بقلم/ محمد مختار
لم يكتف بعض نصارى مصر بالمطالبة بإلغاء المادة الثانية من الدستور التي تنص على أن الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيس للتشريع.
ولم يكتفوا بالمطالبة بدولة مدنية "لا عسكرية ولا دينية".. أي لا ينبغي أن تكون الدولة المصرية محكومة بالشريعة التي يؤمن بها أكثر من 90% من المصريين.
ولكنهم ذهبوا إلى مدى أبعد وأشد تطرفاً.. إذ يرفضون قيام أحزاب ذات مرجعية دينية.. والمقصود ـ طبعاً ـ المرجعية الإسلامية.
إن تركيزهم على الدعوة إلى دستور جديد.. ورفض التعديلات المدخلة على دستور 1971م.. ليس للاعتبارات الوجيهة التي يتبناها المنادون بدستور جديد.. والتي ترى ـ وبحق ـ أن الدستور القديم فقد شرعيته بقيام ثورة 25 يناير.. ولما فيه من مواد مرفوضة شكلاً وموضوعاً.. ولأن أي تعديلات لتلك المواد لن تجبر كسوره وهشاشته ولن تصلح عوره.. وأن التعديلات التي أدخلت عليه مؤخراً لم تسلبه مطواعيته للحاكم وقابليته لتكريس سلطات الرئيس الفردية.. وإطلاق يده في أن يُعدل ويقنن ما شاء كيف شاء.
ولكن العلة الحقيقية ـ أو الرئيسة ـ لرفضهم كون الدستور المعدل مشتملاً على المادة الثانية التي يريدون أن لا تكون موجودة أصلاً في الدستور القادم.
أما حملتهم العارمة الداعية إلى الدولة المدنية.. فلغرض إقصاء الإسلام كشريعة حاكمة.
فالديانة النصرانية ليس لديها شريعة كي يطالبوا ـ مثلاً ـ بتطبيقها على المساواة بالديانة الإسلامية.. وحكم البلاد بأي شريعة كانت "من وضع البشر أو بالاقتباس من دساتير العالم أو حتى من موروثات الأمم القديمة".. لا يضيرهم ولا يعرضهم لحريجة دينية أو يوقعهم في إشكالية عقائدية.. لذلك فلا بأس عليهم أن يحكموا بأي شريعة أرضية كانت.
والمفترض ـ منطقياً ـ أن لا غضاضة لديهم ـ كذلك ـ في أن يحكموا بالإسلام.. والإنصاف ولزوم معيار واحد في النظر والتقويم "لا الكيل بمكيالين".. يقتضيان أن لا يستثنوا الشريعة الإسلامية من هذا التصور.. ما دام الأمر يستوي عندهم من جهة أنه لا التزام دينياً يتعين به ـ في اعتقادهم ـ أن يحكموا بشريعة محددة.
فما تفسير موقف النصارى الرافض للشريعة الإسلامية بالذات؟!!
أيخشون التمييز ـ مثلا ًـ من شريعة قانونها في معاملة أهل الكتاب عموماً ينص على أن لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين؟!!
ذلك طبقاً لصريح قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : "لهم ما لنا.. وعليهم ما علينا " (1).
بل لنصارى مصر خصوصية مميزة لهم عن سواهم اقتضتها الوصية النبوية: "إنكم ستفتحون مصر.. وهي أرض يُسمى فيها القيراط ، فإذا فتحتموها فأحسنوا إلى أهلها ، فإن لهم ذمة ورحماً " ـ أو قال: " ذمة وصهراً " (2).
ومن حديث ابن عباس: لما مات إبراهيم ابن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : "إن له مرضعاً في الجنة.. ولو عاش لكان صديقاً نبياً.. ولو عاش لعتقتُ أخوالَه القبطَ.. وما استُرِقَ قبطيٌ" (3).
ولنتأمل.. كيف شدَّد الشارع الحكيم على من يخفر ذمة مسلم.. أي أنه إذا أعطى المسلم عهداً لنصراني أو يهودي لم يحل لأحد من المسلمين أن يخفر هذا العهد "أي ينقضه".. وأن من يخفر هذه الذمة عليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين.. لا يقبل الله منه صرفاً ولا عهداً.
كما في حديث علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ مرفوعاً ـ : "ذمة المسلمين واحدة ، يسعى بها أدناهم ، فمن أخفر مسلماً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ، لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً " (4).
وفي الحديث ـ أيضاً ـ : " أوصيكم بذمة الله ، فإنه ذمة نبيكم ، ورزق عيالكم" (5).. وهذا الحديث يدخل فيه كل أهل ذمة وعهد من نصارى وغيرهم.
