتدعيم التطبيق السليم للمصرفية الإسلامية والتمويل الإسلامي حول العالم.

 

أحمد شوقي سليمان

المدير التنفيذي للجمعية المصرية للتمويل الإسلامي

30 يناير 2019

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 499 مشاهدة
نشرت فى 1 فبراير 2019 بواسطة ahmed0shawky

ساحة النقاش

عدد زيارات الموقع

182,472

أحمد شوقي سليمان

ahmed0shawky
يهتم الموقع بعرض المقالات والابحاث ذات العلاقة بالمصارف الإسلامية , والمحاسبة والمراجعة والإدارة الإستراتيجية. د/ أحمد شوقي .... في سطور .... دكتوراة وماجستير المحاسبة كلية التجارة جامعة الأزهر مدير مخاطر معتمد CMRM- الاكاديمية الامريكية للادارة المالية نائب مدير عام مراقبة ومتابعة التمويل الإسلامي بقطاع المخاطر بأحد أكبر البنوك المصرية »

تسجيل الدخول

ابحث

عـــن العلــم العمـــل

العلم والعمل كلمتان متساويتان في عدد الحروف مع إختلاف الترتيب فالعلم هو دليل العمل ودائما ً ما يكون العلم سابق للعمل والقول فلا يصح العمل بدون علم ، والدليل على ذلك قول الله سبحانه وتعالى "قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ"  سورة الزمر (الاية 9)

فالعلم والعمل لهما علاقة ترابطية علاقة السبب ونتيجته ، كما أن العلم هو اساس نوايا البشر ويقول الإمام الشافعي في العديد من المرات: إذا أردت الدنيا فعليك بالعلم ، وإذا أردت الآخرة فعليك بالعلم ، وإذا أردتهما معًا فعليك بالعلم .

ويأتى العمل بعد النيه والتى يسبقها العلم ويظهر ذلك في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، ..) فالعمل لا يصلح إلا بالعلم والذي سيعرض على الله عز وجل يوم القيامة لتحديد صحته ﴿ وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ ( سورة التوبة الاية 105) ﴾

فالإخلاص في العلم يؤدى لتصحيح النوايا حتى يصح  العمل

أحمد شوقى سليمان