من أين يأتي الدافع للنجاح؟ وإن كان ينتج عن إنجازات استثنائية (كأن تحددها معايير خارجية مثل القوة والمكانة والثروة)، فهل هذا حتماً سيصاحب كون الشخص الناجح مُضطرباً ومُعذَّباً؟!
البراهين الأخيرة ترجّح أن الجينات تلعب دوراً محدوداً في هذا، أما التنشئة فهي الأمر البالغ الأهمية، سواء كانت بطريقة العصا أم الجزرة.
في حالتي مثلاً - ولأني كنت الولد الوحيد في الأسرة مع 3 أخوات، كانت تتم معاملتي بطريقة مختلفة تمامًا من قِبل والدي.
وعلى الرغم من إخفاقي المتكرر في المدرسة، كان يشجِّعني باستمرار أن أنظر لنفسي باعتباري متفوقاً، وفي نهاية المطاف كنت على ما يرام، ولكن في المقابل لم يقم والدي بمنح هذا التشجيع لأخواتي في مسارهم الأكاديمي العملي (ولحسن الحظ والدتي فعلت ذلك).
وسأذهب بعيداً إلى حد القول أني إن كنت بُدّلت مع واحدة من أخواتي لكانت هي مَنْ ستكتب هذه الكلمات.
تاريخ كل فرد يضعه في مسار محدد
التاريخ الفريد لكل شخص، بدءاً من قبل مولده، يضعه على مسار معين، وهذا يفسر اختلاف الأخوة عن بعضهم بعضاً. فكّر في ذاتك كشخصية تؤدي دوراً في فيلم واسأل: "ما الخلفية الدرامية الخاصة بي؟".
على أبسط المستويات، الأداء يتحدد عبر التدريس، إما للأحسن أو الأسوأ. بإمكاني أن أعلّم ابني جدوله الزمني، ولكن الأمر نفسه سيتحقق إن كنت أعمل كنشّال، فحينها كنت سأريه كيف يفعل ذلك.
كما أن هناك ما يُسمى تقديم المثل الأعلى، قيادتي التي تعلمتها من والدي تنتهك قواعد المرور بشكل مخجل، وربما سوف يقتدي أبنائي بها أو ربما سيستنسخون طريقة والدتهم القانونية، فهذا يعتمد على ديناميكية الأسرة، فربما ابني سيتبعني، وابنتي ستتبع والدتها.
وهو ما يأتي بنا إلى مسألة تحديد الهوية التي فيها يتلقى الطفل سلوك والديه وأوامرهم باعتبارها جزءاً منهما، والوالدان يفعلان ذلك بالمزج بين الحب وسوء المعاملة التي جربناها جميعاً.
الحب كافٍ بشكل واضح. فقد طلب مني ابني أن أشرح له سياسات الإدارة، في الوقت الذي كنت أقوم فيه بتأليف كتابٍ عن هذا الموضوع.
ولأننا نحب بعضنا بعضاً، فقد حاول فهم أفكار وإسقاطها على مدرِّس بمدرسته بمدح ربطة عنقه، والنتائج كانت سارة؛ فلأنه يحبني تعرف على اهتماماتي ووضعها ضمن اهتماماته هو.
الحرمان يدفع الأشخاص للإنجاز
ولكن، ولأنه ثمة استثناءات، يبدو أن سوء المعاملة يغذي الإنجاز الاستثنائي أكثر من أي شيء آخر. فليست العوامل الوراثية المحدودة هي ما تفعل ذلك، بل الصدمات والمحن.
على سبيل المثال فإن واحداً بين 3 أشخاص حققوا إنجازات استثنائية في كل المجالات التي تمت دراستها كان قد فقد أحد والديه قبل أن يتم عمر 15 عامًا، (مقارنة بنحو 18% قبل الطب الحديث). وهذا ينطبق كذلك على رؤساء الوزراء والرؤساء الأميركيين ورجال الأعمال البريطانيين والكُتاب الاستثنائيين.
فهؤلاء الأشخاص قادهم ألم الفقد والفقدان المرعب للسيطرة على الأمور لتحرير مصائرهم من القدر.
وخصوصية الشدائد التي يمر بها الأشخاص في مرحلة الطفولة، عادة ما تُشكل الاهتمامات التي سينتهجونها. فمثلاً في حالة الكاتبة جينا فورد، فقد نامت في فراش أمها حتى وصلت سن 11 عاماً، وهو ما لعب دوراً في أن أصبحت مؤلفة لكتب تحاول فيها إقناع الأمهات بأن يجعلن أطفالهن ينامون بمفردهم منذ البداية.