أما الجزية فهي واجب مُستحق على النصارى يقابل الزكاة المفروضة على أهل الإسلام.. ذلك أن الزكاة عبادة إسلامية لا يكلفون بها جرياً على قاعدة "لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ".. ولأنهم غير مخاطبين بالعبادات المفروضة على المسلمين أصلاً.. كما أنهم معافون من أداء واجب الحماية للوطن.. ورفع عنهم حرج القيام بالجهاد لغرض نشر الدعوة الإسلامية التي لا يؤمنون بها.
ومع ذلك لا يلزم بالجزية ضعفتهم وفقراؤهم ، ولا يساء إليهم في كيفية أخذها منهم أو مطالبتهم بها ، ومن حديث هشام بن حكيم أن عمر ـ رضي الله عنه ـ وجد رجلا وهو على حمص يشمس ناساً من القبط في أداء الجزية فقال ما هذا؟! سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول : "إن الله يعذب الذين يعذبون الناس في الدنيا" (6).
ومرَّ عمرُ بن الخطاب رضي الله عنه بباب قوم وعليه سائل يسأل ، شيخ كبير ضرير البصر.. فضرب عضده من خلفه وقال : من أي أهل الكتاب أنت؟.. قال: يهودي.. قال: فما ألجأك إلى ما أرى؟.. قال : أسأل الجزية والحاجة والسن.. قال: فأخذ عمر بيده وذهب به إلى منزله فرضخ له بشيء من المنزل.
ثم أرسل إلى خازن بيت المال فقال: انظر هذا وضرباءه.. فوالله ما أنصفناه أن أكلنا شبيبته ثم نخذله عند الهرم (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ) [التوبة : 60].
والفقراء هم المسلمون.. وهذا من المساكين من أهل الكتاب ، ووضع عنه الجزية وعن ضربائه.
وتتجلى سماحة الإسلام في وصية عمر ـ رضي الله عنه ـ وهو على فراش الموت يعاني أثر إصابته بخنجر أبي لؤلؤة.. حيث قال: "أوصى الخليفة من بعدى بأهل الكتاب خيراً ، أن يوفى بعهدِهم وأن يقاتل من ورائهم ، وألا يكلفهم فوق طاقتهم".
ومن المواقف التطبيقية لهذه الروح الإسلامية والمبدأ والتشريعي ، موقف شيخ الإسلام ابن تيمية ، حينما تغلب التتار على الشام.. وذهب الشيخ ليكلم "قطلوشاه" (قائد التتار) في إطلاق الأسرى.. فسمح القائد التتري للشيخ بإطلاق أسرىالمسلمين.. وأبى أن يسمح له بإطلاق أهل الذمة.
فما كان من شيخ الإسلام إلا أن قال: "لا نرضى إلا بافتكاك جميع الأسارى من اليهود والنصارى.. فهم أهل ذمتنا.. ولا ندع أسيراً.. لا من أهل الذمة.. ولا من أهل الملة".
ولم يزل المسلمون على هذه السيرة من العدل والسماحة.. ليس امتثالاً لوصايا النبي وحسب.. ولا اقتداء بفعل الخلفاء والملوك على مدى تاريخ الإسلام وفقط.. ولكن لأنهم يؤمنون بوجوب العدل وإن مع مخالفيهم.
بل ومع عدوهم.. قال تعالى في محكم التنزيل: "إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ" [النحل : 90].. وقال : "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ" [المائدة : 8].. وقال : "وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُوا"[المائدة : 2].
ثم إنني أسائل النصارى:
أي بأس رأيتموه من حكم الإسلام وقد عشتم في ظلاله أكثر من ثلاثة عشر قرناً منذ الفتح الإسلامي لمصر (29هـ / 641م).. وإسقاط حكم الرومان المستبد ووقف الاضطهاد الذي عانيتموه طيلة ذلك الحكم؟!!
وهل وجدتم إلا العدل الذي شاع إلى حدٍ أدرك فيه أجدادكم أنهم ينصفون حتى ممن يظلمهم من أهل الإسلام كائناً من كان ، ولو كان ابنَ الأمير نفسه.
ولما كان هذا المعنى مستقراً في نفوس الكافة سافر القبطي الذي ضُرب ولده من ابن الصحابي عمرو بن العاص ـ وهو أمير مصر يومئذ ـ إلى المدينة.. ليرفع شكواه إلى أمير المؤمنين عمر ابن الخطاب.. واتفق أن كان عمرو في مهمة بالمدينة فاستدعاه عمر واستدعى ولده .. وأمر ابن القبطي أن يضرب ابن عمرو بالدرة كما ضربه.
بل وأمر القبطي بضرب عمرو نفسه على صلعته ، فأبي القبطي قائلاً : وما جريرة عمرو ؟ فقال عمر: لولا هذه الصلعة ما اجترأ ولده.
وقال قولته الشهيرة : "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً ؟"
وليس بغائب على نصارى مصر ما قرأوه في التاريخ عن معاناة أجدادهم قبل الفتح الإسلامي إبان الحكم الروماني.. فقد كان البيزنطيون يضطهدون الأقباط دينياً على الرغم من كونهم على دين واحد..ولكن لاختلافهم مذهبياً .
