authentication required

الرئيسية مقالات اليوم

الانتقام غير وارد

Share on print محمد يوسف عدس 23 يوليو 2012 06:05 PM

من الحقائق المرعبة فى هذا العالم، الذى نعيش فيه أن أناسًا مثلنا- بدون ذنب ولا جريمة- يقضون فترات طويلة من حياتهم فى السجون، قد تستغرق العمر كله، تصنّفهم منظمات حقوق الإنسان عادة مع سجناء الرأى، ولو تعمّقت قليلا فى تحرّى الأمر، لوجدت أن من هؤلاء أناس لم يعبّروا حتى بكلمةٍ عما يدور فى أفئدتهم؛ إذ يكفى فى أى منظومة قمعية أن يُتَّهم شخص ما بانتمائه إلى جماعة بعينها، أو أنه يواظب على صلاة الفجر جماعة فى المسجد، لكى يُحاكم بتهمة ملفقة، وبقانون استشنائى مثل قانون الطوارئ، وأمام محاكم عسكرية.. أو يودع فى السجن بلا اتهامات وبلا محاكمات..

عرفنا من أمثال هؤلاء رجالا حملتهم شعوبهم على الأكتاف من السجن إلى رئاسة الدولة؛ لعل من أشهرهم نلسون مانديلا، وعلى عزت بيجوفيتش والدكتور محمد مرسى.. والعجيب فى الأمر أنهم جميعًا يشتركون فى خصائص وسمات إنسانية يندر أن تتوفر فى السياسيين، وهى أكثر نُدْرة فى رؤساء الدول بصفة خاصة.. من أبرز هذه السمات: أن السلطة لا تغريهم بشهوة الثأر أوالانتقام لأنفسهم من ظالميهم..

وقد لفت نظرى إلى هذه الحقيقة تعليق الرئيس محمد مرسى، أثناء تقديم كبار ضباط الداخلية إليه، فى حفلة تخريج دفعة جديدة من كلية الشرطة.. قُدّم إليه أحد اللواءات فقال مبتسمًا: أعرفه وأعرف اللواء الذى يقف بجواره فقد كانا على رأس الحملة، التى أخذتنى إلى السجن آخر مرة...! واضح أن الرجل -رغم أنه أصبح فى مركز يسمح له بالانتقام- إلا أنه قد عفا عنهما فى قرارة نفسه، ولو كان أحد غيره فى موقفه لكان أول شيء يفعله هو الانتقام. 

جَرِّبْ أن تذكر هذه الواقعة أمام أحد من أصحاب العاهات الفكرية فى السياسة والإعلام عندنا، فسيقول لك ساخرًا: "إنها مجرد سياسية، حتى يتمكن الرجل ثم ينتقم أشد انتقام..!"، والسبب أن هؤلاء لا يفهمون السياسة إلا باعتبارها مصالح وانتهازية، لا أخلاق فيها ولا رادع من دين أو ضمير، ولا يستطيعون أن يتصوروا، ولا أن يتوقّعوا من الآخرين غير ذلك..

خلال الحكم الشيوعى فى يوغوسلافيا كان المفكر الإسلامى الكبير على عزت بيجوفيتش من سجناء الرأى لفترات طويلة، استغرقت معظم سنوات شبابه وشطرا من كهولته وشيخوخته، وقد استغرقت آخر فترة له فى السجن ست سنوات، يصفها فى مذكّراته بأنها: سنوات من العمر القصير أصلاً، أكلها الجراد، فأصبحت عدمًا..! 

وعندما حصل على حريته وانتصر على الشيوعيين فى انتخابات الرئاسة سنة 1990 كانت أكثر الأسئلة، التى وُجهت إليه من قِبل الصحافة والإعلام تدور حول فكرة واحدة هى: هل تعتزم الآن الانتقام من الشيوعيين الذين فعلوا بك وبزملائك ما فعلوا..؟.. وكانت إجابته دائمًا: "لا انتقام الآن ولا بعد الآن..!".. وبالفعل فإن كل الذين كان لهم دور فى محاكمته وسجنه لم ينلهم فى عهده أى أذى، بل احتفظوا بوظائفهم.. يقول بيجوفيتش: "لقد عفوت عنهم بحكم موقعى ومسئوليتى فى السلطة، ولكنى كإنسان لم أستطع أن أغفر لهم فى أعماق نفسى ذلك الظلم الذى لحق بى وبزملائى بلا ذنب أو جريرة...!"

هو إذن نوع من الرجال، وهبه الله القدرة على أن يقهر شعوره بالظلم الذى وقع عليه، وأن يكبح جماح غضبه، حتى لا تضطرب موازين العدل فى يديه، وحتى يتمكن من تحقيق مسئوليته فى توفير الأمن والطمأنينة لجميع المواطنين، سواء فى ذلك الذين ناصروه ورفعوه إلى مقعد الرئاسة، أو الذين ناصبوه العداء وشاركوا فى ظلمه.. 