وفي الحين الذي تصف فيه فورد عادات صارمة ليتم اتباعها، كانت فترة الطفولة في حياة بينلوبي ليتش قد جعلتها من المدافعين المتحمسين لتوفير الرعاية المخصصة للأطفال.
كان والدها يفضل أختها الكبرى وكان سُلطوياً، وقد انفصل والداها عندما كانت في سن 12 عاماً، والكتب التي ألّفتها ليتش تأخذ جانب والدتها المحببة، وتذكر الكثير من العناقات.
وبالتأكيد، إن النجاح الاستثنائي يتطلب عملاً جاداً استثنائياً أيضاً، والمثال الكلاسيكي على هذا يتجلى في حقيقة أن عازفي الأوركسترا المنفردين الذين تمت دراستهم مارسوا العزف لما لا يقل عن 10 آلاف ساعة، وهو ما لم يفعله عازفو الأوركسترا العاديون الذين تبلغ ساعات ممارستهم في المتوسط 8000 ساعة.
ولكن لماذا يقضي البعض هذه الـ2000 ساعة الإضافية، ولماذا يصبح البعض عاطفيين أصحاء ذوي إنجازات استثنائية؟ فالقصص المختلفة للغاية للاعب الغولف تايغر وود، والأخوات بولغار الثلاثة، عباقرة فن الشطرنج توضح ذلك جيداً.
كان لدى والد تايغر وود، وكان يُدعى أيرل، طموح لم يتحقق بأن يُصبح نجم لعبة البيسبول، وزواجه من كولتيدا، التي كانت عضوة صارمة وذكية من النخبة الحاكمة في تايلاند، أثمرت عن ابنهم الوحيد تايغر، وقال إيرل إنه شعر بأن هذا الطفل سيكون أعظم رجل مشى على الأرض، وكان هذا الكلام يتعلق بطموحات الأب التي لم تتحقق أكثر من تعلقه بالطفل نفسه.
تقليل الشعور بالأنا
في عمر 9 أشهر كان تايغر يضرب كرات الغولف، وكان أول ظهور له في التلفزيون عندما كان في عمر عامين ونصف العام، وكان بالفعل يستعرض رمية مذهلة لكرة الغولف، كان والداه عنيدين قاسيين وذوي خيال دافئ، وطوال الطريق كان كل من الولد والرجل يقتنص كل فرصة للتعبير عن تطلعاته.
كان الوسواس الذي يعانيه، وإدمانه الخطير على العلاقات الجنسية العابرة يبدو كمحاولة لاستعادة شيء من أجل نفسه، كان هناك دليلٌ يُظهِر أن ممارسة ضبط النفس وفعل الأشياء الجيدة (مثل ممارسة الغولف طوال اليوم من الطفولة) تقود إلى تقليل الشعور بالأنا (استنفاد الأنا). وهو ما يهيئ كثيراً لفعل "أشياء سيئة" على سبيل التعويض.
ومن المثير للاهتمام أن الاستثناء من حكم استنفاد الأنا هو أن يقوم الأشخاص بفعل التصرفات التي تستلزم تحكماً في النفس لأنهم يشعرون بأنهم اختاروها، وحددوها بأنفسهم، بدلًا من الشعور بأنها مفروضة عليهم. وهذا يستحضر مثال الأخوات بولغار.
الأخوات بولغار
خلال فترة الستينيات، وبينما كان الأخصائي بعلم النفس التربوي وقد ألّف العديد من المقالات العلمية عن تأثير الممارسة في خلق التميز، لازلو بولغار، يشرح قناعاته المتحمسة لزوجته المستقبلية، كلارا، التي وقعت في حبه، واختاروا الشطرنج للقيام بتجربتهم؛ لأن الشطرنج مقياسٌ لإنجاز هدفهم، ولم يكن كلاهما لاعبي شطرنج استثنائيين.
أنجبت كلارا 3 فتيات، ولم يكن هناك من قبل أي مُحترفات استثنائيات من النساء، وكان شائعاً على نطاق واسع أن القدرات الوراثية للنساء لا تؤهلهن للمهارات المعرفية التي ينطوي عليها الشطرنج، وبالتالي كُن يُستبعدن من البطولات الكبرى.
بدءاً من ابنته الكبرى، سوزان، كان بولغار حريصاً على التعامل مع الشطرنج على أنه نشاط مليءٌ باللعب ليحول اللعبة إلى لعبة خيال من الانتصارات والخسائر الدرامية.