وقد بلغ حجم هذا الاضطهاد إلى حد أن كان النصارى يتخفون بعبادتهم على مذهبهم في سراديب تحت الأرض.. وكان جند الرومان يتتبعونهم ويحرقون عليهم تلك السراديب.
حتى إذا جاء الفتح الإسلامي نعموا بأجواء من العدل والحرية.. واستوفوا حقوق المواطنة بشكل كامل..لا فرق بينهم وبين المسلمين في الحقوق والواجبات التي تقتضيها هذه المواطنة.. وعُصمت دماؤهم وأموالهم ، وصينت كنائسهم.
فما تعرضت كنيسة واحدة للإتلاف أو الحرق أو الهدم أو الإغلاق ، ولا فرض عليهم زعماؤهم الدينيون غير مَن يختارون ، ولا تدخلت الدولة في أي شأن من شؤون كنائسهم وديانتهم.
فما الذي يمكن أن يتذرع به النصارى أو يثير هواجسهم كي يرفضوا الحكم بالشريعة وبهذا القدر من الحدة؟!!
ألا يبرر ذلك قول القائل: "إنهم لا يرفضون الشريعة إلا لأنها إسلامية ، ولأنهم يرون أن مصر قبطية فهي للأقباط ، وما المسلمون فيها إلا ضيوف طارئون عليها ـ في أحسن تعبيراتهم ـ وغرباء محتلون في نظر الكثير منهم".
أإذا قلنا بهذا تثار في وجوهنا فزاعة "الفتنة الطائفية".. ثم نتهم نحن بإثارتها؟!!
وكأن المطلوب منا ـ كأغلبية ـ ولا حيلة لنا في سواه ؛ أن ننزل على رأي الأقلية ونقبل بتحيكم القوانين الوضعية لأنهم يقبلون بها كونها لا حريجة دينية عليهم في قبولها.
أما هم فلا ينزلون على حكم الشريعة ـ مع كونهم أقلية ـ مصادرين بذلك حق الأغلبية في الحكم بما لا ضرر عليهم في الحكم به.
ويبلغ الأمر الآن ـ ونحن نستقبل أجواء من الحرية ـ أن يناودا ـ ومن خلال حملات منظمة ـ بأن لا يسمح بإقامة أحزاب سياسية على مرجعية دينية .. وهم يعنون بذلك المرجعية الإسلامية.
وقد سمعت بعضهم ـ على إحدى الفضائيات المصرية ـ يعلل ذلك بأن للدين قدسية ونفوذاً وتأثيراً سيرجح لدي الناس اختياره على ما سواه من العقائد والأفكار !!
أوليس الاختيار الحر هو مقتضى الديمقراطية.. وأن اختيار الأغلبية هو الأصل الذي قامت عليه الديمقراطية؟!!
أم أنها ديمقراطية انتقائية إقصائية لا تقبل إلا بما ترضى عنه من أفكار ومن ترضى عنه من سياسيين؟!!
إنني أعجب لهؤلاء الرافضين لقيام أحزاب على أسس دينية ـ وهم ينادون بديمقراطية على غرار ديمقراطية الغرب ـ.
كيف فاتهم أن أحزاباً سياسية هناك تجعل للمرجعية الدينية (ممثلة في الكنيسة) أساساً لبعض برامجها.. كاعتماد بعض الأحزاب في إيطاليا الدعوة إلى رفض الشذوذ بناء على رؤية كنسية.. وكان ضمن برامج بعض المرشحين في الانتخابات الرئاسية الأمريكية الأخيرة الدعوة إلى منع الإجهاض بناء على فتوى الكنيسة أيضاً؟!!
ولكن الإسلام وحده هو الذي يحظر عليه ما يباح لكل "أيديولوجية" سواه !!
فعلى التوازي من هذا الرفض الطائفي لقيام أحزاب إسلامية.. وجدنا من العلمانيين من يُخوف من عودة الجماعات ، ويستثير قلق الناس من تغير شكل الحياة السياسية في مصر(7).. ولن يمر وقت طويل ونراهم يرفضون صراحة وجود الإسلاميين داخل المنافسة السياسية.
وقد شرعوا في ذلك بالفعل من خلال فزاعة الفتنة الطائفية.. وبالتخويف من وصول الإسلاميين إلى الحكم.. جرياً على نفس نهج النظام البائد.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- صححه الألباني في "آلات الطرب" : (ص23).
2- صحيح مسلم : (2543).
3- صحيح سنن أبي داود : (1236).
4- صحيح البخاري : (7300).
5- أخرجه البخاري : (3162).
6- أخرجه أبو داود : (3045) ، وصححه الألباني في "صحيح أبي داود : (3045).
7- يراجع برنامج "الطبعة الأولى" على قناة دريم 12/03/2011م.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
منقول من موقع الجماعة
http://www.egyig.com/Public/articles/answer/13/00412444.shtml
ساحة النقاش