وحين صرح محمد مرسى بأن جميع المواطنين متساوون فى حقوقهم عليه، لأنه أصبح مسئولا عن الجميع، كان يتابع المثل الأعلى الذى سبقه به على عزت بيجوفيتش، حتى يطمئن الناس، ويتفرّغ الجميع للتعاون المثمر فى تحقيق طموحات الشعب، التى ثار من أجلها..

لقد منع بيجوفيتش تعليق صوره فى الإدارات الحكومية، ومنع تهانى المنافقين للرئيس فى كل مناسبة وبغير مناسبة، وكان هذا تقليدًا سائدًا فى النظام الشيوعى بالجمهوريات اليوغوسلافية، أبطله بيجوفيتش وتابعه فيه محمد مرسى.

وكان بيجوفيتش متواضعا زاهدًا فلم يسكن القصر الجمهورى، ولم يقبل أن يتميز بطعام مخصوص كرئيس للدولة، بل ظل مقيمًا مع الأسرة فى مسكنه السابق، وكان طوال فترة الحرب يأكل مع جيرانه من نفس الطعام.. وعندما سُئِلت ابنته "سابينا": ماذا كان يفعل الرئيس أثناء الغارات الصربية على سراييفو..؟ أجابت: كان يقف ليشرف على نزول جميع الأسر إلى ملجأ فى أسفل العمارة، فإذا اطمأن إلى هذا، عاد إلى مكتبه فيجلس ليقرأ القرآن على ضوء شمعة خافتة، حتى تنتهى الغارة. 

أحسب أن محمد مرسى بإصراره على الاستمرار فى مسكنه السابق مع أسرته وجيرانه، وحرصه على أداء صلاة الجماعة فى المسجد مع الناس كعادته، إنما يتبع نموذج بيجوفيتش فى التواضع والزهد والتقوى..

كانت الحرب الصربية على البوسنة حرب إبادة جماعية للمسلمين، تحت شعار: "التطهير العرقى"، حدث هذا بتواطؤ من روسيا وبريطانيا ودول أوروبية أخرى، ولكن يشاء الله أن يصمد المسلمون سنوات، فلما تمكنوا فى النهاية من صدّ العدوان بدأوا يحررون الأرض من الاحتلال الصربى.. وكان أخوف ما يخافه الأوروبيون أن ينتقم المسلمون من الصرب بنفس الأساليب الإجرامية، التى مارسوها..

 حيث كان الصرب يجمعون المسلمين العزل فى طوابير يكتّفونهم ثم يطلقون عليهم الرصاص ثم يقذفون بهم فى مقابر جماعية ثم يهيلون عليهم التراب، لا تمييز بين من مات وبين من لا يزال حيًا، كما حدث فى مجزرة سربرينتشا الشهيرة.. أما حرق الزروع وحرق البيوت وتدمير المساجد واغتصاب النساء وقتل الأطفال، فقد كان عملا يوميا يمارسه الصرب بوحشية منقطعة النظير..

 فلما دارت عليهم الدائرة.. خرج على عزت ينصح جنوده ويشدد عليهم.. قال: "إنكم تحاربون باسم الله، لا للثأر ولا الانتقام، وإنما لاسترداد أرضكم المغتصبة وحريتكم المسلوبة، فإياكم أن تقتلوا غير محاربٍ مسلح.. إياكم وقتل المسالمين.. لا تمسّوا الأطفال أوالنساء أوالشيوخ بسوء.. دور العبادة مصونة فلا تعتدوا على كنيسة.. و لا تحرقوا الزرع ولا البيوت ولا تقتلوا الحيوان..." 

الأتقياء من عباد الله فقط هم الذين يقاتلون لكبح الظلم، وإقرار العدل، ولا يلجأون أبدا إلى الانتقام لأنفسهم.. فهم أقرب إلى العفو والتسامح فى حقوقهم الشخصية.. وقد حاول الرئيس محمد مرسى أن يوصّل هذه الرسالة إلى رجال الأمن الذين أسرفوا على أنفسهم فى ظلم جماعته، وأكثروا فيهم القتل والتعذيب ومصادرة الأموال والممتلكات.. أراد أن يؤكد لهم أن الإخوان لن ينتقموا من أحد، حتى يزيل الوهم الذى يعشش فى عقولهم، فيتترّسون بعدائهم القديم، ويظلّون أسرى فى خدمة أصحاب المصالح الأنانية، وهم قلة حصرهم محمد مرسى فى بضع مئات من الأسر التى نهبت ثروة مصر واستأثرت بخيراتها دون بقية خلق الله.. 