وبينما كان كل من إيرل وكولتيدا يركزان على تحقيق الكمال كهدفٍ لابنهما تايغر وود، كان الزوجان بولغار يُشجعان الحصولَ على تحقيق المرح.
عمل روتيني
وبمرور الوقت بلغت سوزان سن الخامسة من عمرها، وكانت شغوفة باللعب، وقد قضت مئات الساعات في الممارسة، فتم إدخالها في منافسة محلية تعاملت معها باعتبارها تسلية، وفازت بعشرة نقاط وهو ما تسبب في ضجة كبيرة.
وفي الوقت نفسه، كانت أختاها مفتونتين باللعبة، وسمح لهما لازلو بأن تمسكا بقطع الشطرنج وتنظرا إليها باعتبارها دُمى، بدون أي تعليم رسمي للعبة حتى بلغتا سن الخامسة.
وفي لقاء جمع الثلاثة مؤخراً، وصفت اللاعبات المُحترفات ممارسة لعبة الشطرنج بأنها شيء يحبون فعله، لم تكن الفتيات يشعرن أبداً بأنه عمل روتيني، فبدلاً من ممارسة الألعاب الأخرى ككرة الشبكة أو الذهاب لحمام السباحة، كان الشطرنج هو ما تستمتع به عائلة بولغار.
ومن المؤكد لدرجة كافية أنه في عام 1991 أصبحت الابنة الكبرى أول لاعبة من النساء تحترف الشطرنج، وكانت الابنة الثانية قد حققت 10 انتصارات متتالية على محترفين باللعبة من الذكور، وهو ما تم تقييمه كأفضل خامس أداء في تاريخ الشطرنج، والأخت الصغرى حققت الاحتراف في سن 15 عاماً، وكانت هي الأصغر سناً على الإطلاق من كلا الجنسين.
فهم بولغار أن الإكراه كان أقل قيمة من حاجة الأطفال الصغار للاستمتاع بلعب الخيال، ونتيجة لذلك، فإن فتياته كبرن متزنات بدلاً من أن يصبحن مدمنات للنجاح.
وهناك دليل قوي على ديناميكية أسرة بولغار في القصة الهامشية التي حدثت معها. فعندما تم تتويج الابنة الكبرى كأول محترفة من النساء في لعبة الشطرنج، عرض مليونير هولندي على العائلة أن يدفع لهم مقابل تبني 3 أولاد من دول نامية، لكي يتبين أن تلك التجربة من الممكن تكرارها، ولكن عائلة بولغار رفضت العرض، فقد أنجزت المطلوب.
بالغون يعانون من الجوع العاطفي
بالنسبة للآباء والأمهات فإن الآثار واضحة. فمعظمنا يقول إننا نرغب لأبنائنا بأن يكونوا سعداء، ولكن في الغالب نريد أيضاً أن يؤدوا بشكل جيد في المدرسة وخارجها.
تعليم الأطفال في سن مبكرة ليس هو الطريقة المناسبة؛ فهذا يخلق بالغين يعانون من الجوع العاطفي والوحدة.
فالعَوَز العاطفي شائع لدى من حققوا إنجازات استثنائية، وكبار المديرين البريطانيين هم في الواقع أكثر عرضة للنرجسية من المرضى في مستشفيات الأمراض العقلية، والأميركيون منهم أكثر عرضة بمقدار 4 مرات للاختلال السيكوباتي من غيرهم من عموم السكان، والأمر نفسه يحدث في مجال الفن، فكبار نجوم موسيقى الروك لديهم ميول انتحارية أكثر من الناس العاديين.
سوء المعاملة في الطفولة
فكلما ازدادت سوء معاملتهم في مراحل الطفولة، ازداد احتمال موتهم المُبكر، ورسامو الكاريكاتير والممثلون يعانون أكثر، وهم معرضون أكثر الاكتئاب.
فإذا كنت بالفعل تهتم بأن يكون لديك طفل استثنائي، فقط تأكد من أن أطفالك يحبونك وأنت تحبهم، وذلك جنباً إلى جنب مع سوء المعاملة التي لا مفر من كونها تأتي مع الأبوة والأمومة.
ورغم أني لم أحقق إنجازات استثنائية، إلا أنني أتكلم عما أعرفه. كان والداي محللين نفسيين، وكانا مهووسين بالجدل حول ما هو طبيعي وما هو مُكتسب. فلا جينات تسببت في كوني كاتباً لهذا المقال. فهذا المقال نتيجةٌ لمزيج دقيق من القسوة والحب الذي قاد إلى توافقي معهما.
جيناتك لا تقوم بتحديد إنجازاتك
إن من أفضل ما بقي سراً في العلوم الحديثة أن مشروع الجينوم البشري الذي تم إجراؤه على مدى 16 عاماً يرجح أن الجينات تلعب دوراً ضئيلاً أو معدوماً في تفسير الفروق في الذكاء، بينما يتم العثور على الجينات في الصفات الجسدية مثل الطول أو لون العيون، وهي ليست سبباً لجعل الشخص أذكى أو أغبى مقارنة بإخوته، وليست كذلك السبب في أن تحقق إنجازات شبيهة بما حققه والداك أو أسلافك.
لن تصدق هذا على الأرجح، فأنت متأكدٌ بناءً على تجربتك الخاصة أن الذكاء خليط مما هو طبيعي وما هو مكتسب، ولكن تلك الجينات تفسر 1-5% فقط من الصفات النفسية.
وهذا ليس رأيي فحسب، فهو شيء يطلق عليه العلماء اسم "فقدان خصائص الوراثة"، بحسب روبرت بلومين، وهو أحد أبرز رواد علم الوراثة في العالم في حديثه لصحيفة "الغارديان" العام الماضي، حيث قال: "كنت أبحث عن هذه الجينات طوال 15 عامًا، ولم أجد أياً منها".
بعد أن قمت بالبحث عميقاً في الوراثة الجزئية، اكتشفت أن الحقيقة المُخبأة تكمن في أن الجينات التي تمنح أكبر نقلٍ للصفات الوراثية غير موجودة غالباً.
الأطفال يولدون مختلفين
وبالتأكيد فإن الأطفال يولدون مُختلفين، وانتقال الصفات البيولوجية المختلفة يحدث، ولكن هذا لا علاقة له بالجينات، فهناك أدلة كثيرة على أن عسر القراءة أو مرض التوحد قد يرجع إلى فترة الحمل، أو إلى الولادة المبكرة أو الصعوبات أثناء الولادة نفسها، وحوالي ثلث الأطفال يشهدون ولادة صعبة لهذه الأسباب. ولكن ما تأكد كثيراً أن التنشئة السليمة بإمكانها أن تصحح هذا.
الأمر ليس متعلقاً بالجينات. هذا خبر جيد للغاية، ويعني أن معظم الأطفال لديهم قابلية النجاح في الاختبارات والمسارات المهنية. كما أنه ليس هناك سبب متأصل يشير إلى أن الأطفال من العائلات ذوي الدخل المنخفض ليس بإمكانهم تحقيق النجاح بالقدر الذي يحققه نظراؤهم من العائلات الثرية.
الجزرة وليس العصا! ما تفعله وما لا تفعله
ما تفعله!
·شجّع أطفالك على الاستمتاع باللهو والألعاب الخيالية بقدر ما يحبون، على الأقل حتى يبلغوا سن السابعة.
·أظهر لهم محبة غير مشروطة عندما يكونون تحت سن الخامسة.
·منذ لحظة ميلادهم، افترض أن قدراتهم لا حدود لها.
·ضع الاستمتاع بالأنشطة كأولوية بدلاً من المنافسة لتحقيق النجاح.
·كن هادئاً بشأن كونهم استثنائيين عندما تحتفل إذا حدث ذلك بالفعل.
·سيكونون استثنائيين لأنك تملك معايير مرتفعة، ولكن هم في حاجة لاتخاذ تلك المعايير باختيارهم.
ما لا تفعله!
·لا تُكرِههم على فعل الأنشطة عندما يكونون في سن صغيرة، قم بعكس ما تنصحك به كتب تعليم الأطفال في سن مبكرة.
·كن على دراية بشأن "الحماقات الصغيرة" للأطفال، ولا تفترض أنها نابعة من سوء النية قبل أن يتمكنوا من إدراكها.
·لا أنظمة صارمة! فالعقاب وجعل الطفل يشعر وكأنه شخص سيئ يسحق الخيال والتحفيز الذاتي الذي يكمن وراء إنجازات تستلزم السلامة العاطفية.
·لا تفرض معاييرك للكمال، بالرد مثلاً على عبارة "حصلتُ على 98٪ في الرياضيات" بأن تقول: "ماذا حدث لـ2% باقية؟".
·لا تفرض على طفلك الطموحات التي لم تحققها بنفسك، واسمح له باختيار المجال الذي يتفوق فيه.
ساحة النقاش