آفة هؤلاء أنهم لا يصدقون أنه يوجد بشر على ظهر الأرض من هذا النوع الذى يمكن أن يعفو ويصفح، ويمدّ يده لخصومه، لفتح صفحة جديدة من التعاون على البر والتقوى.. لقد أُشرب رجال أمن الدولة من مدرّبيهم الأمريكيين كراهية الإسلام والإسلاميين.. قالوا لهم: "إن الإسلاميين هم أعداؤكم، فاستأصلوهم، ولا تسمحوا لهم بالوصول إلى السلطة، وإلا انتقموا منكم شر انتقام.. إن عقيدتهم القرآنية تقول لهم: {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم...} فهم إرهابيون بمنطوق القرآن، وأنتم فى نظرهم أعداء الله وأعداؤهم.. فإذا تمكنوا منكم كان انتقامهم مروّعًا..."

 ليس هذا كلام كتب، ولكنى سمعته بنفسى من أحد جيرانى كان ضابطًا مهمًا فى أمن الدولة ثم محقّقا مرموقًا فى قلعة أمن الدولة بمدينة نصر، درّبه الأمريكان ليدرب ضباطًا آخرين، وعلى هذا الكلام شاهد محترم هو المستشار (ن.خ) كان نائبًا لرئيس المحكمة الدستورية، وعمّه شيخ الأزهر الأسبق.. 

تعرّض على عزت بيجوفيتش لكثير من الغدر والجحود والافتراءات، ولكنه صمد على مبادئه بروح المجاهد المؤمن، حتى أن أعداءه أنفسهم كانوا يُدهشون، ويحسدونه، على التزامه الأخلاقى فى أحلك الظروف وأقساها.. وأعتقد أن محمد مرسى من هذا الطراز من البشر الموعود بالنصر فى النهاية، كما انتصر بيجوفيتش.. وأظن أن كل هذه الاعتبارات وهذه الخصائص والسمات كانت حاضرة فى ذهن "رجب طيّب أُرْدُغان"، وهو ينصح شباب المسلمين أن يقتدوا بالرئيس محمد مرسى، فأردوغان لا يطلق الأحكام جزافا، وليس بالغِرِّ الذى ينخدع بالمظاهر، وإنما هو رجل دولة حكيم، وخبير بمعادن الرجال.. ولا يقول إلا ما يؤمن به..

أوْجُه الشبه كثيرة بين الرئيسين بيجوفيتش ومرسى.. والاتهامات التى وُجِّهت إليهما واحدة: فكلاهما أتُّهم بأنه عدو للدولة المدنية الديمقراطية، وأنه يسعى لإقامة دولة دينية إسلامية؛ ولطالما أكّد بيجوفيتش "أن البوسنة والهرسك جمهورية مدنية ديمقراطية وليست دينية.. وحول هذا الهدف ندعو إخوتنا من الصرب والكروات أن يشتركوا معنا فى بناء هذه الجمهورية..." ولكن لم يصدقه خصومه السياسيون، وظلوا يطلقون حوله الشائعات والافتراءات.. كما يفعل خصوم محمد مرسى الآن فى مصر.. ولقد حكم بيجوفيتش البوسنة ولايتين فلم يُقِمْ دولة دينية.. كما زعم المبطلون.. كذلك قالوا إنه سيكمّم الأفواه ويحظر على حرية العقيدة وحرية التعبير ويمنع الإبداع الفنى.. وعلى العكس من ذلك تمامًا- ازدهرت الحرية فى كل هذه المجالات فى عهده... قال فى تصريح له: 

"بعد الذى أصابنى من جراء قوانين الرقابة لا يمكننى أن أكون مساندًا لمنع الصحافة من حرية الكلام.. وليس هذا مجرد التزام بمبدأ فحسب، ولكنه أيضاً مسألة(براجماتية)؛ فإنى أعتقد أن التحريم والقهر يفشلان بالضرورة عندما يتصل الأمر بالعقيدة، حيث المجال هنا للإقناع والاقتناع.. تذكّروا أن القرآن نفسه قد أثبت هذه الحقيقة بأروع بيان وأوْجَزِه، فى آية واحدة حاسمة: {لا إِكْرَاهَ فِى الدِّين}؛ فإذا طبقنا الآية فى مجال أوسع واعتبرنا الإيمان هو كل ما يعتقد فيه الإنسان من أفكار، لتبين لنا أن الإكراه لا يجدى ولا يثمر فى أى عقيدة دينية كانت أو سياسية..."

وتلك هى رؤية محمد مرسى ونفس مواقفه، لولا أن خصومه وشانئيه قد أغلقوا عقولهم فعموا وصمّوا، وأطلقوا وسائل إعلامهم تواصل النباح ليل نهار، رافعة الفزاعات، تخيف بها الناس من الإسلام ومن نوايا الإسلاميين الخفية...! ولسوف يخذلهم الشعب فى نهاية المطاف، وسينتصر الحق على يدى الرئيس محمد مرسى، "وسيعلم الذين ظلموا أى مُنْقَلَبٍ ينقلبون"...!

 

abdosanad

الاختيار قطعة من العقل

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 201 مشاهدة
نشرت فى 24 يوليو 2012 بواسطة abdosanad

ساحة النقاش

عبدالستار عبدالعزيزسند

abdosanad
موقع اسلامي منوع »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

313,769